وصلتُ الى بيت جدي علي اسماعيل .. وسلمت على جدتي: آمنة شاهر ،الزوجة الثانية لجدي والتي انجبت له ابنا وحيدا هو :خالي الرائع :عبد الله علي اسماعيل الرازحي . كانت صغيرة مقارنة بجدي، وكانت جميلة، حتى ان جدي من حبه لها اخذها معه الى عدن، وهجر جدتي ، وهجر القرية الى الابد.
لكن جدتي بعد ان هجرها جدي تفرغت لممارسة سلطتها :سلطة النقد، وسلطة الاحتجاج على الباطل. كانت تصعد كل صباح الى دكتها في سقف الدار المشرف على ساحة القرية وتنتقد الخطأ حيثما كان، ومن اي جهة يصدر. وتحتج باعلى صوتها ضد ظلم الحكومة لاهالي القرية، وضد الظلم الذي يلحقه اهالي القرية ببعضهم البعض، وتنتقدكل سلوك تراه غيرسوي، و كل عملٍ تراه بمقاييسها ناقصا، وغير مكتمل.
كان جدي قدترك لها شيئين اثنين .هما: الراديو والناظور. وبواسطة الناظور ..كانت تراقب كل شيئ.. سلوك الناس، وسلوك البهائم ،وتعرف من جاء ومن ولى، من دخل القرية، ومن خرج وغادر. حتى ان اهالي القرية اعتقدوا بان لديها مرآة النسور وكانوا يقولون : -نُعْم نُعْمَان تشوف اللي مانشوفه وبواسطة الراديو كانت تسمع اخبار العالم وتقوم بنشرها قبل ان يعلموا بها وكانوا يستغربون من معرفتها بشئون العالم ويقولون وهم مندهشون : - نعم نعمان تعرف اللي مانعرفه . وبفضل الناظور والراديو تمكنت جدتي من فرض سلطتها ..حتى صار الكل يهابها ،ويخاف نقدها ،ويحسب حسابها . اتذكرُوهي تودعني عندمشارف القريةانهاكانت في غاية الفرح والحماس وكأن سفري الى عدن للدراسة هو كل ماتتمناه وتحلم به. يومها قالت لي وهي تناولني ايجار السيارة ومصروف الطريق :
- اول ماتوصل عدن ..خلي جدك يسجلك بالمدرسة.. واجلس فوق دروسك.. أوْنَا كنت تهرب من المدرسة ..واني اجري بعدك.. وبعدا ،ابوك الله لاسامحه شغَلك بالحمار تجري بعده .. وكنت اقول لك ياعبد الكريم .. الحمار ماشنفعكش.. شتنفعك دراستك. ذلحين التهم على الدراسة ..وكن ذاكر كثير ..والعب قليل ..انت لَهِيم لكن مُوينفع اللِّهم وانت كسل تلعب وماتذاكرش.
قلت لها وانا اضع النقود في الكيس : -"ولا يهمك ياجدة شاكون العب قليل واذاكر كثير ." وبعدان ودعتُ جدتي ،والقيتُ نظرة اخيرة على قريتي. تحدّرت دمعتان من عينيّ، وسالتا على خديّ ،ولخشيتي من ان تبصر دموعي.. قلتُ لها بصوت عالٍ وانا ادير ظهري لها : -مع السلامة ياجداااااه ورحتُ اهبطُ المنحدر المؤدي الى (نقيل حُصْمَاتْ )وكيس النوم يلوحُ فوق ظهري اشبه بالحَدَبة . كان كيس نومي هو حقيبة سفري.. فيه ملابسي المهترئة ، وحقيبتي المدرسية .وهي حقيبة من نفس نوعية قماش الكيس "المُرَيْكِنِي " الذي يكفّنون به الموتى. لكن الحقيبة هذه المرة ،لم يكن فيها دفاتر، وانما فيها زلابية. وهي كرات صغيرة لذيذة ،تطبخ بالزيت .وكانت بالنسبة لي وجبة ذهبية ،لايمكن مقارنتها بغيرها من الوجبات والاكلات، حتى اني كنت حين اهرب من المدرسة يعيدونني اليها بقوة الزلابيا ،وليس عن طريق القوة. كانت امي بمناسبة سفري الى عدن قدبكّرت وعملت لي فطور الوداع :زلابيا. وبعد ان فطرتُ وضعتْ لي مايكفي داخل حقيبتي المدرسية زُوّادتي للطريق
وفيما رحت اهبط (نقيل حُصْمَات ).ترامى الى مسامعي صوت جدتي وهو آتٍ من بعيد ..وكان ان وقع على اذني وقوع حجر في الراس : -كن ارقد ببيت جدك لكن إلتَهِم تبول.
