ذهبتُ إلى مكتب الدكتور محمد عبدالرب النظاري، وهو عالم صوفي كبير من منطقة بني غازي بالحجرية، وأعتقد انه لازال إلى اليوم كبير المفتين في دائرة الافتاء بدبي منذ عام 1994، وعندما وصلتُ إلى مكتبه وجدت مدير المكتب وبعض الموظفين الآخرين الذين استقبلوني استقبالاً رائعاً عندما عرفوا اني يمني ومن بلاد الدكتور محمد، لكنهم قالوا لي انه لم يأتِ اليوم وأعطوني رقم هاتفه وعنوان بيته..
سألتهم عن عنوان بيته أين بالضبط فوصفوه لي بأنه يسكن في جامع الفاروق، قريب من بيت الشيخ سعيد على الخور في بر دبي، يعني في الناحية الثانية من الخور..
كانت هناك صورة معلقة للمسجد فأشاروا لي عليها وقالوا انه ذات المسجد الذي يسكن فيه الدكتور، وللمصادفة الجميلة انني وانا ماشي في الصباح على الخور قبل نادي دبي للصحافة رأيت المسجد الذي أسرني موقعه وجماله فجلست أتأمله طويلاً، ولم ينسوا ان يخبروني ان اركب تاكسي وهو سيوصلني إلى جنب المسجد، لكن احدهم قال انصحك نصيحة بدل ماتاخذ تاكسي لهناك بياخذ منك اقل شيء 30 درهم لانه بيطلع من جسر القرهود ويلف لفة طويلة، اركب تاكسي بعشرة درهم للعبرة وبعدين اركب العبرة لجنب المسجد..
لم افهم مايقصد بالعبرة ولم استمع له جيداً لأني كنت قد قررت إلى اين سأذهب، فقد رأيت القوارب الصغيرة في الصباح تأخذ الناس من ضفة الخور التي هنا وتنزلهم في الناحية الثانية قريب من المسجد، ولذلك قررت ان اعود اليهم واركب ذلك القارب..
خرجت مسرعاً من نفس الطريق الذي جئت منه وتحت الشمس المحرقة والجو اللاهف كأنك تقف على تنور وذهبت إلى موقف القوارب التي رأيتها الصباح، وهنا فوجئت بلوحات ارشادية بعدد الركاب وقيمة ركوب الفرد وهكذا، وكانت تسمي القارب عبرة؛ ففهمت قصد الموظف الناصح في الوزارة، وانه كان يقصد ان اخذ التاكسي إلى هذا المكان..
ركبت العبرة بنص درهم من الدراهم التي اعطانيها الاخ محمد عبدالباري الخامري ونزلت في الناحية الثانية، لكني فوجئت بأن مابين نزول القوارب والمسجد لايوجد ممر على الخور، وان من يريد الذهاب للمسجد فعليه ان يقطع مسافة لاتقل عن اثنين كيلو من خلف البيوت القديمة وسوق الظلام ان لم تخني الذاكرة وهو من الاسواق الشعبية القديمة هناك..
مشيت المسافة وانا أسأل عن المسجد حتى وصلت قبل العصر بنصف ساعة تقريباً، وكان في ملحقات المسجد رواق طويل مبني على الطراز القديم، تظللت فيه وهو مفتوح من الجانبين مما يسمح بتيار هواء وإن كان ساخناً لكنه افضل من الشمس..
فتح المسجد ودخلت اتوضأ ثم صليت الظهر والعصر، وبعد الصلاة تلفت يمينا ويساراً كي أرى الدكتور النظاري إلا اني لم أره..
تقدمت لامام المسجد وسلمت عليه وسألته عن الدكتور فقال لي ربما مشغول سيأتي في المغرب، لاحظت من لهجته انه يمني، فسألته هل انت يمني قال نعم.. فرحت كثيراً، ثم قال تعال ندخل المكتبة لما يجي الدكتور، فرحت بالعرض الذي سيبقيني في التكييف بدلاً من الانتظار خارج المسجد في الحر الشديد..
دخلنا المكتبة وبدأنا نتحدث ونتعارف وفجأة يدخل والده، يمني من حق دمنة خدير، كبير السن وجهه منور ولحيته بيضاء ويقول لولده يالله يادكتور الغداء جاهز انت وصاحبك.. حاولت اتملص وانا جائع لكنه أصر والاب دبج يمين إلا تدخل مع الدكتور تتغدوا..
كنت احس انه منتشي بولده ويناديه بالدكتور استلطافاً وحبا له ولمكانته، وتذكرت والدي حينما كان بعض الاحيان يعجب بإنجاز ما كالتفوق في المدرسة او التكريم في التحفيظ او اي شيء يعجبه فيقول الدكتور اليوم يرفع الراس.. رحمه الله واسكنه فسيح جناته..
