أول واحد فكرتُ فيه بعد خروجي من الوزارة وانا في قمة النشوة والادرينالين عندي عالي جداً كان والدتي رحمها الله، كنت اتمنى لو كان معاها تلفون اتصل بها وابلغها انني تجاوزت ماكنت أعتقده أهم مرحلة وأكبر عقبة في الامارات، وأن مابعدها مجرد اجراءات روتينية وإدارية عادية تأخذ وقتها الطبيعي لحين التوظيف، لكن تلك الايام كان الجوال لازال في بداياته باليمن ولم تكن التغطية قد وصلت بلادنا الاخمور بالحجرية..
كنت سعيد جداً بهذا الإنجاز لأني أولاً حققته في فترة وجيزة لاتتعدى خمسة أيام وغيري يأخذ عدة أشهر للوصول إلى اللجنة، ولأني كنت اظن انني سأتوظف مباشرة بعد الحصول على النتيجة، وبالتالي سأبدأ حياة جديدة هادئة وهانئة ان شاء الله..
مشيت باتجاه الحاج علي، وفي الطريق لم احس بالشمس ولا الحر مثل كل يوم؛ وبدأت بإجراء عمليات حسابية بعد ان سألت عن مرتبات الائمة فقيل لي انها 1450 درهم تلك الأيام مع السكن، وقسمت هذا المبلغ، كم سأصرف انا اكل وشرب وسكن، وكم سأرسل للوالدة رحمها الله، وكم سأرسل للعم محمد طاهر الذي تسلفت منه الالف الدولار، وفيما انا اضرب واطرح وصلتُ عند الحاج علي الذي كان يدعو لي بالتوفيق منذ الصباح، وعندما رآني وقف بابتسامته الجميلة وقال بشر، قلت الحمدلله امتياز.. خرج من خلف المكتب واحتضنني وهو فرحان كأنني ابنه، أحسستُ بفرحته الغامرة التي عوضتني عن بؤس الوضع النفسي الذي كنت أعيشه تلك الايام..
قال لي اليوم الجماعة عاملين عزومة عائلية بمناسبة وصول بنتي وزوجها الذي اكتشفت فيما بعد انه الاخ والصديق عبدالناصر احمد الكباب، ثم قال لكن بكرة اعوضك ونروح نحتفل بهذا الخبر في احسن مطعم بأبوظبي..
ودعته وخرجت من عنده وانا حاسس ان حملا ثقيلا قد انزاح من على ظهري، واني اليوم بدأتُ أولى مراحل الاستقرار النفسي والوظيفي والمالي لأربع سنوات على الاقل كمرحلة انتقالية، لأني بطبيعتي لااحب الاستمرار في اي شيء اعمله اكثر من اربع سنوات، ثم انتقل الى غيره..
قررتُ ان احتفل بنفسي وقلت اصرف يامحمد وكل وخليها تحبل بربح ههههه..
كنت اقرأ اعلان ترويجي مشهي جداً على زجاج مطعم البراتا، عبارة عن صحن برياني مع اللحمة بـ13 درهم، فقلت في نفسي إذا كان اللحم بـ13 فأكيد الدجاج بيكون بعشرة درهم..
دخلت المطعم الذي اصبح عماله يعرفوني من خلال الثلاثة ايام الماضية بأني زبون صباحي ومسائي بحبة براتا وشاهي حليب، فجاء احدهم يسألني: براتا، قلت لا، هذا غداء هههههه، ثم طلبت بقلب جامد، واحد برياني بالدجاج
كان البرياني لذيذ جدا مع الصوص الهندي والزبادي بالتوابل والاعشاب الهندية.. وبعد أن انتهيت قمت احاسب فقال 18 درهم.. قلت له كيف الاعلان فوق الزجاج 13، قال اللحم، قلت والدجاج ارخص قال لا، في أبوظبي الدجاج أغلى ..