وقلت بيني ونفسي : مالها جدتي مالقتش كلام تقوله لي غير هذا الكلام!!. ولشدة انزعاجي تعثّرتُ في طريقي بحجروانقطع الشنبل.. حتى اني بعد انقطاعه القيت به بعيدا، ومشيتُ حافياً الى ان وصلت مقهاية عبد الله سيف الذي بدا مستغربا وقال يسالني : - مالك اليوم اجت حافي بلاشنبل وبلاحمار !! وبعدان اخبرته بخبر حماري الذي سحبه السيل في وادي الشَوّيْفة زعل مني وراح يوبّخني لاني لم اسمع نصيحته . وكان عبد الله سيف اول مااصل مقهايته يقدم لي الغداالمعتاد : -روتي وصاص(صانونة ) اماهذه المرة فقد حملت غداي معي.. وتغديت الزلابيةمع الشاهي. وسالني عبد الله سيف وهو يقدم لي الشاي عما انوي فعله !! وهل جئت الى الراهدة لاشتري حمارا بدلا عن الحمار الذي ذهب مع السيل!! وحين قلت له بانني مسافر الى عدن اعتقد بأنني هربت على اهلي ..لكني اخبرته باني لم اهرب ولست هاربا وقلت له : - الحمار راح وانا رايح عدن ادرس . قال :من في بعدن من اهلك ؟ قلت : اخوتي سيف وعبد الحليم وعبد الحكيم واخوالي عبد الوهاب ومحمد قال :ومع من شتسافر لاعدن من معك ؟ قلت : مافيش معي مسافرين من القرية وجدتي قالت انزل عدن ادرس وجابت لي حق السيارة ومصروف الطريق . قال محتجا: كيف تسافربأمر جدتك وابوك عايش!! وكيف يخلموك تسافر وحدك !! قلت : ابي يفتجع من جدتي.. وامي تفتجع من جدتي.. وكلهم بالقرية يفتجعوا من جدتي . قال : وانت مش خايف تسافر وحدك ! قلت : الا خايف.. لكن انااشتي انزل عدن وجدتي قالت ان اخوتي وجدي واخوالي بايجو لي لاعند السيارة يستقبلونا . ولاحظ عبد الله سيف باني ضقتُ باسئلته ،فعاد الى مجلسه، وقال لي وقدلاحظ مدى شغفي بالزلابية : - في عدن مافيش زلابية . وكان ان صدمني بكلامه فلم اكن اتوقع ان مدينة مثل عدن تخلو من الزلابية ولحظتها شعرت بالاحباط، وبالخوف من السفر لوحدي، وفيما كان صوت في داخلي يوسوس لي بالعودة الى القرية . سمعت في الخارج صوت الجرشبل وهو ينادي : - عدن يامسافرين عدن باقي نفرين عدن يامسافرين عدن باقي نفرين عدن يامسافرين عدن باقي نفر وكنت آخر راكب واصغر راكب لكني لحظة انطلقت السيارة بنا باتجاه عدن شعرت اني كبرت وباني كبير .
لم يكن جدي موجودا عند وصولي وبعد ان جاء وسلمتُ عليه لم اشعر بانه فرح، او اندهش، اوحتى سأل كيف! ومع من جئت !! كان جافا ويبدوغاضبا اومهموما وبمجرد ان سلمت عليه عدت للثرثرة مع بنت خالي التي كانت في غاية اللطف . كانت هي وصديقاتها عندما وصلت ولانهن في سن مقارب لسني فقد فرحن بي، وفرحت بوجودهن ،وبالحديث معهن .
