وقفتُ في مكاني لأتفاهم مع الوافد الجديد الذي كان يركب سيارة اميركية فخمة جداً، وهو لازال يصيح ليش تهرب، ويلوح بالعقال، وانا تعززت عندي قناعة السجن الليلة لأني قررت اضربه لو تهور ومد يده او خبطني بالعقال.. سهّل الله وخرج الحاج علي يصيح عليه ويقله مالك منه، وجاء يمشي باتجاهي وهو يضحك ويؤشر للهنود يرجعوا، وقال دمك حامي ها.. هيا تعال، ومسك بيدي وسحبني وراه للمعرض وابنه يمشي معنا، وجلست انا وعبدالرحمن متقابلين وهو على المكتب وانا زعلان جداً وصورتي مقلوبة، من كلامه ومن عبدالرحمن الذي كان يصيح عليّ ويهددني بالعقال، ومن الموقف والحياة كلها.. كرهت نفسي وكرهت اليوم الذي فكرت فيه أدخل الإمارات..
زعلت على نفسي وايش الي وصلني إلى هذا الوضع الذي لاأحسد عليه، واحسست انه ينظر لي كمتسول..
كان الحاج علي يتحدث كثيرا وهو يضحك ومبتسم يريد ان يعتذر لي ويطيب خاطري بطريقته، لكني والله كنت اسمعه واراه يتكلم وشفتاه مبتسمتان، لكني لاافهمه ولم أكن أعي مايقول، كنت مشغول بتحليل المشهد الذي حصل لي، وبتحليل نظرته لي وماالذي دعاه لأن يقول ذلك الكلام.. هل الدكتور محمد اتصل به واستعطفه كي يقبلني عنده في العزبة.. هل يعرف اني مفلس.. هل يظن اني جئت اريد مساعدته.. كيف يراني ابنه الآن..
كانت اسئلة كثيرة تتزاحم في رأسي وتشتت ذهني وتشغلني عن كلامه واعتذاره رحمه الله واسكنه فسيح جناته..
لم استطع ان اواصل اكل التمر ولاشرب القهوة، شربت ماء كثير دون ان ادري، قال لي داس الهندي بعد أيام انه كان خائفاً عليّ لأني شربت كثير ماء..
وفجأة جاء الشاب خالد عباد، هكذا إسمه ان لم تخني الذاكرة.. دخل المحل وسلم علينا ثم استدار إلى المكتب وقبل الحاج علي في رأسه..
انتبهت والحاج يعطي هذا الشاب فلوس ويقول له خذ الشيخ محمد، قلت له ماناش شيخ، قال طيب خذ الولد محمد وروحه البيت يرتاح، وقل لـعدنان قاسم يدخله الغرفة، مش يخليه بالصالة، وانا باتصله واكلمه، والشاب يهز رأسه ويقول حاضر..
قال الحاج لي: الله واياك يابني، روِّح ارتاح وإن شاء الله نلتقي مرة ثاني.. قلت له ان شاء الله، ومشيت مع خالد دون ان اسلم على عبدالرحمن، وبعدما خرجنا من المحل ونحن بانتظار التاكسي سألته بنبرة متشنجة ايش يقرب لك هذا الحاج، قال ولاحاجة.. قلت له وليش تحبه بالراس، قال موبك زعلان، صلي عالنبي، انا احترمه.. ثم قال بنبرة مكسورة وانا اصلاً (...) قال كلمة أخجلتني جداً، وتعني انه فقير متربة، بس قالها باستعارة قروية جعلتني اندم لماذا احتديت عليه..
وصلنا البيت في عمارة كي إم بالنادي السياحي، نسبة لمتجر شهير كان يحتل الدور الارضي منها (K. M).. طلعنا البيت وعرفني على بعض الشباب الذين كانوا هناك، ولازلت اذكر الاعزاء عبدالرحمن الغماري وأمين الظرس ودكتور الكهرباء والمهندس عزالدين المشرقي، ولاحقاً جاء محمد الحداد وعدنان قاسم والمهندس عبدالرؤوف والخالد ومطهر المنيفي وماجد وغيرهم من ابناء تربة ذبحان الكرام، الذين كانوا لي أكثر من اخوة، ولم يشعروني بأني غريب عليهم، او ضيف ثقيل الظل..
أخذني خالد عباد وأدخلني إلى غرفة داخلية وقال هذا سريرك، وعرفني على الحمام والمطبخ..
بطبيعتي عندما ازعل كثير يؤلمني رأسي، وأريد ان انام كي يذهب الألم، وهذا ماجرى، طلبت منه ان يخرج ورحت في نوم عميق إلى الساعة التاسعة، اربع ساعات تقريباً، لأصحو على صوت خالد وهو يصحيني بطريقة انسان خائف، أفزعني بأسلوبه، قمت وجلست مباشرة وأسأله ايش فيه..؟
قال الحاج يشتيك بالتلفون، وانا تفرجت عليه بغضب وقلت له قله راقد ورجعت انام، قلي مايصلحش يااستاذ والله مايصلح، لاول مرة الحاج يتصل لتلفون البيت، كان يتحدث وهو كالخائف الوجل ويترجاني اجاوب التلفون، انا افدي ابوك تعال جاوب، الحاج بيزعل..
