ودعتُ والدتي تحت ضغط اطفالي واخواتي الصغار؛ الذين لم يرو البحر ولم يسبق لهم زيارة عدن، وقلتُ لها سنذهب انا وعزيز والبنات والأولاد إلى عدن، ثلاثة أيام ونعود ان شاء الله، أجابتني بغمضة عينيها وهي مستلقية على ظهرها، وضغطت على يدي كأنها تودعني الوداع الأخير، وكانت حالتها قد تأخرت كثيراً واستسلمنا جميعاً بعد رحلة علاج طويلة في اليمن ومصر، لكنها بلا فائدة محققة، إذ لم يستطع الأطباء تشخيص حالتها ومعرفة مرضها رحمها الله..
بقي بجوارها اخي رياض وأسرته وبقية أخواتي.. كنتُ قلق عليها جداً وطيلة الطريق وأنا أفكر بها وأدعو الله ان يشفيها او يريحها من هذا المرض والعناء الذي زاد على الثلاث السنوات، وكنتُ عندما أفكر في تعلقها بي وخوفها عليّ أسأل الله ان يجعل يومها قبل يومي..
وصلنا عدن ثاني يوم العيد، تمشينا في عدن واستمتع الاطفال بالبحر ومسبح ميركيور، وفي اليوم الثالث 1 ديسمبر 2009 اتصل بي أخي رياض ليُخبرني ان امي تعبت زيادة وانه في مستشفى الثورة ومش راضيين يخرجوا سيارة إسعاف.. اتصلتُ بمدير المستشفى حينها الدكتور احمد قاسم العنسي، وزير الصحة فيما بعد، وأخبرته بالحالة الطارئة فاتصل مباشرة بقسم الاسعاف ووجّه بخروج السيارة لكن السائق رجم المفاتيح ومشى، قال انه كان في مشوار..
أخبرني رياض بما كان يدور في قسم الاسعاف وان توجيهات المدير لم تعمل شيء، قلت له أشر للسائق بأنك ستعطيه فلوس، وبالفعل لم يتحرك إلا وبيده 10 الف ريال، وعندما وصلوا إلى البيت، قال اخي الذي ركب جنب السائق انه فوجئ عندما فتح السيارة من الخلف انها أشبه بسيارة موتى وليست إسعاف، لافيها اوكسجين ولاأجهزة إسعاف ولاشيء يدل على انها سيارة مستشفى غير النقالة فقط..!!
حملوا والدتي رحمها الله على تلك النقالة البائسة؛ ولم يبتعدوا كيلو واحد من البيت، وكنت اتكلم مع رياض وهو بجوارها بالسيارة وفجأة يصيح ويقول أمي ماتت امي ماتت يااخي، وسمعت كريمتي أيضاً تصيح أماه أماه وتبكي.. شعرتُ بأن شعر رأسي وقف والدم تجمد في عروقي.. سلمت روحها إلى باريها، تشكو علي عبدالله صالح الذي لم يبنِ دولة تحترم أبناءها وتطببهم وتعرف معنى إسعاف وأجهزة الاسعاف، انتهت أيامها في هذه الدنيا، وارتاحت من ذلك التعب؛ الذي واجهته صابرة محتسبة لأكثر من ثلاث سنوات، رحمها الله رحمة واسعة وأسكنها فسيح جناته..
أظلمت الدنيا في وجهي وأغلق باب إلى الجنة كان مفتوحا لي بحياتها، وأحسست بكسر ظهري..
لملمتُ نفسي واستجمعتُ قواي وفكرتُ كيف سأستطيع أن اسوق السيارة إلى صنعاء، اتصلتُ بالأخ العزيز خالد الكينعي الذي كان مسئول الاعلام في طيران اليمنية وأخبرته بالظرف الذي أنا فيه وأريد ان اطلع صنعاء في أقرب رحلة، عزاني ثم قال سيرد لي خبر بعد قليل..
رن هاتفي بعد خمس دقائق تقريباً فإذا هو الكابتن عبدالخالق القاضي رعاه الله، رئيس طيران اليمنية آنذاك يعزيني ويقول اتحرك الآن على المطار وستجد فلان في انتظارك ومعاه التوجيهات..