لنعود إلى شقة او عزبة كي إم، قبل ان نتحدث عن النتيجة ووكيل الوزارة الذي قال انني اشبه شقيقه الصغير الذي مات بحادث مروري رحمه الله، وساعدني في إيجاد الوظيفة..
كان لهذه العزبة الرائعة التي سكنت فيها 6 أشهر فقط ثم انتقلت للسكن الخاص فيما بعد، نظام صارم لاتهاون فيه، ساهم بانضباطها ونظافتها وهو جدول معلق بأسماء الشباب، كل يوم الطبخ على واحد، والنظافة على آخر بما فيها نظافة الحمام يومياً، وأي أحد يخرج الصباح دون ان يرتب سريره فعليه عقوبات قد تصل إلى إخراجه من البيت، ويلومه الجميع بلا استثناء..
كان هناك كبير معنوي للجميع، كان المهندس عبدالرؤوف عبدالكريم الذبحاني هو الاكبر سناً بفارق بسيط، لكن الجميع يحترمه، فكانت كلمته الفصل وهو الذي يقرر اي استثناءات او مناسبات او أي شيء في الشقة، ولهذا كانت العزبة منتظمة كالساعة، بحب وتقدير وتآلف واحترام بين الجميع وليس بالاوامر والنواهي والرسميات.. مر عليّ فيها رمضان وعيد الفطر، كانت من اجمل ايام حياتي..
كان برنامجي منذ وصلت العزبة يبدأ من قبل الفجر، بحيث كنت انزل قبل الفجر بنصف ساعة تقريباً وأصلي خارج المسجد كان فيه مثل الصوح المفروش الصغير مع عمودين.. كنت ادع الله بقلب خاشع الا يخيبني والا يعيدني إلى اليمن بلا عمل، وكنت اناجيه سبحانه كأني أتحدث معه وأطرح عليه حاجتي، بل وأضع الأسماء في حديثي الليلي آنذاك، كأن أقول ياالله لو رجعت اليمن وجاء العم محمد طاهر يشتي فلوسه من فين اجيبها، يارب لو رجعت اليمن وحصل حاجة لواحد من اخواني، كيف اعالجه، لو قلي واحد منهم يشتي مصروف وانا ماعندي، كيف اعطيه، يارب يارب.. وكنت كلما اذكر امي واخواني وتأتيني تخيلات بالمرض والجوع وانهم بحاجة للملابس في الاعياد والا يكونوا اقل من غيرهم والا يحتاجوا لاحد، خصوصاً وانهم متعودين الحمدلله بأن يكون عندهم اجمل الملابس واغلاها التي كنت اشتريها لهم من الحديدة..
كانت تمر عليّ تخيلات الحال الآن، وعجزي لو رجعت اليمن عن ان اعيد لهم تلك الأيام وبتلك الخامات الغالية والرفاهية، كنت اتخيل وجوه امي واخواني واحدا واحدا، فأبكي بكاءً شديد وألح على الله بالدعاء، وأخاطبه بأنهم لاذنب لهم يتعذبوا..
أتذكر اني كنت اقول لله في تلك الليالي التي أعتقد اني كنت فيها قريب من الله بشكل كبير والتجأت اليه بكل جوارحي ورميت عليه كل همومي وضعفي وحاجتي، كنت اقول يارب إذا كان ماامر به هو بسبب ذنوب ومعاصي ارتكبتها انا فخذ مني انا وابتليني انا في جسمي وجوارحي، بس لاتحرم امي واخواني ولاتؤاخذهم بذنوبي، فهم لاذنب لهم وانت العدل الذي قلت وقولك الحق ولاتزر وازرة وزر أخرى..
كنت اخاطبه سبحانه وتعالى وأنا موقن انه يسمعني ويراني، وانه لن يترك امي واخواني يتعذبون بالابتلاء الذي امر به..
