ثمة احداث ووقائع تظل حاضرةً و طريةً في الذاكرة.. وتزدادُ حضوراً وطراوةً كلما مر عليها الزمن .لكأن ثلاجة الذاكرةتحفظ لنا مايهمنا من وقائع واحداث، ومانحتاج لاستحضاره واسترجاعه .
لاادري كم كان عمري حينها !!خمس ،اوست سنوات!! لكني اذكر باني سمعت جدتي عصر ذات يوم وهي تحدّث نساء القرية عن اخي عبد الحليم .وتقول لهن بفخر، وزهو بانه الوحيد من ابناء القرية الذي يشتغل عند النصارى . و حين سالنها عن السبب ؟ولماذا هو الوحيد الذي يشتغل عندالنصارى ؟
ردت عليهن قائلة : -"عبد الحليم يانسوان درس بمدرسة النصارى ويخبِّر نصراني" . وبعد ان قالت لهن بأنه درس في مدرسة النصارى ويتكلم نصراني اتسعت حدقات عيونهن من الرعب..
وقلن يسالنها وهن مرعوبات ومستغربات ومستنكرات : - "عبد الحليم بن بنتك فاطمة درس بالمدرسة حق النصارى ويخبِّر نصراني وانت راضي"!! قالت لهن وهي تستخفُّ برد فعلهن : -"موحرام يانسوان لو درس بمدرسة النصارى وخبَّر مثلهم !! " ويومها شعرتُ بأن نساء القرية انصدمنَ بكلام جدتي.. وقد فهمن من كلامها بأن ابن بنتها عبد الحليم.. قرأ ،وحفظ كتب النصارى بدلا من القرآن ..واصبح نصرانيا مثلهم.. يعمل معهم، ويتكلم لغتهم.وانها - اي جدتي - بدلاّ من ان تشعر بالحزن لماحدث.. تبدوفرحة وفخورة !!.
لكنهن وبسبب قوة شخصيتها ،وهيبتها ، لم يجرؤن على لومها، وانما رحن يلقين باللوم على جدي : - "كيف قبل علي اسماعيل يدخّل بن بنته مدرسة النصارى وهو داري انهم كفار وانجاس!! " لكن جدتي راحت تدافع عن جدي وتقول لهن : -"التعليم حق النصارى يانسوان احسن من التعليم حق الفقيه والسيد ".
وحتى تقنعهن بأن تعليم النصارى افضل. قالت لهن وهي تشير إليّ بأنها سوف تطلب من جدي عند نزولي الى عدن ان يسجّلني في مدرسة النصارى التي درس فيها اخي عبد الحليم . اتذكر اني -بعد ان سمعت ماقالته خرجتُ اجري الى ساحة القرية.. ورحتُ وانا الهثُ من تعب الجري ابلِّغ اترابي بالخبر : - "شانزل عدن ادرس بمدرسة النصارى". وراح البعض يشكّكُ في صحة ماقلته. لكني حلفتُ يمينا بأن ماقلته صحيح. ومثلما اعربت نساء القرية عن مخاوفهن عند سماعهن خبر دخول اخي مدرسة النصارى اعرب اترابي عن مخاوفهم وقالوا لي : -" لودخلت مدرسة النصارى شتُوقَع نصراني وربي شحرّق بك بالنار ."
ايامها .. كنتُ اخافُ وارتعبُ من نار وجحيم السيد محمد ناجي.. وكنتُ لشدة رعبي اقعد منكمشاً خلف تلاميذ اكبر مني.. واحاول جاهداً ان ابقى بعيداً عن عينيه، واحرص كل الحرص على عدم لفت انتباهه الى وجودي .
ومع اني لم اكن قد سمعتُ عن طاقية الإخفاء تلك التي بمجرد ان تضعها على راسك حتى تختفي عن الاعين. إلا اني في اعماقي كنت اهجس بها ،واحلم بشيئ مشابه لها يجعلني مخفياً عن عيني السيد المخيفتين .
حتى انني لشدة حاجتي للاختفاء تحول جسدي لكثرة ماانكمش، وانحنى، وتقوّس الى قوقعة .ومثل السلحفاة ..صرتُ اخفي نفسي داخل قوقعة جسدي.. لكني وانا المختفي عن عيون السيد كنتُ اشاهد كل ماتفعله عصاه . وفي ذات يوم شاهدتُ عصاالسيد تنقضُّ على ابن علي حيدر من (قرية التبَّيْعَة )ورحتُ ارقبُ المشهد من مخبئي بعينين مذعورتين ومختنقتين بالدموع. ومثل الوحش وهو يلتهمُ لحم فريسته رايتُ عصا السيد تلتهمُ لحم ابن علي حيدر وتمزقه الى ان سال دمه مختلطاً ببوله وبرازه . اتذكرُ ليلتها وانا نائم ..انني اطلقتُ صرخة رعبٍ افزعت امي التي فزّت من نومهامفزوعةًوراحت تعذبلُ من الشيطان وتسالني : -"موبك؟ موفجعك؟ منو يكاردك؟" وكنتُ اقولُ لها وانا ابكي واتشبّثُ بها : -"السيد محمد ناجي" وكانت امي تستغربُ كيف ان ابنها يخاف من السيد !!وهي المتعلقة بالسادة!! والمعتقدة بهم!! والمؤمنة بقدرتهم على طرد مخاوفنا،وحمايتنا من اذى الجن والشياطين.!! وفي اليوم التالي وانا في ( مدرسة السيد) ابصرتُ جدتي تدخل المدرسة وهي متجهِّمة ومشحونة بالغضب. وعند دخولها ..قام لها السيد..وقمنا لها كلنا.. وراح السيد من دكّته يحيِّيها، ويرحِّب بها .فقد كانت كريمة معه، لاتبخل عليه بشيئ. وتعطيه اكثر ممايطلب .
