خرجتُ من مكتب الشيخ زايد وانا غير مصدق ماسمعته.. معقول في خلال اسبوعين اكون قد حصلت على وظيفة وسأسلم جوازي لعمل الإقامة.. اللهم لك الحمد، ماهذا الكرم الكبير الذي غمرتني به يارب..
كنت اردد بيني وبين نفسي وانا أمشي بين المكتب والسكرتارية: من توكل على الله كفاه، وأحمدالله كثيراً على هذا التوفيق الذي منحني إياه، لاسيما وانّ في العزبة شباباً لهم اكثر من ستة أشهر لم يجدوا أعمال او وظائف، كنت اتجنب الجلوس معهم كي لايتسلل اليأس إلى نفسي، او الاستسلام للاحباط الذي وصلوا إليه بعد كل تلك الفترة، لأن بعضهم كان ينام إلى الظهر وإذا قام لايخرج من البيت بسبب الحالة النفسية التي وصلوا لها بسبب قلة الأعمال والوظائف، لأن الإمارات بالفعل ناشفة كما قال لي الشاب العدني فوق الطائرة، لايمكن العمل فيها بالأسود او بالمخالفة لنظام الاقامة، او لدى غير الكفيل فهي جرائم قانونية تكلف مرتكبها غرامات طائلة وحبس تعزيري وترحيل ان كان مرتكبها وافد وغير مواطن إماراتي..
وصلتُ للاخ ناصر وهو يضحك ويقول لي مبروك وان شاء الله يوم السبت الصباح تجي بتحصل هنا واحد سوداني اسمه عدلي تابعه وشوف ايش بيقول لك..
سلمته الجواز، أخذ منه صورة ثم أعاده لي وكنت منتظر ان يقول لي سأوصلك في طريقي لأن الساعة كانت في حدود الثانية فجراً لكنه لم يقلها، وفي الحقيقة لم اكن اعلم اين اتجاه بيته، وعندما عرفته لاحقاً لم يكن باتجاه النادي السياحي الذي اسكن فيه..
نزلت بالمصعد إلى الدور الارضي وكان الاخ حزام الورد هو المناوب فخرج من الكونتر وسألني خير ان شاء الله..
قلت له الحمدلله صوروا جوازي عشان يطلعوا لي إقامة وان شاء الله السبت بارجع للسوداني عدلي.. وسألته: الساعة كم يداوم..؟
قال تعال الساعة 9 وانا اطلعك لعنده..
قلت له باقي باصات الان.. ضحك وقال وين الآن، شوف الساعة كم.. فين بيتك، قلت له في النادي السياحي..
قال اقطع الشارع وخذ تاكسي من الناحية الثانية يمكن بياخذ منك 10 درهم..
ودعته وقطعت الشارع وركبتُ من الناحية الأخرى وكان المشوار بـ14 درهم.. مازعلت عليها زي كل مرة ..
حسيت ان الامور بدأت تتحلحل، واني اصبحت موظف وهذا الأهم عندي، الفلوس سهل بتجي مع الوقت ..
وصلتُ البيت وكانوا جميعاً صاحيين، لم يناموا، والحاج علي كل ربع ساعة يتصل يسأل هل وصلتُ أم لا، واتفقوا انه اذا لم اصل إلى الفجر فسيذهبون لإبلاغ الشرطة، وكنت لااحمل تلفون ولم أقل لأحد أين سأذهب؛ إلا الحاج علي الذي يعرف ان عندي موعد بعد العصر، واستبعد ان أتأخر إلى مابعد منتصف الليل، وكان غالب ظنه وقلقه الذي لم يبح به لأحد ان حادثاً مرورياً قد حدث لي، لاسيما وان شارع المرور الذي تقع فيه الصحيفة خط سريع، لانه احد الشوارع الرئيسية للدخول والخروج من ابوظبي..
عندما وصلتُ احسستُ بحب هؤلاء الشباب ونبلهم الأخلاقي وخوفهم وقلقهم عليّ، كانوا قلقين جداً، وكان بعضهم في البلكونة، وعندما رآني أحدهم صاح بحنق: خامري.. اين كنت، طبعاً هو في الدور السابع وانا في الشارع.. أشرتُ له بأني سأطلع..
ماإن طلعت إلا وقد اتصلوا بالحاج علي ان الخامري وصل، وبقي على الهاتف وهم في الباب منتظرين وصولي بالمصعد، كانت لحظات اقشعر لها بدني وشعرتُ بأن هؤلاء الشباب رزق وهبةٌ من الله لي، فالطيبون في حياتنا رزق، وهذه من الدروس التي يجب ان نعلمها جميعا، فالرزق ليس المال فقط كما يظن البعض، بل المال أدنى درجات الرزق..
وصلتُ اسلم عليهم وهم يعطوني التلفون، ويقولون كلم الحاج علي؛ الذي كان قلق عليّ بالفعل، وأول ماأخذت التلفون سلمت عليه وقال فينك ياولدي اقلقتنا عليك الله يسامحك، قلت له القصة طويلة ياعم علي لكن اختصارها اني توظفت والحمدلله..
فرح الحاج وبارك لي وقال يعلم الله كيف شتجزع الجمعة، لانه كان يخصص الجمعة للبيت ولايخرج للمحل، ويقصد ان الجمعة ستمر عليه طويلة وهو يريد ان يراني ليعرف التفاصيل..
