قبل ان اخرج من ابوظبي، تحتم عليّ الامانة ان اذكر اول موقف احتكاك حصل بيني وبين زايد بن عويضة، حيث كان بسبب مقال رأي كتبته اواخر يونيو 2001 ولاعلاقة له في عملي التحريري بالصحيفة، حيث كنت متخصص حوارات واستطلاعات، وحينها تم استدعاء زايد من جهة سيادية كما أخبرني بذلك أحد الموظفين السودانيين الذي كان قريبا منه؛ أعتقد اسمه حاتم، وتم تعنيفه كثيراً، فلما عاد استدعاني لمكتبه وكان محتداً وطلب مني ألا أكتب في أي شيء آخر غير الصفحة الدينية فقط، ولم أناقشه لأني رأيته مقلوب، فاخذني الاستاذ القدوسي لمكتبه وتحدث معي بأن الحرية الاعلامية في الامارات ضيقة جدا وليست كاليمن ومصر، وعلينا ان نراعي هذا الشيء..
وتعود تفاصيل الموضوع إلى 28 يونيو 2001 حين انقطعت الكهرباء فجأة ولأول مرة منذ ثلاثين عاماً، وحينها كتبتُ مقالاً بعنوان (قامت القيامة في ابوظبي)، قارنت فيه بين مارأيت من فزع في وجوه الناس وبين أهوال يوم القيامة التي كانت قريبة جدا في التفاصيل، والذهاب إلى ارض المحشر..
كنا في الدوام اليومي، كلٌ مشغول بما في يده، وقبل صلاة الظهر مباشرة انقطعت الكهرباء عن الصحيفة، وكنا نظن ان هناك حفريات في الجوار قطعت الكيبل الخاص بالمبنى..
فجأة نرى شارع المرور الذي ذكرتُ سابقاً انه خط سريع هاي واي، وأنّ الحاج علي رحمه الله كان يظن انه حصل لي حادث فيه من فرط سرعة السيارات، فجأة أصبح هذا الشارع مزدحما ينوء بالسيارات بشكل لايصدق، الناس تهرب من ابوظبي مذعورة، توقفت الحياة تماماً مع توقف الكهرباء لأكثر من خمس ساعات متواصلة.. الإضاءة أُطفئت، والمياه انقطعت، ومصاعد الابراج العالية توقفت، واشارات المرور انطفأت، وحتى المستشفيات اعلنت الطوارئ بطاقة ضعيفة جدا نظرا لعدم احتياطاتها الكافية لانقطاع الكهرباء، الدوائر الحكومية أخليت.. تغير شكل الحياة بالمدينة تماماً، خرج الموظفون من مقار اعمالهم نتيجة لعدم وجود الاضاءة وتعطل الاجهزة والكمبيوترات، وغادر المراجعون الدوائر الحكومية، والطلاب عادوا من المدارس، وكل انسان يحاول العودة إلى بيته للاطمئنان على عائلات..
كانت تصلنا بعض الأخبار غير الصحيحة، والتي كانت عبارة عن اشاعات يتم تناقلها بين الناس بتعرض محطة الكهرباء في أم النار للقصف، وهناك من يقول انقلاب عسكري، وأشياء أخرى كثيرة، زادت من خوف الناس الذين حملوا ماخف وزنه وغلا ثمنه وازدحموا في السلالم المظلمة لتلك الابراج؛ واتجهوا بسياراتهم صوب جسر المقطع، المخرج الوحيد لجزيرة أبوظبي آنذاك.. كان مقطعاً من مقاطع يوم الحشر او هكذا تخيلته، وكتبته كما هو، ومنذ ذلك التاريخ بدأ العد التنازلي لعملي في الوحدة..
طلبتُ تغيير دوامي إلى المساء، ابتداء من يوم السبت 1 ديسمبر 2001، وغادرت مباشرة إلى الفجيرة، وصلتها في حدود الثامنة مساءً وقد نسقتُ مع احد الاصدقاء هناك وكان امين عام جمعية الفجيرة الثقافية ناصر الزحمي؛ الذي تعرفتُ عليه في تغطياتي السابقة لفعالياتهم واستضافتهم للعديد من المفكرين والشخصيات المعروفة كالدكتور محمد عمارة وفيصل القاسم وعبدالباري عطوان وغيرهم من القامات؛ الذين حاورتهم جميعاً لصحيفة الوحدة، وصلتُ إلى الجمعية ورقدتُ فيها..
قمت الصباح لمكتب الخليج، تعرفتُ عليهم واستلمت مكتبي، ثم بحثتُ لي عن سكن وكان هناك مهندس مصري عائلته رجعت مصر، أجّر لي غرفة مفروشة جاهزة من اول يوم بـ300 درهم في الشهر..
