عندما رأيت الأخ محمد عبدالباري سعيد الخامري، لم أصدق نفسي، لم اكن اعلم له عنوان ولا اين يعمل، وهو ابن قريتي وزميل الصف الاول الابتدائي فقط.. تسالمنا وتعانقنا طويلاً وأخذني إلى المحل الذي كان يديره وهو محل خردوات وادوات نسائية اسمه (مملكة الهدايا) قريب من مسجد نايف، شربنا شاي حليب وجلسنا نتجاذب اطراف الحديث عن الاحوال وصنعاء والقرية لأكثر من ساعة، ثم سألني هل تعشيت ام لا، وانا لاازال بلا غداء، فقلت لا وعرضتُ عليه ان أعشيه، فمسك دقنه وقال الله المستعان، انت ضيف والمفروض نذبح لك، ثم اخذني إلى مطعم ايراني في الناصر اسكوير وتعشينا بـ13 درهم، لازلت اذكرها لاني حولتها آنذاك إلى ريال يمني وكان مبلغ كبير..
كان عشاء رائع بروعة الاخ محمد الذي سألني بعد العشاء عن الفندق الذي اسكنه كي يوصلني، فقلت له فندق مرحبا، لكني اشتي اتمشى بعد العشاء وأتعرف على دبي، فتمشينا سوياً إلى الساعة 11 تقريبا ثم وصلنا إلى محطة الباصات واستأذن بالرحيل لأن هذا الوقت هو آخر موعد للباص الذي سيأخذه إلى منطقة سكنه، حيث كان يسكن عند كريمته..
ودعته على وعد ان نلتقي صباحاً في المحل، وبعدما مشى كانت شوارع دبي تتغير شيئاً فشيئا..
المحلات، تقريبا كلها اغلقت، والناس روحوا بيوتهم، وحركة السيارات خفت كثيراً، وبدأت تدب حركة أخرى في الشوارع الضيقة لسوق نايف وهي خروج نساء الليل وماادراك مانساء الليل، بائعات الهوى والمتعة الحرام عافانا الله واياكم..
خرجن إلى الشوارع من كل الجنسيات العربية والافريقية والايرانية والاوروبية، وكل واحدة تسألك عن طلبك، وتلمح لك وتغمز وتضحك وهلم جرا..!!
بدأتُ اترقب ظهور اللصوص بعد موجة بنات الهوى، وخفت على رأسمالي المئة الدولار وساعة الرولكس الثمينة حق الوالد رحمه الله، التي كانت في يدي، رغم وجود سيارات الشرطة المنتشرة في السوق، لكني عندما رأيتهم لايحركون ساكناً تجاه تلك النساء اللاتي كان بعضهن بلا ملابس الا مايستر العورة المغلظة فقط؛ توجست منهم الخوف لا الأمن، وعلمت فيما بعد ان قوانين الشرطة في دبي تحرم المساس بحريتهن مالم يشتكي او يتضرر احد منهن..
هربتُ لمحطة الباصات وكان فيها محل بقالة مفتوح وكراسي انتظار، كانت الساعة تشير إلى الثالثة بعد منتصف الليل، وانا في شدة الارهاق النفسي والتعب الجسدي، وثيابي مبللة بالعرق من شدة الحر، ورأسي لم يعد يحملني..
تمددتُ على مجموعة الكراسي في المحطة ورحت في نوم عميييق من شدة التعب..
قمتُ على صوت الأذان فذهبتُ للصلاة، وكان المسجد مكيفاً، شعرتُ بأني دخلتُ الجنة بالهواء البارد وصفوف المصلين، بعد حر الشارع وبنات الليل..
وبعد الصلاة سحبت نفسي إلى الجدار ورحت في نوم عميق، وماهي إلا لحظات حتى جاء موظف المسجد، وكان من الجنسية الهندية وطلب مني الخروج لانهم سيغلقون المسجد، طلبت منه البقاء قليلاً لكنه رفض وقال ممنوع.. استأذنته ان ادخل الحمام، فوافق بعد إلحاحي الشديد عليه..