وماان اغلق التلفون إلا والشباب يباركون لي ويريدون معرفة القصة كيف كانت، وكان لهم ماارادوا..
كنت قد نويتُ وانا في التاكسي ان أقوم تلك الليلة شكراً لله على توفيقه وامتنانه، وبعدما دخل الشباب ينامون بعد الثالثة تقريباً؛ اغتسلت وخرجتُ إلى مكاني في صوح المسجد أصلي وأحمد الله على نعمه الظاهرة والباطنة، حتى أذن الفجر، وبعد الشروق عدتُ وصحيت الشباب يصلوا وطلبت منهم الا يصحوني إلى صلاة الجمعة..
اليوم الجمعة والشباب معطلين، فقالوا انهم سيعملون لي عزومة بهذه المناسبة، ومنعوني من الخروج كما اعمل يومياً، وفعلاً كانت اجمل عزومة عبارة عن مقلوبة دجاج مع السلطات المشكلة، والكنافة النابلسية بالقشطة والمكسرات للتحلية..
الحاج علي يتصل في المساء ويقول بكرة الساعة 9 الصباح بمر عليك خليك جاهز، قلت له معي مشوار بسيط للجريدة وبارجع ان شاء الله لعندك، واتفقنا على ذلك..
قمتُ السبت كما هي العادة، بدأت يومي بالمطعم الهندي ووجبة البراتا لكنها هذه المرة حبتين مش حبة واحدة
مع القلص الشاهي بالحليب، ثم موقف باصات النقل الجماعي وإلى صحيفة الوحدة كي اتابع اجراءات التعيين والإقامة كما قال لي ناصر..
وصلت تقريبا التاسعة والنصف للزول عدلي وسألته عن الاجراءات فأراني قرار التعيين جاهز وبانتظار الشيخ زايد عندما سيأتي سيوقعه فقط ثم يعطيني منه نسخة، والعقد حيكون من العم دحمان (موظف موريتاني قديم ويعتبر حامل اختام ابن عويضة)..
استدرك عدلي بأن العقد سيمشي بنفسه وسيسلم لي لاحقاً، لاتقلق، وقال انه بعد توقيع قرار التعيين سيتم ارساله بملف إلى الإدارة العامة للمجموعة وهناك سيكتبون العقد وسيعاملون لك على الإقامة، وطلب رقمي علشان يتصلوا بي أوصل لهم الجواز الاصل للإدارة العامة عند موعد الإقامة..
أعطيته رقم الحاج علي وقلت له بكرة باشتري موبايل واجيب لك رقمه، وكنت أخطط اني سآخذ الـ200 الدرهم من ناصر واروح اشتري لي اي تلفون امشي فيه حالي لما استلم الراتب..
اتفقنا على ذلك وغادرت الصحيفة بانتظار هاتفهم لطلب الجواز..
وصلتُ للحاج علي وهو ينتظرني على أحر من الجمر، لعدة أمور.. منها انه يريد معرفة التفاصيل، لأنه إلى الآن لايعرف ان الوظيفة قد تغيرت من إمام مسجد البيت إلى صحفي، ومنها ان الشيخ غريب القمزي اتصل مرتين يسأل عليّ وضروري اروح لعنده اشوف ايش معاه، والسبب الثالث انه اشترى لي هدية بمناسبة الوظيفة فاجأني بها وهي عبارة عن تلفون نوكيا 3330 لونه سكري، مع رقم تلفون استمر معي إلى مابعد خروجي من الامارات ولازلت اتذكره إلى اليوم، رحم الله الحاج علي رحمة واسعة..
طبعاً الحاج علي أخبر وكيل الوزارة انني توظفت واني اليوم سأبدأ العمل في مسجد البيت عند ابن عويضة، لأني لم أبلغه بأي تفاصيل إلا اني توظفت فقط، وكان يظن ان مشوار اليوم لأجل وظيفة المسجد، فقال له القمزي خليه يمر عليّ ضروري، حجزت له مسجد كبير في الوثبة مع سكن جديد احسن من بيت ابن عويضة وبيرتاح فيه..
بعدما حكيت له تفاصيل اللقاء، وان الوظيفة ليست في المسجد بل في الصحيفة قال ماشاءالله تبارك الله، الناس يجلسوا أشهر يدوروا أعمال وانت وظيفتين بيوم واحد، ثم قال امك ماترقدش، يالله تدعي لك بس، قالها مازحاً وفتح يديه..
تشاورنا كيف العمل الآن، هل اذهب للوكيل ام لا، وكنت حائر بالفعل لعدة أمور، أولاً ان هناك إقامة حكومية، وسكن جديد كما قال، ومرتب معروف وشهرياً ينزل في حسابك دون تأخير، وفي الجهة الأخرى الاقامة تجارية تحت رحمة الكفيل، والسكن لايوجد، والمرتب غير معروف ولم أسأل عنه خوفاً لايغيروا رأيهم
قلت له اريد نصيحتك وانا بعدك ياحاج علي، قال انت مخير إما تروح الاوقاف وتظل طول حياتك امام مسجد وبنفس هذاك المرتب، او تبدأ حياتك في المهنة الي تحبها وفيها ترقيات وفيها تنقلات وفيها مستقبل افضل، وانت اخبر..
كنت حائر جداً، كلام الحاج أقنعني نظرياً، لكن الواقع الملموس والمضمون مع الأوقاف..
الحلقة طالت كثيراً.. غداً بإذن الله سأقول لكم ماذا قررت وماذا تم