طلبت من الحبيب ناصر الذي كان من مواطني الفجيرة ولم يتركني ذلك اليوم، طلبتُ منه سيارة إيجار، وفعلاً ذهب بي لأحد اصدقائه ومعه مكتب تأجير سيارات وأخذتُ سيارة إيكو 2002 لازالت جديدة، لمدة شهر بألف درهم غير البترول، استلمتها بعد صلاة الظهر وودعت ناصر وتوكلتُ على الله باتجاه أبوظبي..
كانت هذه الرحلة المضنية تأخذ مني اربع ساعات ذهاب ومثلها عودة يومياً، كي اضرب كرت الدوام فقط، ثم اطلع لساحة المحررين، اسلم عليهم وآخذ لفة في بقية الاقسام كي لايشعروا بغيابي لمدة ساعة او اقل، ثم أغادر عائداً للفجيرة يومياً..
طبعاً المفروض ان الدوام المسائي يبدأ الخامسة وينتهي الواحدة بعد منتصف الليل بتسليم الصحيفة للمطبعة، لكني كنتُ اضرب كرت الدخول ولااضرب الخروج، وقلت على الله، لأني لو تأخرت إلى آخر الليل فلن اتمكن من الجمع بين الوظيفتين، حيث كان دوامي في الخليج خلال هذا الشهر من السابعة صباحاً، حيث كنت اخرج لعمل تحقيقات صحفية، ثم أمر على بعض المكاتب الحكومية التي رتبتها في جدول معين، بحيث كل مكتب او مصلحة امر عليهم مرتين في الاسبوع مالم يكن هناك طارئ او اتصال منهم او خبر يرسل لمكتبي، وبعد صلاة الظهر اتوكل على الله لأبوظبي..
خلال فترة عملي بالوحدة تعلمت اشياء كثيرة فيما يخص الحركة بين الإمارات، ومنها اني كنت بدلاً من الذهاب لمحطة ابوظبي كي اركب الباص بـ33 درهم، كنت أقف امام فندق كراون بلازا في شارع الشيخ زايد، وهو الشارع المؤدي لأبوظبي وهناك تأتي العديد من السيارات الخاصة لوافدين غير اماراتيين، طالبين الله يأخذون الفرد بعشرة درهم فقط..
وكما كنت زبوناً لذلك المكان وتلك الطريقة غير القانونية طبعاً، اصبحتُ أقوم بها، حيث وانا في طريقي إلى ابوظبي أمُرُّ لذات الموقف امام الفندق ذاته وأحمل الناس من 10 درهم إلى أبوظبي، وفي العودة أيضا اعمل نفس الموضوع، فكنت احصل على 100 درهم يومياً، أي أكثر من ايجار السيارة ، وهي حيلة المغتربين عموماً في كيفية الحصول على الدرهم في غربتهم، شرط ان يكون درهم حلال..
انتهيتُ من شهر الانذار وذهبتُ للحسابات كي اصفي بقية مستحقاتي ويحولوها للبنك، فقال لي مدير الحسابات وكان سوداني طيب جداً قيل انه كان لاعب كورة شهير في السابق، قال ماشاءالله عليك، شنو دا، كنت تستنا الساعة
الساعة واحدة تماما وتضرب الكرت، مافي يوم زودتا دقيقة ولا نقصتا دقيقة ..
قلت له أصلا مافي معي شغل وكنت اجي اتسلى واجلس عند جماعتنا اليمنيين في الرسبشن لما تدق الساعة واحدة؛ اضرب الكرت واروح انام..
ومن هناك تعلم بقية الزملاء الذين بقوا في الوحدة ان الكرت يضرب خروج بنفسه في الوقت المحدد وكانوا يزوغوا ولاذمتك يامحمد..
تلك الايام كنت اكتب اخباري كلها في الخليج باسم محمد عبدالغفور، وأحرص على عدم ظهور صورتي في اي مناسبة، لأنه جرت العادة في صحيفة الخليج على تغطية اخبار الافراح والمناسبات التي يحضرها الحاكم او ولي العهد او من ينوبه وكان الصحفيين يتصورون مع الحكام في تلك المناسبات إلا انا كنت ارفض، وهذا سبّب لي إحراجا في العديد من المواقف لاسيما عندما كان حاكم الفجيرة نفسه الشيخ حمد بن محمد الشرقي يدعوني للوقوف إلى جانبه أثناء التصوير، وكنت ارفض واتحجّج بأشياء كثيرة منها ان الزملاء في الدسك يزعلون لما ارسل صور وانا موجود فيها ويعتبروه عيب مهني، وهذه الحجة صحيحة لكنها لاتنطبق على اخبار المجتمع العادية..
كنت افعل ذلك خوفاً من زايد بن عويضة او احد المتجملين لو شاف اسمي او صورتي في الخليج وأخبر زايد فسيكون رده عنيفاً وغير متوقع..