توجهتُ للمطار وفي الطريق رن هاتفي مرة أخرى، رديت عليه فإذا هي تحويلة الرئاسة يطلبون رقم ارضي لأن الرئيس يريد ان يكلمني، قلت لهم انا في الطريق إلى المطار وليس لديّ ارضي.. وبعد أقل من دقيقة تقريبا رن الهاتف فإذا به الرئيس علي عبدالله صالح رحمه الله يعزيني ويسأل هل ستقبروها في صنعاء والا في القرية، قلت له في صنعاء، قال بكرة الصباح بكلف واحد يجيك للبيت واذا احتجت اي شيء كلمه..
كان هذا الشخص الذي كلفه الرئيس بإنابته في مراسم الدفن والعزاء هو الدكتور قاسم سلام رعاه الله، الذي له قصة طريفة مع العزاء، سأذكرها لاحقاً..
وصلتُ مطار عدن وسألت عن الشخص المعني فاستقبلني وهو مخزن وقالب صورته، وصوته مشحب من كثر الصياح، وعيونه حمر من كثر السهر، وكأنه مندوب فرزة بيجو مش موظف في مطار دولي.. وأعتقد انه كان مدير المحطة هناك..
كان الناس بدؤوا يعودون من عدن بعد إجازة العيد والمطار مزدحم جداً بالمسافرين.. أعطاني ورقة وقال سجل الأسماء، بدأت أسجل وهو يتابعني حتى وصلت إلى الاسم السادس وهو مسك الورقة وقال كم انتو.. قلت تسعة، قال ياجناناه، ماهو هذا من اين ادي لك طيارة.. رفعت صوتي اكبر من صوته وكانت حالتي صعبة، وقلت له انا ماجيت عندك ولاقلت لك تديلي طيارة من بيتكم، اتصل بالكابتن الذي وجهك واتفاهم معاه..
اتصل بالكابتن عبدالخالق القاضي وكان يحاول ان يقنعه ان يقسمنا ليومين، فأصر الكابتن رعاه الله أن نطلع كلنا في تلك الرحلة، وقال له ولو تطلعهم درجة أولى..
أغلق التلفون وقد عيونه بيتضاربين وأعطاني الورقة وقال كمل الاسماء يااخي؛ الله يلعنها شغلة..
أكملتُ كتابة الاسماء وسلمته الورقة، وقع عليها وقال روح ادفع قيمة التذاكر في الخزنة، قلت له مافيش معي فلوس، قال كان كيفه، قلت له اتصل بالكابتن، قال وكيف يعني، ماهووو.. قدو باين انه يوم دبور من الصبح.. قلت له بدون صياح ولاقلاب صور، اتصل بالكابتن وشوف ايش بيقلك، قال ناهي، اتفضلوا اجلسوا هاناك وشارجع لك..
اخذتُ مكاني في الصالة انا والاسرة والإخوان وبعد ربع ساعة تقريباً جاء إليّ وقد خفت حدته وتغيرت لهجته وقال عظم الله اجركم يااستاذ، الي مايعرفك يجهلك، انا آسف لكن قدك شايف الوضع بنفسك..
سلمني التذاكر وهو يعتذر انه ماقدر يطرحنا جنب بعض لأنه استغل فرصة تأخر البعض وألغى حجوزاتهم وأعطانا الكراسي الاحتياطية وأقنع اثنين من الدرجة الأولى يؤخروا رحلتهم للغد، وقال وزعتكم على الطائرة مثل حبوب القشام، وفعلاً تم توزيعنا على كل الطائرة بحيث لايوجد اثنين جنب بعض، والمهم انه طلعنا بأعجوبة رغم مجيئنا متأخرين قبل الإقلاع بساعة تقريبا، والحمدلله رب العالمين..
طبعاً كانت اليمنية لها ربع صفحة إعلان أسبوعياً وتم خصم المبلغ منها لاحقاً..
