تعبتُ كثيراً في بداية الأمر في محل الانترنت (رياض نت)، فدوام 16 ساعة فوق كرسي خشب، وأمام شاشة كمبيوتر مُرهق جداً لكنه تحدي الذات، وتحدي بعض من كانوا يرصدون حركتي ويتمنون سقوطي، وكي استطيع ان أبقى واقفاً ولاارضخ لأحد، صمدت كثيراً رغم التعب والإرهاق ووجع الظهر..
كنت اصلي الصلوات في مكاني بجوار الشاشة، وأقتنص فرصة أوقات الصلاة، فإن كان الزبائن قليل في المحل كنت ارسل لهم رسالة جماعية عبر النظام اننا سنغلق للصلاة ونعود، وان كان المحل مليان فأرى أفضل زبائني وأقول له انتبه معاك بروح الحمام وارجع، وكنت أطلع جامع الرأفة في الدور الثاني بجوار فندق تاج سبأ وهو أقرب المساجد، كي ادخل الحمام وأتوضأ العصر او المغرب، لأني أصلي الظهر في المحل بوضوء البيت، وهكذا مرت عدة اشهر..
استأجرتُ شقة غرفتين، بجوار وزارة المالية ثم انتقلتُ بعد شهر واحد فقط بسبب الرطوبة التي كانت تؤثر على الولد رياض إلى التحرير جوار فندق هلتاون..
كنت أخرج بعد الفجر بقليل إلى سوق باب السباح كي أشتري متطلبات البيت، ثم أمشي للمحل، كنت ملتزم جداً بالفتح الثامنة صباحاً والاغلاق 11 مساءً، وكان اول محل شاشاته مفتوحة للخارج، وممنوع فيه الدخان والفوضى، استطعتُ ان أجمع زبائن ثابتين ومحددين ممن يبحثون عن الفائدة والتصفح والبحث العلمي، وكان هناك طلاب في الفترة الصباحية لكني كنت صارم في التعامل معهم..
بعد مرور خمسة اشهر تقريباً رأيت نفسي اني أموت موت بطيء بروتين عقيم ودوام مرهق وحركة جامدة، فخطرت لي فكرة عودة العمل في إيلاف..
راسلتُ عثمان العمير بأني اريد ان اشتغل من جديد فقال اهلا وسهلا، بيتك، وفعلاً استدعيت أخي الأصغر رياض الذي كان قد تهرب للعمل في السعودية مع اصدقائه من اهل البلاد، ثم أخي الصغير عزيز طلع من البلاد، ومسكنا المحل مناوبة، بحيث كان رياض يفتح الفترة الصباحية وانا أذهب للبحث عن اخبار او اعمل تحقيقات واستطلاعات وتقارير، واصبحت اجد وقت اكثر للجلوس في البيت، واذهب للمحل فيرجع للبيت يتغدى ويرتاح ثم يأتي، وعزيز مداوم معنا الاثنين ويخرج ويدخل ويروح البيت ويرجع بحكم السن الصغير وكان المدلع حقنا، لكن وجوده كان له دور كبير في راحتنا جميعاً، وهكذا مرت الأيام..
منتصف العام 2003 استأجرت محل آخر قريب من رياض نت وفتحته دورين بأجهزة حديثة وكباين اتصالات وأسميته إيلاف نت، واستلمه عزيز الذي كان قد اخذ خبرة كبيرة من رياض نت، ووظفنا جنبه موظف محترم جدا وصاحب خبرة أيضا في مجال الانترنت اسمه رمزي العريقي ونحن أيضاً لاننقطع عن المحلين، والحمدلله الامور كانت تسير جيدا..
في هذه الفترة أصبحت مراسل معتمد في وزارة الاعلام لصحيفة إيلاف وصحيفة الحقائق اللندنية..
الحمدلله كانت مستحقاتهما قليلة لكن فارق الصرف كان يجبر الكسر، إضافة إلى دخل المحلين والحمدلله الامور سارت على مايرام، والأهم القناعة، فهي بالفعل كنز لايفنى، لكن هناك فرق بين القناعة والكسل او عدم الطموح الذي كان يلازمني أيام الشباب..