وعندما دعوني الى العشاء قلت لهم باني تعشيت وفعلا كنتُ شبعانا من الفاصوليا التي قال عنها شباطة بانها طعام السلاطين. وكنتُ اشعر لحظتها وانا اثرثرمعهن باني سلطان. كنتُ اقول كلاما مدهشا يعجبهن ،ويثير دهشتهن ،ويدفعهن للضحك. وكانت الكلمات تخرج من فمي بيسر وسهولة ،وتترك اثرها في نفوسهن .وكانت ردود فعلهن تشعرني بأني لست ذلك القروي الممخط الذي يسخرون منه وان بمقدوري ان اسخر من اي شيئ ومن اي كان واثير الاعجاب. ليلتها حدثت بنت خالي وصديقاتها عن عالم القرية وكنتُ متجليا ،وفي كامل لياقتي الذهنية، وكانت معنوياتي عالية ..لكن فيما بعد عندما جاء الحديث عن المبيت وعن النوم تذكرت وصية جدتي: - " كن ارقد ببيت جدك لكن التهم تبول " عندئذ انهارت معنوياتي وفقدتُ لياقتي في الحديث، وبدا علي الارتباك، ورحت اتعثر بكلماتي .وبعد ان كنت اتكلم بكلمات مدهشة وتخرج من فمي بسهولة وبدون جهد، وجدتني اتلعثم ،ووجدت نفسي بين فكي كماشة الخوف، وقلت بيني ونفسي : - لو نمت في بيت جدي سوف انهض الصباح وفراشي مبلول وعندها سوف تكون فضيحة وسيعرف كل من من في البيت.. بمافي ذلك بنت خالي وصديقاتها.. بأن سلطان الليل اصبح " سلطان البول " ولوانا غادرت بيت جدي ..وعدت الى بيت ابن عمي.. سوف اضيع. وبين الفضيحة والضياع اخترت الضياع. ورايت بان من الافضل لي ان اضيع بدلامن ان افتضح . ليلتها ،وانا اهم بالمغادرة ..سالتني زوجة خالي عبد الوهاب ان كنت استطيع العودة بمفردي الى (سوق الاتحاد ) فاجبت بالايجاب. وحسنا فعَلَت بذكرها للعنوان " سوق الاتحاد " فقد لصق الاسم بذاكرتي، ومنحني شعورا بالامان. وقبل خروجي مررت اودع جدي الذي ادخل يده في جيبه واخرجها مليئة بقطع معدنية من فئة الشلن ومدّ بها الي. وفي الشارع، على ضوء عمود الكهرباء ..رحت اعدها ،وشعرت بان جدي كريم بالمال بخيل بالكلمات .لكن في تلك اللحظة كنت بحاجة الى شلناته وليس الى كلماته . كان اول شيئ فعلته بعد خروجي من بيت جدي هو اني مررت على سينما هريكن وتوقفت اتفرج على ملصق الفيلم الذي توقفتْ عنده البنت الخضراء . وقد لفت انتباهي وانا احملق في الملصق صورة امراة جميلة تنحني فوق رجل مطروح على الارض وتبوسه. كانت تلك اول مرة في حياتي ارى صورةً لامراةٍتبوسُ رجلا. ثم وقداشبعت عيني من التحديق في الصورة ..رحتُ احدق في الكلمات،واقرا الكلام المكتوب في الملصق : - اسم الفيلم ،واسماء الممثلين. ولم اكتف بقراءتها ..وانما رحت أتحفّظها وكأنني داخل على امتحان، او كأنهم لن يسمحوا لي بدخول السينما ان لم احفظ اسم الفيلم واسماء الممثلين. كنت قد قطعت عهدا على نفسي بعد كلام شباطة باني لن أسينم لكن فيما بعد عندما وضع جدي كل تلك الشلنات في يدي اجتاحتني رغبة عارمة في المغامرة ولم يعد يهمني ليلتها إن كانت السينما سوف تفتح لي ابواب الجنة، ام ستفتح لي ابواب جهنم .
غداً الحلقة الثانية عشر.