تغدينا وشربنا الشاهي، وبعدها سمعنا صوت سيارة تدخل الحوش فقال هذا الدكتور وصل، طبعا فوجئت فيما بعد، ربما بعد عدة اشهر؛ ان هذا الرجل الطيب هو العلامة الكبير الدكتور احمد عبدالعزيز الحداد صاحب المؤلفات الكثيرة ورئيس دائرة الافتاء بدبي حفظه الله ورعاه ورحم والده الرجل الطيب، وقد استضفته في لقاء صحفي مطول في صحيفة الوحدة..
ودعت الدكتور احمد وخرجتُ لأرى الدكتور النظاري لكني لم أجده، كان قد دخل البيت فاستحيتُ ان ادق عليه الباب فأزعجه ثم اطلب وظيفة.!! قررت ان انتظره في الخارج إلى صلاة المغرب، وجلستُ في ذات الرواق السابق..
من محاسن الصدف ان الدكتور احمد كان خارج باتجاه سيارته فرآني جالس في الرواق، قال مالك ماتطلع، قلت لا، يمكن وصل تعبان او شيء، خليه وبانتظره للمغرب، قال الجو حار مايصلح، ثم اتصل بالهاتف واخبر الدكتور النظاري ان معك ضيف منتظر في الخارج، فأرسل الدكتور النظاري احد مرافقيه ليدخلني ودخلت إليه وانا خجلان جداً، لان الدكتور الحداد أخبره بأني من بيت الخامري وهو يعرف الحاج مقبل محمد سعيد والحاج سيف احمد الخامري رحمه الله واسكنه فسيح جناته صاحب البطاريات، وسيظن اني مرسل منهم لاسيما وانه استقبلني استقبالاً حافلاً وبطريقة مخجلة، فقلت في نفسي بعد هذا كله كيف اقول له اني جئت ابحث عن عمل..
رحّب وسهل وشربني من الشاهي الخاص به، المحلى بالعسل الصافي الخاص، وسألني عن أحبابه من الاخمور المتصوفين رحمهم الله، وتناقشنا في كل شيء وانا محرج كيف افتح معه الموضوع..
أذن المغرب فنزلنا وصلينا وجلسنا في المسجد وهو يجيب على بعض الاستفسارات والفتاوى ويتبسط مع اهل الحي ويناقشهم، وانا اخذت مكاناً قصيا في المسجد، أرقبه وأحاول اشجع نفسي على الكلام، وأحسستُ ان مجيئي للبيت كان خطأ وانني في ورطة، كان في داخلي صراع رهيب جدا، نفس لوامة لماذا لم تنتظر للغد وتقابله في المكتب، ونفس تقول توكل على الله وتقدم واطلب، وثالثة تقول انسحب وسلم عليه، لكن إلى أين..؟!
صراع رهيب استمر لساعة وربع تقريباً هي الفترة بين صلاتي المغرب والعشاء، وكل هذه الفترة والشيخ يرقبني دون ان أحس بذلك..
صلينا العشاء وقمت اصلي الوتر واتوجه إلى الله بالدعاء والابتهال ان تكون زيارتي هذه مفتاح الخير وان يعينني على الكلام وفتح الموضوع..
بعد ان انتهينا ونحن في طريقنا للخروج من المسجد أمسك الدكتور بيدي وهو يتحدث لغيري من الخارجين وطلعنا البيت، ودخل هو داخل البيت، وانا بقيت في الديوان مع الشباب الذين يرافقونه وأعتقد أنهم موظفين في ذات الوزارة، وكانوا جميعا من اقاربه..
بعد ساعة تقريباً خرج الشيخ وقال لاحدهم ادخل هات العشاء..
تعشينا ثم طلب مني ان ادخل معه لغرفة في الداخل وسكب لي شاهي وعليه عسل صافي طعمه لايُنسى، ثم قال احسستُ بأنك مهموم، ايش عندك، وهنا قلت اللهم لك الحمد، قطع عليّ نصف المسافة..
بدأت احكي له من مشاكل الحديدة إلى انتكاسة جامعة صنعاء، إلى هروبي من اليمن حفاظا على عقلي من كثر الصدمات التي تلقيتها..
قال، والان ماهو المطلوب قلت له اشتي اقامة، وأسهل اقامة وافضلها في هذه البلاد الاقامة الحكومية، وانا حافظ للقرآن، لو تشوف لي اي وظيفة مؤقتة امام او مؤذن ربما تكون بداية لأن يفتح الله علينا في هذه البلاد.. قال الله المستعان، جئتَ في الوقت الخطأ، في الصيف كل المصالح تتعطل لأن اهل هذه البلاد يهربون منها، ولجنة الاختبارات في الوزارة عندنا قد توقفت منذ اسبوعين، لاحول ولا قوة الا بالله العلي العظيم، ومسك لحيته وهو مطنن، وانا مكبود جداً وكأن الدنيا اغلقت في وجهي..
لازالت المئة الدولار في جيبي.. اراكم غدا بإذن الله..