عندما خرجتُ من فندق الإخلاص واجهني أحدهم بسؤال مباشر: مااداك هانا يااستاذ.. لم اكن اعرفه، لكني استأنستُ بلهجته الصنعائية بين بحر متلاطم من الهنود والبنغال، فسألته هل يعرفني قال نعم كنت تصلي بنا التراويح في جامع الاسطى، وبتخطب الجمعة في جامع باب القاع أول التسعينات..!! أحسستُ تجاهه بالألفة فتجاوبت معه، وسألني عن وجهتي فقلت له ابحث عن فندق مناسب، وبحسب معرفته أخذني إلى اربعة فنادق وكل فندق أغلى من الآخر بسبب الصيف، وكان ارخص فندق وجدناه أتذكر اسمه سيكا بـ450 درهم بالليلة، وانا معي 100 دولار يعني 370 درهم فقط، أقل من قيمة ليلة في الفندق.!! ???? كان الكوكباني، هكذا عرفني باسمه، في أواخر الخمسينات من عمره تقريباً، وانا عمري حينها 26 سنة، كان طيب جدا، عكس حمود تماماً.. آنس وحشتي وبدد غربتي رغم انه لم يُسقني شربة ماء، قال انه يعمل في تجارة مواد البناء والكهربائيات؛ أخذ يسرد لي كيف انه كان وجماعته معجبين بصوتي في القران وحبهم لي لأني كنت صغير ومستقيم، بل وكان يدعو لي في ظهر الغيب ويتابع أخباري ويفرح عندما يسمع عني أخبار طيبة كما قال رحمه الله حياً وميتاً.. ???? أعادني الكوكباني الحالي عشر سنوات إلى الوراء، إلى عام 90 تحديداً عندما عدت من السعودية وكان عمري 16 سنة، اشتغلتُ في معمل خياطة تابع للمؤسسة الاقتصادية العسكرية، كان عبارة عن هنجر حديدي في المجمع الصناعي بصنعاء، كنتُ أدخله الساعة السابعة والنصف صباحاً إلى الساعة السادسة مساء.. رغم هروبي من الخياطة وعدم طاعة الوالد رحمه الله في تعلمها، وتحملي الكثير من الضرب والكلام؛ إلا ان الله ساقني إليها في صنعاء بسبب ان كل الشباب الذين كنت اسكن معهم في احد حوانيت الصافية وهم من أبناء الاخمور العائدين من السعودية أيضاً اشتغلوا في ذلك المعمل، وأوجدوا لي عمل بسيط معهم وهي الحباكة.. كنت كارهاً للعمل لكنها الضرورة التي تبيح اكل الميتة، وكنا نخرج من بعد الفجر بين البرد القارس جداً نمشي من شارع الدفاع بجوار العرضي إلى الهنجر خلف وزارة الشباب والرياضة حالياً، وندخله وهو بارد كأنه ثلاجة دجاج مجمد لأنه حديد، ونخرج منه الساعة السادسة للعودة مشياً على الاقدام كي نوفر حق المواصلات، لان المرتب كان 900 ريالا فقط في الشهر.. ???? كانت معنا ساعة واحدة في الظهر نخرج للغداء.. كنا نذهب للغداء وشراء القات من سوق القاع ثم نعود، وانا كنت لاأخزن، فكنت اتغدى وأعود لمسجد الاسطى بشارع الزبيري لصلاة الظهر يومياً، وهناك تعرفت على جماعة المسجد، الوالد علي بن يحيى العماد رحمه الله وأولاده د. احمد DrAhmed وعلي وحسين و حسن و محمد وياسر رعاهم الله، والاستاذ العزي الجومري رحمه الله واولاده محمد Mohammed Al-Jomari واحمد وايمن، والعم احمد الخاشب امام وخطيب المسجد رعاه الله واولاده طه وعبدالباسط، والعم حسين العابد رحمه الله وأولاده يحيى وعصام وعبدالرحمن، وبعد ان علموا أني أحفظ القران طلبوا مني ان امسك مدرسة التحفيظ في المسجد ومعها غرفة