بطبيعتي لااستطيع ان اجلس بدون عمل او دخل، لأن جبل الكحل تنهيه المراود كما يقول اخواننا السودانيين.. بعد إلغاء شراكتي بدأتُ أبحث عن أعمال أخرى، وفرص بسيطة تعينني على المصاريف..
تعرفت على اثنين من الاصدقاء الصعايدة في المسجد، كانوا من اسيوط ويعملون في مقاولات البناء، اجدع ناس، بدأتُ آخذ منهم شقق وبعدها تطور الامر إلى شراء أسهم في عقارات قبل الانشاء، وصولاً إلى الشراكة بالنصف، والحمدلله الامور سارت ببطء وصمت تام لأني لست في الصورة رسمياً، وتوفقنا في اربعة أبراج خلال 3 سنوات، كلها بيعت قبل ان يستكمل البناء، بسبب السمعة الحسنة التي كان يتمتع بها أحد الشركاء وهو الواجهة الذي كان في الصورة رسمياً، ولأنه كان ينتهج البيع والشراء السمح..
اتجهتُ للعمل الآخر في إطار الشقق المفروشة وأخذتُ نصف برج في حي فيصل 12 شقة وأثثتها على أكمل وجه وبدأنا بالعمل منتصف العام 2019 وكانت الامور جيدة إلى ان جاءت كورونا وأغلقت المطار وتوقف كل شيء، وعندما رأيت ان بقاءها يشكل عبئاً عليّ بلا فائدة بعد مرور خمسة اشهر تقريباً بعتها كاملة لأحد المصريين الذي يعمل في السعودية والحمدلله..
سبق لي اواخر العام 2017 ان اتجهتُ لإنشاء شركة خاصة بالمعدات الزراعية المستخدمة من اوروبا، والحمدلله كانت تجربة ممتازة أوقفتها مؤقتاً بعد قرار الهجرة والاستقرار في بلجيكا، ولي معها قصة طريفة، كيف جاءتني فكرتها، وكيف خضت غمارها، ونجوت من شخص كان يضمر أن ينصب عليّ، لكن الله جل وعلا نجاني منه بأتفه الأسباب.
ذهبتُ لأداء واجب وحضور عرس لصديقي في اسيوط، وهناك مكثت خمسة أيام، تعرفتُ على هذه المدينة الجميلة وريفها الاجمل وناسها الطيبين وعاداتهم الرائعة، وبينما نحن في جلساتهم المعتادة في دوار العمدة سمعتهم يتحدثون عن الجرارات القديمة التي يشترونها من محلات متخصصة بدأت آنذاك 2017 تستوردها من اوروبا..
سمعتُ مفاضلتهم بين الروماني والايطالي والروسي، سمعت الاسعار والموديلات، وكنت اركز معهم كثيرا في هذه التفاصيل، وحرصتُ على السؤال والتعمق اكثر في هذا المجال لاسيما وقد رأيت تسابقهم المحموم لشرائها، خصوصاً بعد ارتفاع قيمة الاراضي هناك، مما جعل الفلاح يبيع قيراطين او ثلاثة ويشتري جرار خاص به..
رجعت القاهرة وبحثت في النت، واتصلت بصديقي المهندس المصري الذي يعمل في وزارة الزراعة كي اعرف معلوماته عن الجرارات، وقلت له اني ناوي اجيب جرارات بس عايز آخذ فكرة اكثر عن الحاجات المطلوبة في السوق المصرية، تواعدنا للقاء، ثم جاءني في الموعد ومعه آخر قال انه يفكر في ذات الأمر وانه بدأ بخطوات عملية وراسل بعض العاملين في هذا المجال في رومانيا، فقلتُ عز الطلب لأن الجرارات الرومانية هي المفضلة لدى الفلاحين، ولها مميزات افضل من غيرها..
اتصلت برومانيا وتحدثتُ مع اكثر من مورد هناك وعلمت أسعارها وكانت لابأس مقارنة بالاسعار التي ذكروها في اسيوط..
احد الاخوة المصريين الذي تعرفت عليه عبر صديق المهندس وهم كبير في السن ينادونه العم هاني، يعيش في كونستانتا، المدينة التجارية والميناء في رومانيا، اعطاني رقم صديقه المخلص الجمركي في مدينة دمياط، حيث الميناء هنا في مصر، سألته عن الجمارك ومتطلبات الاستيراد، فأعطاني شرح وتفاصيل كافية ومملة عن كيفية جمارك المعدات الأوروبية المستخدمة، وبعض الطرق القانونية الملتوية لإدخالها بجمارك بسيطة جدا..
