تعرفتُ في تلك الفترة 2003 - 2007 ومابعدها على معظم المسئولين والوزراء والقيادات السياسية والمشايخ ورجال الأعمال، فضلاً عن الادباء والمثقفين والمناضلين ومختلف الفعاليات الشعبية والرسمية في العاصمة صنعاء التي كانت هي اليمن كلها بفعل المركزية الشديدة لنظام الدولة ومؤسساتها، ومركزية الانتباه الرئاسي والرسمي بشكل عام..
الأربعة الرؤوس الذين كانوا يمثلون أقطاب الدولة والقرار والنفوذ والوجاهة الرسمية، كلهم انتقلوا إلى رحمة الله، الرئيس صالح والشيخ عبدالله والاستاذ عبدالعزيز عبدالغني ودولة عبدالقادر باجمال، كانوا يمثلون جيلاً من القيادة والكياسة والحضور الرسمي لرجال الدولة، عرفتهم عن قرب، وترددت عليهم كثيراً، فلم أعرف لهم بديلاً فيمن جاء بعدهم، وهذه شهادة ورأي شخصي قد يظن البعض جهلاً او خطأً انه دفاع عنهم..
وللتوضيح فأنا لا أقدح ولا أمدح، ولا اتحدث عن نزاهتهم او ممارساتهم في مناصبهم، فمما لاشك فيه ان اخطاءهم لاتعد ولاتحصى، لاسيما وانهم عمّروا طويلاً في مناصبهم، لكني اتحدث عن كاريزما الدولة ورجالها، الذي انعدم فيمن جاء بعدهم تماماً..
بالنسبة للرئيس علي عبدالله صالح رحمه الله فقد تحدثت عنه في السابق، وذكرت بعض القصص الخاصة به، واليوم سأذكر ضمن حديث الذكريات قصة مع كل من الشيخ عبدالله بن حسين الاحمر وعبدالقادر باجمال، وعبدالعزيز عبدالغني رحمهم الله جميعاً..
حضرتُ مجلس الشيخ عبدالله بن حسين يوماً ما، وكان هناك خلاف كبير بين رجل الأعمال المعروف الشيخ محفوظ سالم شماخ رحمه الله وشيخ قبلي غير مشهور من حاشد نسيت اسمه، حول أرضية كبيرة في الضاحية الشمالية للعاصمة صنعاء، أظنها بالقرب من المستشفى السعودي الالماني، وكان الحق للشيخ محفوظ والارض أرضه، لكن القبيلي وقع فريسة أطماع شخصيات نافذة وتوجيهات رسمية بمداهمتها ونهبها، فما كان من الشيخ رحمه الله إلا أن حكم بمبلغ كبير يدفعه الحاج محفوظ للقبيلي..
تحفظتُ كثيرا، وانا اتابع مجريات البصة والتحكيم، وتعاطفت مع عم محفوظ، هكذا كنا نناديه رحمه الله، الذي صاح وهاج وماج معترضاً على الحكم الذي قال: إنه جائر في حقه لاسيما وان المبلغ المحكوم به كان كبيرا، لكن الشيخ رحمه الله قال له اعتبرها لي، فصاح العم محفوظ (باتتحمل ذمتك) ياشيخ، فرد عليه الشيخ ضاحكا (لاذمتي)..
بعد مرور فترة ليست بالقصيرة التقيت بالعم محفوظ في مكتبه بشارع الحرية الذي فيه اربع نيابات وخمس محاكم واسمه الحرية، كما كان يصفه عندما يسأله أحد عن عنوان مكتبه، وسألته عن القضية فقال الحمد لله انتهت تماما، أبديتُ له تعاطفي ضد حكم الشيخ، وقلت له انه ظلمك كثير ذيك اليوم بس ماقدرت اتدخل فالجو كان مشحون والمجلس لايصلح لتدخلي بالمرة، لكنه قال بالعكس، المبلغ الذي حكم به الشيخ يوازي تقريباً الخسائر الي خسرها (القبيلي)، ولو لم أوافق على حكم الشيخ لكنت إلى اليوم وأنا في قضايا ومحاكم، ولن انتهي منها وربما حُكم له وراحت أرضيتي، ثم تحدث وأسهب كثيرا حول حكمة الشيخ الأحمر رحمه الله، وبُعد نظره في حل مشاكل الناس، وحكى لي العديد من القصص المشابهة..
اما دولة الرئيس عبدالقادر باجمال رحمه الله فقد اتصل بي بعد يومين او ثلاث من إقالته، مطلع ابريل 2007 وعاتبني انه صار له فترة طويلة ماشافني، وقال يريدني في موضوع مهم، واتفقنا امر عليه، وفعلاً ذهبت فجلسنا لأكثر من ساعتين تقريباً واحنا نتكلم عموميات وشرق وغرب، وامور البلاد والعباد، كنتُ انا وجبت معي أحد أعمامي، وكان عنده ثلاثة من أبناء حضرموت، وبعدما استأذنوا، أخرج صورة لخبر كنت كتبته قبل إقالته وتعيين مجور بشهر ونصف تقريباً، ونشر آنذاك في إيلاف (رابط الخبر في التعليقات)، سألني سؤال مباشر: اعطاك اياه الرئيس.. قلت له لا.. قال من الي قلك عليه، قلت له مصادري الخاصة ومافيه أي إساءة لك..