سكن تابعة لها.. فرحت بالعرض المغري بالنسبة لي آنذاك وتركت العمل في معمل الخياطة بعد اقل من شهر، وبدأت علاقتي بالمسجد والتحفيظ، ثم طلبوا مني ان اخطب في مسجد باب القاع الذي خلفني فيه الاخ النائب فؤاد محسن دحابة قبل ان ينتقل إلى مسجد باب البلقة، وكان هناك تقييم مستمر لمدرسي التحفيظ، وبناءً عليه تم ترقيتي للتدريس في مركز الفاروق بشارع هائل مع مجموعة من ابرز مشائخ القرآن الكريم في مقدمتهم شيخ القراءات الشيخ محمد يحيى جمعان، والدكتور حاتم الاهدل، والاستاذ عبدالله الاهدل، والخطاط الشهير خالد الورد، والزملاء الأفاضل قدري الجومري واحمد عبيد ومحمد الاسلمي وعبدالرحمن الذارحي وغيرهم.. ???? كانت تلك الأيام جميلة جداً رغم الفقر والجوع والتعب الذي كنت اكابده، فقد كنت استلم من التحفيظ 900 ومن جامع باب القاع 400 ريال فقط، كان العم لطف الرضي متكفل بها، وكان رحمه الله ضابط عسكري كبير ومن انبل من عرفت، كان آخر كل شهر يأخذني معه للبيت، نتغدى ثم يعطيني الشهرية بطريقة راقية جداً.. كنت إلى جانب هذا اعمل في الدروس الخصوصية لأبناء بعض التجار، إضافة إلى ممارسة الصحافة في صحيفة صدى الشعب التي كنت سكرتيرا لها في آخر صدورها ثم أغلقت بسبب خبر عن سكن الطالبات بالجامعة، وصحيفة جهينة التي كان يرأسها الزميل يحيى العابد، وكانت الصحيفتان في ذات البناية، وكان معنا الصحفي القدير احمد الصوفي السكرتير الصحفي للرئيس السابق، والزملاء المذيع في اليمن اليوم محمد منصور والكاتب محمد حسن ﺷﻌﺐ، والزميل نبيل الصعفاني والصحفي سالم الحاج رحمه الله، وكان معنا ايضاً احمد الميسري وزير الداخلية السابق.. كانت الصحافة اليمنية آنذاك بلا مرتبات، لكني كنت امارسها وغيري كثير كهواية لم اتركها منذ الصف الثاني الابتدائي عندما بدأتها من مجلة ماجد الاماراتية وباسم السعودية ومشاعل القطرية، إلا انه كان يوفر لي بعض المصاريف والمواصلات، مايساعدني على إرسال مرتبات التحفيظ والمسجد للقرية لأمي رحمها الله وإخواني الثمانية حفظهم الله (6 بنات ونحن 3)، والحمدلله رب العالمين مشت أيام جميلة، عركتنا كثيراً رغم صغر السن لكنها أسستنا.. ???? فتح الله عليّ ووصلتُ إلى العام 94 حيث نزلت الحديدة وقصة نزولي إليها طويلة جداً، ربما أذكرها لاحقا، وفتحتُ الوكالة التجارية ثم مكتب التخليص الجمركي الذي استمر اربع سنوات، وأغلقت كلها عام 97 كما سبق وذكرنا في حلقة سابقة، حيث دخلنا في الاشكاليات التي أعادتني إلى الصفر، وبدأت بعدها في صنعاء مع مشروع النقل الجماعي للطالبات الذي تم تسليمه لشركة الرويشان بطريقة ملتوية وخروجي منه صفر اليدين عام 99.. ???? دخل عليّ عام 2000 وانا لاأملك إيجار غرفة في صنعاء، وكان العم علي العماد رحمه الله يعتبرني احد ابنائه، وكان يثق بي جداً ويعطيني أمل وطاقة كبيرة بتشجيعه، كان يقول كبوة بسيطة وعترجع احسن مما كنت، كلنا هكذا ننزل ونطلع، وكان يقص عليّ الكثير من القصص الخاصة به ايام الجيش الشعبي وايام الحمدي وبداية