كنت قد وضعتُ مفتاح السيارة في غطاء التائر الاحتياطي الخلفي، واتصلت بالعم صالح فريد رعاه الله الذي كان وكيل توزيع الصحيفة في عدن وقلت له شوف واحد يوصلها صنعاء، فطلعها بعد يومين بنفسه قال عشان يعزي، وياليته ماطلع ولا عزّا، نظره ضعيف وماكان يشوف المطبات، وأكلهم كلهم من عدن إلى صنعاء سامحه الله ..
ارسلتُ رسالة عامة بتلفوني أن المقبار سيكون بعد صلاة الظهر اليوم التالي، وأفاجأ بالدكتور قاسم سلام الساعة السابعة صباحا وهو جنب الباب، وجلس معي إلى صلاة الجنازة والقبر وروح بيته للغداء فقط لأن معه ضيوف كما قال، ثم عاد للقاعة بعد العصر إلى المساء..
كنتُ قد حجزتُ القاعة التي بجوار البيت ليوم واحد فقط وباقي العزاء في البيت لأنها كانت محجوزة يوم الخميس عرس، وكنبت رسالة نصية عامة لكل من في تلفوني، ولم أخبر الدكتور قاسم عن ذلك لأني ظننت انه قام بالواجب يوم القبر على أكمل وجه، من الصباح إلى المساء، ولن يأتي اليوم التالي..
اليوم التالي، الخميس وصل الدكتور قاسم سلام رعاه الله إلى القاعة ومعه ثلاثة شباب خلفه يحملون قات يكفي القاعة كاملة، ودخل القاعة دون ان يستوعب التغير الطارئ في القاعة، من قرآن ودريس، إلى أغاني ورقص؛ إلا وقده جنب العريس الذي سلم عليه وهو يتلعثم.. قال انه لايذكر هل قال له عظم الله اجركم والا الف مبروك لكم
..
أخذ مكانه في صدر القاعة حيث أجلسه اهل العريس المتجملين منه، وجلس يفكر ايش الي حصل وكيف ماانتبه، وقال انه كان يتفرج على القات وهم يفحروه ويوزعوه بجنون، وبعضهم كانوا يخبوا، مش مصدقين انه واحد جاب لهم قات بلاش ههه
جاءني الدكتور احمد عبيد بن دغر رعاه الله، وصادف وجوده الاستاذ عبدالجبار سعد رحمه الله رحمة واسعة؛ الذي كان اول مرة يدخل بيتي فقال تسمع بالمعيدي خيرٌ من ان تراه، وخاطبني بصوت مسموع: قول لياسر العواضي يجي يشوف الجحر الذي عايش فيه يمكن يصدقك، وكنا قد التقينا قبل مدة طويلة مصادفة بالقرب من منزل الشيخ ياسر في الصافية وتوقفنا نتكلم، وإذا بالشيخ ياسر يمر بسيارته ويسلم علينا ويقول لي متهكماً خلصت العمارة الي تبنيها، قالوا صاحبك حوّل لك بعشرة مليون، يقصد الرئيس صالح، وكانت عادته آنذاك يصف الرئيس عندما يكلمني بأنه صاحبي.. ضحكتُ وقلت له من قلك كذب عليك، قال معلوماتي من داخل.. ضحكنا وانتهى الأمر وكلٌ راح لحال سبيله، وعبدالجبار سمع الحوار ولم يعلق حينها..
الدكتور احمد بن دغر رعاه الله استاء جداً من كلمة الاستاذ عبدالجبار لكنه لم يتحدث او يعلق، وفي المساء اتصل مستاءً وقال خلينا نشوفك أي وقت تكون فاضي،.. ذهبتُ إليه متجملا من مشاعره النبيلة وشاكرا مبادرته وحضوره للعزاء، وفهمته ان بيني وبين الاستاذ عبدالجبار إدلال كثير ومزح وهو قالها مازحاً لاشامتاً، قال ولو.. المفروض لو هو صاحبك وتعز عليه يكون حريص على مشاعرك أمام الناس خصوصا وانها كانت مناسبة وبيتك مليان..