كنت انتظر بعد الفجر إلى الشروق.. اقرأ القران وادعو الله عز وجل في نفس المكان خارج المسجد، لأن خادم المسجد والمؤذن الباكستاني كان يغلق بعد الصلاة بعشر دقائق وممنوع بقاء أي حد في الداخل..
بعد الشروق اصلي ركعتين ثم اعود إلى العزبة انام للساعة العاشرة ثم أخرج أتمشى إلى الكورنيش الذي كان قريباً من البيت إلى صلاة الظهر فأصلي واذهب للمطعم الهندي آكل براتا وشاهي حليب بدرهم
بعدها اتوجه لجمعية ابوظبي التعاونية وهي عبارة عن سوبرماركت كبير ومول تجاري وكافيهات، اجلس اتمشى فيها وبجوارها أيضا كان مول جديد اعتقد اسمه مول ابوظبي كان لازال في طور الانشاء آنذاك، كنت يومياً ازورها كي اقتل الوقت مابين الظهر والعصر ولأنها مكيفة والجو في الشارع نار جداً، وبعد العصر اذهب للحاج علي وهناك نمضي الوقت الطويل في الحديث عن كل شيء..
كان يحكي لي عن حياته وكيف جاء في السبعينيّات واشتغل في شركة البترول وحصل على الجنسية حتى تقاعد منها ثم اتجه للعمل الخاص وافتتح معارض السجاد الشرقي حيث كان له اكثر من فرع رحمه الله، وبعد العشاء أستأذن منه وأمر على المطعم الهندي آكل المخصص اليومي، البراتا والشاهي ثم أذهب أيضاً للجمعية التي كنت أرى فيها الدكتور ياسين سعيد نعمان وابو خلدون محمد عبدالله محسن الشرجبي وغيرهم من القيادات الاشتراكية الذين نزحوا إلى الامارات بعد حرب 94 وكان سكنهم خلف الجمعية..
لم تكن بيني وبينهم أي معرفة، ولم أحاول التعرف عليهم رغم اني كنت اراهم بصورة شبه يومية في الكافيه..
كنت أنتقد الرئيس علي عبدالله صالح رحمه الله كيف انه لايدعو إلى مصالحة وطنية شاملة ويستدعي هؤلاء الكفاءات السياسية وأمثالهم الكثير للاستفادة منهم بدلاً من قضاء اعمارهم في المنافي، لاسيما واني كنت مبهور جداً كغيري الكثير من اليمنيين بالدكتور ياسين الذي كان يدير البرلمان بداية الوحدة بقدرة فائقة وحنكة مبهرة اشاد بها السياسيين وكتب عنها الكتاب، وتغزل بها الشعراء..
بعد ذلك كنت اعود للبيت عند العاشرة مساء وربما بعدها لأنام فقط، كان الشباب يتساءلون ليش ماتجي تتغدي الساعة 2 الظهر وليش ماتتعشى معنا، وانا كل يوم اجيب لهم خبر، ساعة معزوم وساعة اكلت بالمطعم وهكذا.. كنت لااريد ان اكون عالة على أحد او يحسوا اني ضيف ثقيل، لاسيما وكان هناك عدد من الشباب عاطلين عن العمل ولايدفعون الفرق الشهري للأكل فلم أشأ أن ازيد عدد العاطلين عن عدد الدافعين..
طبعاً استمر حالي مع البراتا والشاهي إلى مابعد استلام الوظيفة بعدة اشهر حفاظاً على الرصيد المالي المتاح، لأن غالبية الجهات الاماراتية الخاصة تتأخر في صرف المرتبات لثلاثة واربعة اشهر ثم تصرفها مع بعض، وهذا ماحصل معي حيث لم استلم إلا بعد اربعة اشهر وهو الاستلام الذي له قصته غير المتوقعة، وسأكتب عنه لاحقاً..
طالت الحلقة كثيراً، وغداً ان شاء الله سأحدثكم عن المكتب الذي دخلته إمام جامع وخرجت منه صحفي.. في امان الله