لاحول ولا قوة الا بالله، قمت وخرجت للصالة عشان ارد على التلفون وخالد خرج البلكونة فإذا يرجع يجري ويده على راسه ويؤشر لي بيديه وكل جوارحه وبصوت خافت ان الحاج تحت البيت بسيارته، وكان خائف لاادري لماذا..!!
كان الحاج يطلب مني ان البس وأنزل، حاولت اتملص منه لكنه أصر فنزلت اليه وركبت السيارة، وبادرني بسؤال مكانك زعلان، طبعا فترة النوم ريحتني كثيراً واتصاله أيضا هدأني فقلت لا خلاص، وبدأنا نتعاتب ويفهمني انه كان يمزح معي وأخذني إلى مطعم لبناني في شارع إليكترا وتعشينا ثم أوصلني للبيت وقد تصافينا وتصاحبنا، لكنه عندما وصلنا تحت البيت وانا أودعه رحمه الله أخرج من جيبه مبلغ ومد به لي وقال خلي هذي بجيبك وانا خرجت الفلوس الي بجيبي قلت له الحمد لله معي مايكفيني 4 اشهر، ضحك ضحكة عالية وقال كيف حسبتها لاربعة اشهر، قلت المهم انه معي واذا احتجت مابروح لغيرك أبداً.. قال وعد، قلت وعد..
تصاحبنا انا والحاج علي منذ تلك الليلة صحوبية قوية، وكعادتي منذ الصغر أحب مصاحبة كبار السن.. كنت احبه كثيراً وهو كذلك، كان دائم الاتصال والسؤال عني بعدما نقلت من ابوظبي إلى الشارقة ثم الفجيرة، وظلت علاقتنا ودية جداً إلى ان غادرت الإمارات، وعندما جاء إلى اليمن عام 2005 تقريباً ارسل لي انه موجود بالقرية في تربة ذبحان، وزرته إلى هناك، وعندما طلع صنعاء زارني في بيتي ولم تنقطع علاقتنا إلى ان مات رحمه الله رحمة واسعة..
صباح اليوم الثاني اتصل بي يسألني ايش معي فقلت له اليوم وبكرة انا فاضي ولامعي شيء، قال شتاجي للمعرض والا اجزع لك الشنطة حقك للبيت، الدكتور محمد ارسلها اليوم، قلت له انا باجي.. كانت فرصة اعرف المحلات المحيطة بي والشوارع والطريق إلى عنده..
سألت خالد كيف امشي لعند الحاج، قال اخرج للشارع العام واركب تكسي وقله برج بينونة، قلت له كلكم ماتعرفوش غير التكسي، كيف امشي لعنده، قلي بعيد، قلت له مالكش دخل فين امشي.. كنا في البلكونة، اشار إلى شارع حمدان وقال امشي هذا الشارع للنهاية وبتشوف بينونة وهو تحته..
خرجت امشي وكان الجو حاراً إلا اني كنت بحاجة لمعرفة المحيط خصوصاً مطعم الهنود الذي يقدم البراتا..
سألت أول هندي صادفته عن ريستورينت هندي فدلني على مطعم قريب، ذهبت اليه وطلبت براتا وشاهي حليب وحاسبته درهم وخرجت، وكأني اقول له انني زبونك الدائم من اليوم هههه
مشيت كما دلني خالد إلى ان رأيت برج بينونة، وجلست في ظل إحدى البنايات كي يجف عرق ثيابي لأصل للحاج وكأني جئت بتاكسي..
دخلت وسلمت عليه وقال انه ينتظرني عشان نفطر مع بعض، قلت له انا قد سبقتك ودخلت مطعم هناك وفطرت، ليش ماكلمتني بالتلفون، المهم نقنقت معاه شوية لانه كان جايب عسل اصلي هههه..
يوم الأربعاء الساعة العاشرة كنت في لجنة الاختبارات بوزارة الاوقاف التي كانت في منتصف الطريق تماماً بين السكن ومعرض الحاج علي..
اتذكر اني وجدت يومها زميلي في مركز الفاروق بشارع هائل بداية التسعينيات الشيخ الحافظ عبدالله الاهدل، وكان قد سبقني بالاختبار ويعامل على الإقامة تقريباً، ولايزال منذ ذلك الحين وإلى اليوم يعمل إماما لأحد مساجد أبوظبي وفقه الله ورعاه..
خلصتُ الاختبار ولحظتها قال لي الشيخ سليمان فرج ماشاءالله ياشيخ محمد.. امتياز ولو فيه اكتر كنا جبناها لك، تجي يوم السبت وتاخذ النتيجة من سكرتير اللجنة..
خرجتُ من الوزارة وانا في قمة السعادة والنشوة والفرح، وكنت أظن انه بمجرد نجاحك في هذا الامتحان يتم توظيفك مباشرة، لكن الامر مختلف تماماً وصدق من قال ياراقد الليل مسروراً بأوله.. إن الحوادث قد يطرقن أسحارا..
وإلى الملتقى غدا بإذن الله تعالى.. مودتي وبالغ تقديري ايها الأحبة