قال صحيح مافيه إساءة بس انت صاحبي وانا اعتبرك من رجالي كيف ماتبلغني بخبر مهم زي كذا، ضحكت وقلت له قد نشرته في إيلاف وقروه الي في الصين والهند واميركا، واكيد وصلك.. قال نعم بس اكيد فيه خلفية للخبر واشياء وتفاصيل لم تكتب، قلت له والله ماعندي اي تفاصيل ثانية غير ماكتبته.. كان مضطرب ومشوش جداً، ويبدو ان إقالته بتلك الطريقة بعد تشكيله ثلاث حكومات أثرت عليه نفسياً رغم الود والحظوة التي ابداها صالح تجاهه ومنحه صلاحيات اكثر في قيادة المؤتمر الشعبي العام آنذاك..
ولمن لم يسمع بقصة إقالته الفريدة من نوعها، بينما كان رحمه الله يجري حوار ساخن كرئيس حكومة بقيادات الأحزاب المعارضة، يناقش ويحاور ويناور ويستعرض فذلكاته المعتادة مع قادة اللقاء المشترك صباح يوم السبت 31 مارس 2007، وصلت رسالة (SMS) من خدمة سبتمبر موبايل الذي كنا نُعرفه آنذاك بالمصدر الرئاسي او القريب من الرئاسة، غالبية الحضور تلقوا الرسالة القصيرة التي كانت، عاجل: تكليف الدكتور علي محمد مجوّر بتشكيل حكومة جديدة..!!
باجمال رحمه الله لم يفتح الرسالة، وكان مستغرقاً في شرح وجهة نظره السياسية كرئيس حكومة، فيما كان الحضور يتبادلون الهمسات والابتسامات فيما بينهم البين وهم يصوبون أنظارهم تجاهه مبتسمين، وهو يظن انه وصل إلى مراده وأقنعهم بوجهة نظره، بل وأحس انه حقق نصراً سياسياً عليهم..
رنّ هاتفه باتصال؛ وكان ينظر لشاشة هاتفه وهو يتحدث ويكمل أفكاره بطريقته المعروفة في الاسترسال، ولأهمية المتصل، استأذن ورد عليه.. تحدث وظهرت عليه علامة المفاجأة في البداية، ثم تماسك وابتسم وقال هذي مكافأة نهاية الخدمة، واستأذن وغادر..
اما الأستاذ عبدالعزيز عبدالغني رحمه الله فلي معه قصص كثيرة لكن أولاها كانت مختلفة وانا في العشرين من عمري تقريباً حينما اعتدي عليّ في ميناء الحديدة من قبل تاجرين وعددٌ من المرافقين لهم، الذين ضربوني بأعقاب البنادق، ورفضتُ وساطة المحافظ محمد حاتم الخاوي رحمه الله الذي جاء لمكتبي كي يصلح بيننا وقال لي انهم سيصلوني وصلة قبلية، إلا اني رفضتُ آنذاك وأصريت على تصعيد الموضوع، وكنت في تلك السن المبكرة أعتقد اني قادر على إغلاق الميناء حتى يتم حبس الذين اعتدوا عليّ جميعاً..!!
طلعت إلى صنعاء وكان الاستاذ مقصدي، وذهبتُ إليه بعد ان اتصلتُ به من الحديدة وعرفته بنفسي وحكيت له القصة كاملة وحضور المحافظ ورفضي تحكيمه، دخلت الديوان وسلمت عليه وعرفته بنفسي، وأخذت مكاني وكنت انتظر ان يبادرني هو بالسؤال لكنه لم يفعل، وعندما طالت الفترة والرجل يرد على كل من يتكلم معه فقط ولايبدأ هو، بدأته وقلت كيف العمل يااستاذ.. كانوا 10 وانا لحالي، وهم مسلحين وانا أعزل، قال ايش قلك المحافظ، قلت له قال يشتيني احكمه وانه بيحكم بوصلة قبلية تسمع بها الدنيا كلها زيما قال..
قال طيب ومو عتشتي.. قلت له يُحاسبوا ويعاقبوا، الدنيا فيها قانون ومحاكم وقضاء، قال بأسلوبه وسمته الهادئ رحمه الله: روح اشتكي.. قلت له فين، قال المحكمة، قلت له جايي لك من الحديدة عشان تستهزئ بي وتقول روح اشتكي، اقسم بالله انه مااضعف تعز ورجال تعز إلا انت، وانفعلت وجبت كلام كثير فوقه، وهو ساكت وهادئ يطفطف عيونه رحمه الله وكأنه مصدوم من قلة حيائي وخفة عقلي، إذ أهاجمه في بيته وبين ضيوفه..
قمت وانا لاازال اصيح من الألم والحنق الذي تملكني، كنت اظن انه سيعطيني توجيه بضبطهم وحبسهم على الأقل..
المهم انه بعد تلك العنترة والقلفدة كلها حصلت لي كلام قوي وعتاب قاسي من كل قيادات تعز وغير تعز الذين كانوا يتواصفون الموقف، ويتصلون بي لأكثر من عشرة أيام، وفي الاخير أصرّ الشيخ امين احمد طربوش رحمه الله ان اطلع من الحديدة وأذهب للاستاذ اعتذر منه أمام الناس كلهم بنفسي.. لانه لو تدخل لكبر الموضوع ولما استطعت ان اتحمل تبعاته كما قال، وفعلاً عملتُ بنصيحته وذهبت للاستاذ رحمه الله واعتذرت له ومنها نشأت بيننا علاقة احترام متبادل بين الاب وابنه، إلى وفاته رحمه الله واسكنه فسيح جناته..
الى اللقاء في الحلقة القادمة.