قررتُ المغامرة وبدء تجربة جديدة في مجال استيراد المعدات الاوروبية لمصر، وتوكلت على الله.. تواصلتُ مع اول تاجر صادفني وتحدثت معه طويلاً وناقشنا كل الأمور، وهو يحاول ان يكسبني للعمل معاً..
قلت له سأجرب اول شحنة بخمسة عشر الف دولار، فقال ممتاز وانا ارسلها لك واكلف من يصرفها ويعطيك ارباحك، واعتبرها هدية مني ولااريد اي فائدة..!!
حولت المبلغ وشحن البضاعة واستلمناها وجاءني شخص مرسل منه وقال انه قد باعها عن طريق الصور التي ارسلها له معوض، وهو اسم رجل الاعمال اللبناني في رومانيا، وأعطاني 28 الف دولار، أي ان الربح تقريبا 90%..نسبة مغرية جداً..
بعد هذه النسبة لم يكن لديّ اي خيار آخر غير مواصلة العمل في هذا المنجم من الذهب، او هكذا تصورته..
ذهبت بالتنسيق مع صديقي وشريكي المستقبلي، معوض الذي ارسل لي الدعوة إلى رومانيا بوخارست، استقبلني في المطار، وهو يقيم هناك منذ فترة طويلة، ويعمل في هذا المجال لاكثر من 10 سنوات كما اخبرني سابقاً، زرنا في اليوم الأول اكثر من 4 مدن وقرى صغيرة كي يقنعني بتوفر الجرارات المستخدمة وخبرته الطويلة فيها، ومعرفته بأصحابها وخباياها، كان يتحدث معهم بلغتهم وانا لاافهم، كان كريماً حد البذخ ويصرف صرف من لايخشى الفقر، كنا نسكن في فنادق خمسة نجوم وندخل أرقى المطاعم، ونزور المزارات السياحية والترفيهية، وكل هذه الصرفيات من جيبه الخاص وحلف يمين ان هذه الزيارة كلها على حسابه، والا اخسر دولار واحد..!!
لعب الفار في عبي كما يقال، بل وأكل جزء منه، فهذه ليست تصرفات وصرفيات تاجر..!!
كان حريص جداً ألا التقي بأحد غيره، لايفارقني الا للنوم، ولايتركني أخرج بمفردي، واذا تركني يتصل بعد ربع ساعة يسأل عن حالي وكأنه يطمئن هل خرجت ام لا..
مرضت زوجته التي كانت في مدينة أخرى غير بوخارست وادخلها المستشفى وهي حامل في شهرها السابع، كانت حالتها خطرة، استمرت ثلاثة ايام ثم ولدت ولداً ميت، اتصل بي منذ اليوم الأول واعتذر انه لايستطيع ان يأتي بسبب مرض زوجته، وحرص على تحذيري ألا أخرج نهائياً لأن الرومانيين لايحبون العرب كثيراً كما كان يخوفني، وانهم ربما يعتدون عليّ كي يسرقوني، وهذا الكلام كله كذب، شعب رومانيا من اطيب الشعوب الأوروبية ويتعايش مع الوافدين بطريقة غير طبيعية، بل يرحب بالعرب تحديداً لانه يعتقد ان العرب كلهم خليجيين ومعهم فلوس ويأتون للاستثمار او للعربدة ودفع الفلوس على شهواتهم وملذاتهم، وبالتالي فهو سائح يدخل عملة صعبة للبلد..
طمنته اني لن أخرج، واذا احتجت اي شيء سأطلب من الفندق، وانتهزتها فرصة وخرجت بعد ان نسقت هاتفياً مع بعض الشباب في كونستانتا، ودلوني ماذا اركب في خطوط المترو، وكيف اصل الى محطة القطار، ومنها سافرتُ إلى الميناء الرئيسي كونستانتا وهناك التقيت بالعديد من اليمنيين والمصريين الذين كنتُ على اتصال بهم من مصر، حكيت لهم اني نسقت مع احد التجار في بوخارست وقد اشترينا عدد كبير من الجرارات ومعه 30 الف دولار وبعد يومين سيتم تحويل 20 الف دولار من مصر..
عم هاني الذي ذكرته سابقاً كان مصري كبير في السن، يقيم في هذه المدينة منذ 35 عاماً، يحب كل من يأتي من مصر ويستأنس بهم، عزمني على الغداء في مطعم جميل لصديقه؛ الشيف اللبناني، وبينما نحن على المائدة جاء الشيف وتعارفنا، ولهجته قريبة جداً من لهجة صديقي معوض..
