عند خروج الشباب في 11 فبراير 2011 بأعداد بسيطة قمتُ ببناء شبابيك مكتبي امام فندق سام مباشرة، الأمر الذي ازعج القيادة العامة للقوات المسلحة القريبة مني، حيث جاءني ضابط كبير برتبة عميد وشنب يجر قاطرة كما يقال، لازلت أذكره بملامحه الغاضبة إلى اليوم، وكان معه عدد من المرافقين.. دخل بعنجهية لم أعهدها من قبل، وبدون سلام ولا كلام قال معك نص ساعة، تشيل كل هذا البلك وترجع الطيقان زيما كانين، مالم عنشلك القيادة نتفاهم معك، امن الوطن مش لعبة ولافيه حرية.. لم يعطني أي فرصة للكلام وقال هذا امر وبعد نص ساعة شارجع لك..
كانت هذه إشارة لي بأن القادم أسوأ وانهم لن يسمحوا بتكرار ماحصل في مصر.. لم اتصل بأحد ولم أفكر في شيء غير إزالة ذلك البناء المستحدث قبل ان يعود ابو شنب ..
ذهبتُ إلى ساحة التغيير بعد اتصال هاتفي من الدكتورة ابتسام المتوكل التي كانت تدير حوار سياسي يومي على المنصة، وكانت كل يوم تستضيف شخصية تختارها طبقاً لمعاييرها الخاصة كصاحبة الفكرة ومقدمتها.. صادف ان ذلك اليوم كان اول نقل مباشر لقناتي الجزيرة وسهيل من ساحة التغيير بصنعاء..
قلت كلام كثير في ذلك اللقاء ومن ضمنها التحذير من سرقة الاحزاب لثورة الشباب وإعادة انتاج نظام أفسد من السابق، وبالتالي سيقول الناس رحم الله النظام السابق، وتحدثتُ كثيراً عن المآسي التي كانت تحدث لليمنيين وجوازاتهم في مطارات العالم بفعل التصنيف العالمي لليمني آنذاك، إما انك فقير تريد ان تدخل أي بلد للبقاء فيها والعمل، وإما انك إرهابي مفترض، لافرق في ذلك بين الجواز الاحمر او الأزرق، فالهوية جامعة..!!
كانت تلك أول وآخر زيارة لي للساحة، ولم أحضر أي فعالياتهم سواء هناك او جُمع الستين، لأني رأيت ان الامور بدأت تتجه اتجاهاً آخر، سيطرة الحزبية الضيقة على المنصة كانت واضحة، وحينها اصطدمتُ بهم وحاولوا عرقلة استضافتي لأنهم كانوا يعتقدون ان المنصة هي وسيلة تقديم الوجوه والترويج لها كقيادات الثورة فيما بعد، ويجب ان يتم اختيارهم بعناية فائقة، ووفق توجيهات محددة، إلا أن الدكتورة ابتسام أصرت على ذلك، وبدأت برنامجها متأخرة عن الموعد اليومي بساعة تقريباً..
كنت ألمح واقعا مختلفا عما خرج الشباب من أجله، عبرتُ عنه في مقال كتبته آنذاك بعنوان (المشترك لايستطيع قيادة مستقبل اليمن)..
بعد وجود عدد من الشباب مخزنين بجوار بيتي لثلاثة أيام متتالية، ومعهم صمول مكتوب على رأسها الضخم الحوار أولاً، شعرت بنوع من الخوف عليّ وعلى أولادي، فالعقد بدأ ينفرط وكثر المتجملون، وأصبح كل شخص من القيادات والوجاهات يتخذ قراره بنفسه، بعيداً عن الدولة وأجهزتها؛ بعدها غادرتُ صنعاء مع أسرتي بعد جمعة الكرامة بفترة ليست طويلة، توجهت إلى القاهرة على أمل ان تنتهي الأمور بسرعة ويتدخل الإقليم لعمل مبادرة او تسوية توقف تدهور الاوضاع الأمنية التي كانت تتدهور آنذاك بشكل كبير، والخوف من وصولنا إلى حرب أهلية لاقدر الله..