دخلت الحمام وغسلت ثوبي بصابون سائل كان موضوع لليدين، ووضعته فوق خزان ساخن كأنه غلاية للماء كي ينشف، ثم اغتسلت ولبست نفس الملابس لان ملابسي في الشنطة بالفندق.. وطول فترة بقائي بالحمام والهندي المسكين يصيح (جلدي جلدي صديق) يعني أسرع ياصديقي..
خرجت من المسجد وانا منتشي بعد النوم البسيط والاستحمام، وذهبت إلى محل الاخ محمد لكن الوقت لازال مبكراً، كانت الساعة تشير إلى السابعة وهو يفتح التاسعة.. خفتُ ان يتهور الاخ محمد ويعمل لي مفاجأة ويمر يسأل عليّ بفندق مرحبا، وذهبت إلى جوار الفندق تحسباً لذلك التخمين الذي كان واقعاً بالفعل، إذ رأيته ينزل في موقف الباص القريب من الفندق..
دخلت الفندق أسأل عن اسعار الغرف ثم خرجت لألتقي به في الباب وكأنني نازل من الفندق، وقال الحمدلله اني حصلتك قبل ماتخرج، وسألني هل فطرت قلت له نعم لأن الفندق محجوز بالفطور..!!
وصلنا المحل وطلب من احد عماله الهنود ان يجيبوا له الفطور اليومي وهو عبارة عن براتا هندية أشبه بخبز الطاوة لكنه صغير الحجم وشاهي حليب، وحلف عليّ ان آكل معه لأنه سيذكرني بالخبز حق البلاد.. وبينما نحن ناكل كان يشرح لي خيارات المعيشة في دبي وان بإمكان الشخص ان يفطر حبه براتا بنصف درهم وشاهي حليب بنصف آخر، او ممكن يفطر بألف درهم في بعض الفنادق والمطاعم الشهيرة، وانا استوعب الاسماء والاسعار وأحفظها جيداً لأني استمريت بعدها 3 اشهر في أبوظبي على البراتا والشاهي الحليب وسنصل لتفاصيلها لاحقاً..
ناقشنا ماهو المتاح للحصول على إقامة في هذه البلاد فاتفقنا على التقديم في ثلاث جهات وهي الاوقاف والصحافة والشرطة لان غالبية شرطة دبي آنذاك كانت يمنيين..
كنت قد تجهزت من اليمن بعمل عدة نسخ من الـCV الخاص بي مع نسخ من الاخبار والمقالات والصحف التي عملت بها..
الوجهة الأولى كانت الاوقاف لانهم في الصيف يتوقفون عن التوظيف، وكان املي انهم لازالوا يقبلوا، ولأن معنا الشيخ الدكتور محمد عبدالرب النظاري كبير المفتين انذاك بدائرة الافتاء بدبي وله كلمته فيها، وكنتُ قد التقيته مرارا في صنعاء مع السيد عبدالباري السروري رحمه الله في منزل الحاج مقبل محمد سعيد الخامري رحمه الله واسكنه فسيح جناته، وقررت ان اذهب لمقابلته وطلب التوظيف..
سألتُ محمد عن مكان الاوقاف فقال خذ تاكسي وهو بيوصلك، قلت وهذه فكرة عظيمة (وانا اضحك في نفسي).. وبينما كنت اودعه كانت أمامه علبة زجاجية فيها الكثير من العملة المعدنية، فئة درهم ونصف الدرهم، فسألته ليش هذي هنا، قال خردة لاحتياجات المحل لأن الفكة صعبة هنا، وأدخل يده فيها وقال خذ هذي بتنفعك فكة لأن غالبية التكاسي ماعندهم فكة فياخذ عليك خمسة درهم، واعطاني تقريبا 4 او 5 دراهم عملة معدنية، وأقنعني آخذها بالقوة لأن الفكة صعبة في دبي..!!