تعرفت عليه وعرفته بنفسي واني شريك لواحد لبناني في بوخارست.. سألني عن اسمه فقلت له معوض، شعرتُ بعدم ارتياحه وتلعثمه، بل وارتباكه، لكنه قال انه لايعرفه.. تغدينا وخرجنا من عنده، وبعد نصف ساعة تقريبا، وبينما كنا نشرب الشاي بالقرب من الميناء اتصل اللبناني صاحب المطعم للعم هاني، وسأله عن قرابتي به فقال انه مجرد صديق عزيز فقط، وانه من مصر وانا من اليمن، ولاقرابة بيننا، وانتهي الاتصال..
سألت العم هاني عن المتصل لأني سمعته يتكلم عني فقال انه صاحب المطعم اللبناني يسأل عن صلة القرابة بيننا، قلت وايش قال كمان، فقال ولاحاجة، تكلمنا في موضوع تاني وبس..
قلتُ له أريد ان اذهب إليه قال ليه، قلت له احس ان عنده كلام يريد ان يقوله لي، فاتصل به وسأله ليه بتسأل عن صاحبي اليمني، قال كنت اظن انه قريبك، قال العم هاني بصوت مرتفع وباللهجة المصرية: ده أكتر من أريبي، فيه ايه، وغوشتني.. يعني ربشتني، فقال اللبناني لو تقدروا تجوا لعندي تعالوا..
ذهبنا له مباشرة في شارع بوليفاردتوميس، وعندما وصلنا سألني بلهجته اللبنانية: من وين بتعرفه لمعوض..؟
قلت له من الانترنت، وقد اشتغلت معه صفقة تجربة ونجحت، وهو من ارسل لي الدعوة، قال هاي اول مرة تزور رومانيا، قلت له الثانية، الأولى عملها لي صديق مصري وهذي الثانية..
وعندما تحدثنا في التفاصيل والمبالغ قال لي انه كان صديق معوض منذ 20 عاماً وانهم جاؤوا إلى رومانيا مع بعض ومعهم صديق ثالث ممكن يعطيني رقمه أسأله عن معوض، وشرح لي انهم فارقوه بعد سنتين فقط من العمل المشترك لأسباب مالية وان سمعته السيئة معروفة جداً وانه قد نصب على الكثير من الضحايا من مختلف الجنسيات العربية تحديداً، وأعطاني بعض الارقام للبنانيين وعرب آخرين من ضحايا معوض..
قلت له كنت أحتاج تأكيد شكوكي فقط وقد أكدتها ياعزيزي فلك الشكر..
اوصلني العم هاني إلى محطة القطار وعدت إلى بوخارست، فيما كان معوض يتابعني كل ساعة تقريباً ليعرف اذا ماكنت احتاج شيء، والحقيقة ليعرف من عندي او اين خرجت..!!
وصلت الفندق في بوخارست واتصلتُ بسعادة السفير الدكتور عارف الإرياني رعاه الله الذي زارني اليوم التالي مشكوراً، وأخذني في جولة تعريفية على مدينة بوخارست الجميلة؛ ختمناها بالغداء في مطعم تركي رائع جداً، وشرحتُ له ماذا حصل مع صاحبي لعلي استأنس برأيه، أخذني لمحامية رومانية وتحدثت معها عن إمكانية تأسيس شركة خاصة في بوخارست، واتفقنا على عدة نقاط تابعناها لاحقاً..
فكرت كيف أعمل بهذا النصاب وقد دفعتُ له ثلاثين الف دولار.. اوقفتُ التحويل القادم من القاهرة، وقلت له ان البنك رفض توقيع ابني كمخول بالصرف او التحويل إلا لالفين دولار فقط، وانا اول ماأوصل مصر سأحول المبلغ مباشرة..
استطعتُ ان اجعله يشتري بضاعة بمئة الف دولار، والحقيقة كانت اقل من ذلك بكثير، حيث اكتشفت فيما بعد ان البضاعة كلها كانت بخمسين الف دولار فقط، وانه كان قد أدخل نفسه شريك في النصف من رأس المال بواقع خمسين ألف دولار نصب، وسيبحث عن أرباح أيضاً..!!
وصلت البضاعة مصر وتم تثمينها للبيع مع الأرباح بتسعين الف دولار، كان يصيح ويهدد فتركته لصديقه الذي عرفني عليه وقلت له ان قيمة البضاعة 52 الف دولار وبيعت بتسعين الف، وانا دافع ثلاثين الف وهو 22 الف، وبالتالي يتم تقاسم الارباح وفق هذه النسبة..
وبعد صراخ وصياح ومحاولات عدة منه لنيل مبلغ اكبر، رضخ للامر الواقع واقتنع لكنه قال انه خسران في البضاعة السابقة اكثر من سبعة الف دولار، فقلت له هذه كانت عربون الخيانة، وقعت في شر اعمالك..
نلتقي غدا في الحلقة القادمة