بدأت تلك الايام موضة المواقع الإلكترونية الإخبارية وتكاثرت بشكل كبير.. اتصل بي الاخوين محمد الصالحي واحمد عايض، كان الأول موظفا في البنك المركزي بمأرب، والآخر مدرسا هناك أيضا، لكنهم اصدقاء وجمع بينهما حب الصحافة والرغبة لخوض غمارها، كان اول لقاء لنا في محل إيلاف نت وطرحا عليّ فكرتهما بإنشاء موقع اخباري تحت اسم مارب برس، كانت ملاحظتي الأولى ان الاسم كبير وغير سلس، حاولوا ايجاد اسم آخر فأصروا عليه وكان لهم مبررهم آنذاك، المهم بدأنا نناقش تفاصيل الموقع وكيف يبدؤوا واتفقنا على بعض المحددات والتوجيهات التي اعطيتها لهم بحكم خبرتي في الصحافة الإلكترونية آنذاك، وهم يسمعون جيداً وينفذون، ربما ثقة بي، وربما لأنهم لم يجدوا غيري يأخذ بيدهم ويوجههم، وهم القافزين إلى الوسط الصحفي قفزا..
صمموا الموقع وجاؤوا لي وأعطوني الباسوورد الخاص بلوحة التحكم كي اساعدهم في وقت فراغي في إدارته وكي أدخل اليه الاخبار التي ارسلها لايلاف على انها اخبار خاصة بهم، وقد وافقتُ وكنت ارسل اخباري لايلاف وأنتظر حتى نشرها في الموقع، ثم أنشرها في مأرب برس على انها خاصة بهم، وهذه كانت اعملها خدمة وتشجيعاً لهم، وفي نفس الوقت أحتاط لنفسي لو انتبهت إيلاف لذلك، فالوقت يُثبتُ انهم نشروا بعدنا، يعني أخذوه من الصحيفة وليس مني
كنت آخذهم للفعاليات المختلفة وأعرفهم على الزملاء الصحفيين وأسجل اسماءهم وارقامهم لدى الجهات المختلفة كي يتواصلوا معهم، وأتذكر كنا في فعالية بفندق صنعاء الذي كان فوق مستشفى آزال القديم، بنفس المبنى من الخلف، وكان عن يميني الزميل رشاد الشرعبي رعاه الله وكان حينذاك في موقع نيوزيمن، وعن شمالي محمد الصالحي، وكنت اريد ان اعرف بينهم، وبمجرد ان قلت مارب برس إلا وانفجر الشرعبي ايش من صحافة وايش من... هذولا سرق، كل اخبارهم يسرقوها من المواقع ورفع صوته وانا أحاول تهدئته، ورشاد ماشاءالله صوته صغير هههه..
كان الموقف محرج جداً للصالحي الذي لم يسكت أيضاً لكنه كان ولايزال مؤدب جداً، واستطعت بالكاد ان اسيطر على الموقف وان انهي الجدل الذي احتدم بين الاثنين بمبرر الانتباه للفعالية وبعدين نشوف الموضوع..
طبعاً كانت فكرتي للشباب ان ينشروا كل مايصلهم دون تمحيص حزبي ولاتدقيق سياسي، انشروا للكل، ويمكنكم ان تأخذوا بعض الاخبار من مواقع أخرى وتضيفون عليها معلومة او تغيرون صياغتها بطريقتكم، كنت اقول لهم هذا لأني إلى تلك اللحظة كنت أعتقد انهم سيصدمون بالواقع ولن يكملوا، وبالتالي لن يلاحظ أحد وجودهم على الساحة، لكنهم ونظرا لقلة خبرتهم آنذاك او ربما استسهال وتكاسل كانوا يأخذون بعض الاخبار كما هي وينشرونها لديهم، وهذا هو سبب استفزاز الشرعبي..