مرّ الشهرين الأولين ولازلتُ صامد رغم اني لادخل مالي لي لتغطية نفقاتي وايجارات السكن وتوابعه من فواتير الخدمات العامة، كنت مستأجر من احد الأصدقاء الذي كنت اعتبره أخ وقريب لي، أجّر لي الشقة وقال انها لعجوز مصرية وهو فاعل خير معي فقط، وكان يرفع عليّ الإيجار في الصيف، وعندما اقول له حاول تخليها تراعيني، ظروفي صعبة، يقول والله مارضيت، هي هرمة، ثم يخلي إحدى موظفاته تتصل بي وتصيح وتجيب كلام سيء وتهدد انه إذا مش قادر ادفع حترسل ناس يخرجوني من الشقة ويرموا بعفشي للشارع..
اكتشفتُ ان الشقة له من أكثر من مصدر، ولم أجرؤ إلى اليوم ان أعاتبه، ربما لأني أرى ان عتاب مثل هذه الكائنات إضاعة وقت، وجهد مهدور لاطائل منه..
كنت حينها مراسل لقناة المجد الفضائية من صنعاء، وعندما طالت فترة بقائي بالقاهرة اعتذر الزملاء في مركز الأخبار وطلبوا مني ترشيح مراسل آخر من صنعاء.. رشحتُ شاب كان يعمل معي في الصحيفة، كانت ظروفه سيئة وكان يحاول ان يحسن دخله من كل الاتجاهات، كعادة اليمنيين، لكن احد اخواننا في الله، اتصل بالقناة وقال لهم ان المراسل الذي اخترته لهم حوثي فاستغنوا عنه مباشرة، وطلبوا مني ترشيح آخر..
تأزمت حالتي المادية جداً تلك الأيام فاقترح مدير مركز الاخبار بقناة المجد عمار حامد وهو زميلي في صحيفة الوحدة بأبوظبي عام 2000 ان اظهر معهم مباشرة من القناة كمحلل في الشأن اليمني، على ان يحسب لي مبلغ مالي بسيط يضمن لي الحد الادنى من المصاريف التي تعينني على البقاء هناك إلى ان يفرجها ارحم الراحمين..
كنتُ أفرح حينما تتصل بي القنوات الفضائية التي كنت أطلع فيها آنذاك لاسيما العربية والحدث والعالم لأنهم كانوا يصرفون لي 150 دولار لكل مداخلة، كانت تعطيني متنفس مالي لأعيش انا وأطفالي بشكل أفضل..
عندما بدأت القنوات تعرفني وتستضيفني بشكل دائم، وصلت في بعض الايام إلى خمسة لقاءات وربما أكثر عندما يحصل مستجد في صنعاء، او معركة حصل فيها قتل وتدمير كإحراق ساحة تعز مثلاً، كنتُ أتمنى ألا تتوقف الأحداث، بل أسعد بالتصعيد والقتل أكثر كي تكثر الاستضافات وأكسب 500 او الف دولار فقط، وتحت ضغط الحاجة وفي إطار الصراع على البقاء منتصب القامة دون اللجوء لأحد؛ تحولتُ حينها إلى تاجر حرب صغير غبي لايفكر إلا في كيفية بقائه وأسرته حتى على حساب الدماء والدمار..
الآن أقيس وضعي آنذاك وانا المحتاج لأجل البقاء انا وأسرتي مع تلك المبالغ التي لاتصل إلى الف دولار، كيف كنتُ أفكر في التصعيد أكثر كي استفيد انا، فما بالكم بتجار الحروب اليوم، السياسيين والعسكريين والمشائخ والأعيان ضمن أطراف الصراع في الرياض وابوظبي وصنعاء وعدن وغيرها؛ الذين يكدسون الأرصدة بملايين الدولارات، هل يمكن ان يعملوا لإيقاف الحرب وحقن الدماء وعودة السلام إلى اليمن..!!
على ذكر محرقة تعز، أذكر اننا شكلنا فريق سياسي حقوقي إعلامي فيه عدد من البرلمانيين والسياسيين والشباب وذهبنا للجامعة العربية لمقابلة الأمين العام، انتظرنا في قاعة الانتظار بسبب ان عنده لقاء رسمي، كنتُ آنذاك كغيري من الشباب غير المتحزبين، صادقين في مشاعرنا، وكانت مشاعري جياشة يومها، تساءلتُ ماذا فعل المحافظ حمود خالد الصوفي، فقال لي الاخ الصديق توفيق عبدالرحيم انه اتصل به الى المانيا لكنه انكر معرفته بشئ..