حياته وكفاحه رحمه الله.. أعطاني أحد الدكاكين تحت بيته للسكن، وكان عبارة عن دكان صغير على شارعين، وواجهاته الاثنتين حديد، وأرضيته صبة بلا فرش، ولا حمام، وهذه المعلومات لأول مرة أكتبها، ربما حتى أولادي لم يسمعوها من قبل.. لم يكن يعرف موضوع ذلك السكن الا اثنين، العم علي والعزي الجومري رحمهم الله واولادهم فقط.. كنت انتظر إلى مابعد الساعة 11 ليلاً حينما يفرغ الشارع تماماً ثم أدخل بسرعة للمحل، وأخرج منه قبل الفجر لأتوضأ وبعض الاحيان أستحم في حمامات الجامع بماء بارد جداً، خوفاً من كلمة هنا او هناك، تحرجني او تتشفى بي، او ينتقص مني بعض التافهين الذين يُقيمون الناس بما يملكون من اموال فقط، والحمدلله على كل حال، مضت أيام لاعادها الله ولاجزعها على احد.. ???? كان المحل بارد جداً، وكانت تمر عليّ أيام لااستطيع النوم من شدة البرد، حيث كان معي فراش صغير جدا ابو 5 سم، وبطانية خفيفة من حق الجيش، وتحت الفراش كرتون كنت اضعه كي لاتصل برودة الصبة، لكنها كانت تصل وبقسوة عدائية، وأتذكر اني قرأت كتاب شاهد على اليمن للاستاذ احمد جابر عفيف رحمه الله في ليلة واحدة وهو كتاب يزيد عن 350 صفحة تقريباً، لأن البرد كان شديداً ولم استطع النوم، والكتاب أيضاً سلس في كتابته وانا أهوى قراءة المذكرات، فواصلت قراءته كاملاً.. ???? نعود إلى دبي وإلى الكوكباني الحالي الذي تعب من شدة الحر واحنا بنلوي في شوارع ديرة دبي، فأعطاني رقمه وقال انه مشغول لانه سيسافر الصين غداً ونتواصل على خير.. وقبل ان اودعه تذكرت ان معي قريب لي في شرطة دبي له اكثر من 25 سنة آنذاك، ابن عمة امي، وكانت الوالدة تذكره دائماً وتظن انه اصبح ذو شأن وربما يوظفني في الشرطة.. المهم أخذتُ تلفون الحاج الكوكباني واتصلت عليه فذكرته باسمي واسم ابي وجدي، قال لايعرفني، قلت له ابن زيون محمد عثمان بنت خالك، قال بنت خالي محمد، وانا فرحت وقلت له ايوه ايوه، قال والله ماعد اتذكره..!!???? قال ايش المطلوب، قلت له انا جيت من اليمن وابحث عن عمل، أي عمل آخذ عليه الإقامة وبعدها سيفرجها الله، قال خلاص هذا رقمي عندك ونتواصل يوم الجمعة الجاية؛ لو معي وقت نشوفك.. طبعاً هذا الكلام كان يوم السبت، يعني انتظره اسبوع عشان يشوفنا لو معه وقت..!! قطعت رقمه، وأضفته جنب حمود الذين أتحداهم ولااحتاج لهم ان شاء الله، وحلفت يمين ألا أراه أو اتعرف عليه، وهذا ماحصل طيلة غربتي في الإمارات وحتى خروجي منها، فمن لم يزرنا والديار مُخيفة.. لامرحباً به والديار أمانُ.. ودعتُ الكوكباني الحالي بكل ود وتقدير وامتنان لكرمه في تبديد وحشتي وتعريفه لي ببعض الشوارع التي استمريت امشي فيها بلا هدى، ولاادري ماذا أريد.. أذن لصلاة العشاء فدخلت اصلي في احد المساجد وأظنه مسجد نايف، وبينما انا خارج بعد الصلاة لمحتُ صديق الطفولة محمد عبدالباري سعيد الخامري الذي دخلتُ معه في معركة حول اسم (محمد الخامري) لانه معروف هكذا في دبي منذ سنوات، وانا لابد ان ابحث لي عن معرف خاص بي..