للأمانة وشهادة للتاريخ ان الثنائي الناجح احمد عايض ومحمد الصالحي استطاعا تخطي العديد من الصعاب الكبيرة والعقبات الكأداء التي واجهتهم وكنتُ قريب منهم وعلى اطلاع بها؛ إلى ان اصبحوا رقما صعبا بين المواقع الاخبارية اليمنية، وبعدها حصلوا على تمويل سخي مكنهم فيما بعد من إصدار صحيفة يومية كانت أيضاً متميزة..
وزارة الإعلام بدأت تضايقني عبر وكيلها الصديق العزيز محمد شاهر الذي كان السهل الممتنع بالنسبة للصحفيين، فهو الذي يهددك بتوجيهات عليا تصله، وفي نفس الوقت يشعرك بأنه صديقك.. بدأ يستدعيني اسبوعياً لمناقشة بعض الأخبار والتقارير التي أنشرها واعتراضه عليها وانها تشويه لليمن والنظام السياسي..
كنت استطيع ان اسايره وأتملص منه وربطتني به علاقة صداقة جميلة جداً، لكني ومنذ 2011 لم ألتق به إلا مرة واحدة في مركز الهدى حين كنتُ أحمل قارورة زيت ريتون وكانت رقبتها طويلة، فسمعت صوتاً من بعيد يقول قدك تشرب خمر ياخامري، وكان هو العزيز محمد شاهر، أسأل الله ان يكون بخير..
اليوم الذي أرعبني جداً كان عندما نشرت صحيفة 26 سبتمبر التابعة للتوجيه المعنوي بوزارة الدفاع لقطة في الصفحة الأخيرة عن (مراسل إيلاف وعلاقته بالخارج) كالت لي فيه مفردات ودروس من العيار الثقيل في الوطنية والخيانة وحب الوطن وبيعه للخارج.. الخ..
شعرت بقلق شديد منذ قرأت اللقطة صباح الخميس، ولم تشعر الوالدة وزوجتي بذلك لكني كنت أنتظر ان يعتقلوني في اية لحظة..
ذهبتُ لعمي والد زوجتي عبدالكريم الخميسي رحمه الله وكان يكتب فيها عمودا اسبوعياً (بيت القصيد) وله علاقاته الواسعة بالرئيس ورجالات الدولة بحكم مناصبه السابقة كسفير سابق وتلك الأيام اعتقد كان رئيسا للهيئة العامة للكتاب قبل الرويشان، ذهبتُ إليه فاتصل بالعميد علي الشاطر وأخبره بقرابتنا الاسرية وسأله لماذا تلك اللقطة، فأخذ الشاطر يعدد الكثير من المواضيع التي انشرها في إيلاف والتي قال انها تسيء للنظام..
بحكمته وهدوئه؛ استطاع عمي عبدالكريم رحمه الله إقناع الشاطر ان كل ماانشره مهما كان مستفزا وناقدا وناقماً على النظام كما قال، هو شهادة للنظام انه يُكتب من صنعاء وان كل من سيقرأ تلك الأخبار سيصنف النظام بأنه ديمقراطي وسقف الحريات عنده مرتفع جداً.. اقتنع الشاطر بوجهة نظر عمي وطلب ان يتعرف بي وتم عمل موعد محدد وذهبتُ إليه للتعارف بعد ان أخبرت أمة لااله الا الله انني سأذهب للشاطر فإذا جاءت الساعة كذا ولم أتصل بكم فاعلموا انني معتقل عنده..
كانت تلك أول مرة أتعرف عليه، وللأمانة كان مختلفٌ تماما عن الصورة التي كانت لديّ عنه، رجل ينصت لك إلى ان تسكت ولايمكن ان يقاطعك أبداً، ويسجل كل النقاط التي تتحدث بها في ذهنه ولايكتب شيء، ويرد عليك نقطة نقطة بطريقة مؤدبة جدا واحترام فوق الحد، أخجلني باعتذاره عن اللقطة التي قال انها اجتهاد من احد الصحفيين بالصحيفة، ووعد بالاعتذار الذي لم يتم بعد ذلك..
غداً ان شاء الله بداية معرفتي بالرئيس السابق علي عبدالله صالح رحمه الله