طلبت منه يتصل فيه وانا سأكلمه، وكان بجواري الاصدقاء البرلمانيين علي عشال وعلي المعمري وشوقي القاضي وفتحي توفيق عبدالرحيم، والزميل علي الصراري وغيرهم..
اتصلنا به وتحدثتُ معه بقسوة وحدة بالغة وهو يمتص غضبي بهدوء ويحاول ان يوصل لي فكرة الضغوط الواقعة عليه من كل الاتجاهات، لكني وبنزق الشباب وصدق المشاعر غير المسيسة طالبته بالاستقالة فوراً احتجاجا على تلك المحرقة، وقلت له بالحرف الواحد ان كرامتك اهينت مرتين بذلك الاعتداء، أهينت لانك من تعز وتم احراق شباب تعز، واهينت مرة اخرى لانك محافظ المحافظة، ولم يتم وضع اي اعتبار لك من قبل النظام الذي تتبعه، فرد عليّ بان معه بعض المتعلقات في تعز وبعد اسبوع بالكثير سنسمع أخبارا جيدة..
تعمدتُ رفع صوتي بوعده، وقلت له يعني بعد اسبوع انتظر مفاجأة سعيدة، فقال نعم.. في هذه اللحظة كان قد خرج لنا مدير مكتب الأمين العام للجامعة العربية يعتذر عن ان الامين العام لن يستطيع مقابلتنا، وقال نحن معكم بقلوبنا:، فرددت عليه بانفعال وشدة أحرجت السياسيين: لاتكفينا قلوبكم ونحن نحرق ونباد في الميادين، انتم جامعة ميتة بعتم ضمائركم للحكام.. ثم غادرنا
في اطار البحث عن مصدر مالي جيد يضمن لي العيش مستور تواصلتُ مع قناة سهيل وعرضتُ عليهم عمل برنامج حواري من القاهرة فرحبوا بذلك جدا، ولغبائي السياسي، واعتباري ان الثورة تجب ماقبلها استضفت في حلقته الأولى مندوب اليمن في الجامعة العربية الدكتور عبدالملك منصور الذي قدم استقالته آنذاك، وكنت أظن اني سأخدم البرنامج والقناة بهذه الشخصية التي ضحت بمنصب المندوب الدائم في الجامعة العربية، لكن الجماعة استلموا الحلقة وفوجئوا بضيفها، ولم يبثوها، بل وتجاهلوا رسائلي بعدها تماماً، وكنت غاضب جداً من هذا التجاهل، كنت اظن ان البرنامج لم يرق لهم، او ان اسلوبي لم يعجبهم لاسيما وانها المرة الأولى التي اعمل فيها مذيعاً..
وبينما انا اتحدث مع العزيز شوقي القاضي وأشكو له ماذا حصل، ضحك وقال وانت ماعرفت تستضيف إلا عبدالملك منصور..!!
صادف آنذاك زيارة رئيس مجلس إدارة قناة المجد الشيخ حمد الغماس للقاهرة وقدمتُ له مشروع عمل برنامج حواري اسبوعي لدورة برامجية كاملة بعنوان قضايا يمنية، وهو ذات البرنامج الذي رفضت بثه سهيل، فقال ماعندنا ميزانية لبرامج جديدة، قلت له لااريد منكم غير البث، وكنت متحمس لذلك كي ارد الصاع صاعين لقناة سهيل، فقال إذا كان كذلك أهلا وسهلا، ووجه ببث البرنامج اسبوعياً وان اكتب التزاماً بالوفاء به لدورة برامجية كاملة مجاناً..
كتبتُ الالتزام وذهبت للمغفور له بإذن الله الاستاذ حسن زيد وطرحت عليه الأمر، وطلبت منه ان نذهب للشيخ حسين الاحمر كي يرعى البرنامج ويتحمل التكاليف، قال بلهجته المتفائلة يتحمل ونص.. ذهبنا ووضعنا الامر على الشيخ حسين الذي سأل كم سيكلف، قلنا له 23 الف دولار، قال وانت لك ألفين.. حاضر.. ابدأ ولايهمك..
عملتُ ذلك البرنامج في استديوهات UNI بالقاهرة، وبقيت لي حدود 12 الف دولار، ولاقىٰ نجاحا رائعا من خلال نسبة المتابعة والمشاهدة والحمدلله تحسنت احوالي كثيراً بعده.. وغداً نكمل ان شاء الله