وكان افضل وادسم غدا يتناوله السيد محمد هو الغدا الذي يأتيه من بيت جدتي.. كانت ترسل من يحمل اليه الغدا للمدرسة (نشُوف بالعسل والسمن ). ومن دون كلام وسلام ..ومن دون حتى ان ترد على تحية السيد لها وترحيبه بها. دلفت من الباب ..واشارت اليّ ان اتبعها ..وخرجَتْ مثلما دخلت. ورحتُ امشي خلفها وانا مستغرب كيف انها لم تخف من السيد.!! بعد خروجها من المدرسة ظننتُ بانها سوف تتجه يسارا ، وتصعد الدرب المؤدي الى بيتنا.. لكنها استدارت نحواليمين.. ومشت من تحت المدرسة نزولاً باتجاه منطقة "النوبة" وانا مستغرب اسال نفسي : - مالها جدتي الى اين سوف تأخذني !! كانت قد لاذت بالصمت ..وباستثناء صوت ايقاع خطواتها.. لم اسمع لها صوتاً ..ولم اجرؤان اسألها الى اين تقودني !! لم اكن حينها قد ذهبتُ الى ابعد من ساحة القرية ..وكانت تلك اول مرة اذهبُ بعيدا، واهبطُ المنحدر المؤدي الى العالم الآخر . وقد اعتقدتُ ونحن نهبط المنحدر ،ونواصل الهبوط ..بأننا نازلان الى عدن. وكان ماجعلني اعتقدهذا الاعتقاد.. هو حديث جدتي مع نساء القرية.. وقولها بأنني سأنزل عدن ادرس بمدرسة النصارى التي درس فيها اخي عبد الحليم. ثم ان مجيئها الى (مدرسة السيد) واخراجي منها أكد ماذهبتُ اليه. لكن اكثر مارسّخَ في ذهني فكرة ان جدتي ماضية في طريقها الى عدن ..هو ان اختي الكبيرة كانت قد قالت لي ذات يوم بان عدن وراء(جبل الريامي ).
عند اقترابنا من منطقة "النوبة "،ومن (جبل الريامي )قالت لي جدتي وقد احسّت بتعبي: -" باقي قليل ونوصل ". كانت تلك اول مرة تخرجُ عن صمتها وتكلمني.. وعندها تأكد لي بأن عدن وراء الجبل واننا على وشك الوصول. وفي طريقنا كان هناك من يستوقف جدتي ويسلّم عليها.ورايتُ مجنوناً يقتربُ منها فخفتُ ان يؤذيها وقلت لها بصوتٍ خائفٍ لايكادُ يُسمع : - "مجنون ياجدة مجنون" لكن جدتي اقتربت منه، وسلّمت عليه، وتكلمت معه، ولم تخف منه. وبعد ان ابتعد قلت لها : - "موانت مجنونة ياجدة تسلمي على مجنون"!! قالت بان الرجل الذي سلّمتْ عليه هو الدرويش عبد الحق.. وبأنه عاقل وليس بمجنون .
وقد عرفتُ فيما بعد بأن له ديناً غير دين اهل القرية. ( دين الحب) وله اتباع في جميع القرى. وفي قريتناكانت شجون ناشر قددخلت في دينه ،وصارت من اشهر اتباعه .حتى لقد راحت تجاهر بدينها الجديد ، وتبشر به، وتدعوالنساء لاعتناقه، وتقول لهن بأن دين الفقيه هودين الرجال، ودين الدرويش عبد الحق هو دين النساء . وكانت ماتنفك تقول : - "الدين الحق دين عبد الحق". كان التعبُ قد أجهزَعليّ.. لكن هذه المرة لم اكن وحدي الذي تعبت.كانت جدتي هي الأخرى متعبةً مثلي، وربمااكثرمني..
لكنها بدافع الكبرياء لاتريد ان تظهر امام حفيدها ابن الست السنوات بأنها تعبت ..لذلك لم تعترض عندما قلت لها وانا اشير الى شجرة الإثأب : -" تعبان ياجدة خلينا اتربّخ تحت الشُّجْرِي " وسرعان ما وافقت وجلسنا نستريح تحت شجرة الإثأب، ونستظل بظلها الحلو البارد . وفيمانحنُ جلوسٌ تحت الشجرة.. مرّحمّارة يسوقون حميرهم ،ومرّفلاحون، وفلاحات ،ورعاة اغنام ، ومتسولون ، ومجاذيب.
وكان كل من يمرُّ ويبصرُ جدتي يتوقف ويسلم عليهاوالبعض يطلب منها صدقة ..وقدتبين لي بأنها تعرف كل الناس الذين قابلناهم في طريقنا، وتعرف الجن والإنس. وكنت بيني ونفسي اقول : -" من اين تعرف جدتي آذم الناس كلهم وهي جالسة سوم السقف"!! ثم خطر ببالي الناظور الذي تركه لها جدي وقلت اسالها : -"من اين ياجدة تعرفي آذم الناس كلهم ؟من الناظور ؟ قالت جدتي وقد تفاجأت بسؤالي : - مومن ناظور !!
قلت : "الناظور اللي تعايني به اهل القرية من سوم السقف " وكانت جدتي تخفي ناظورها عن الاعين.. ولاتريد ان يعرف بناظورها احد .لذلك انزعجت عندما عرفت بانني اعرف. لقد كان الناظور الذي تركه لها جدي الى جانب الراديو هما أداتها للسيطرة و فرض سلطتها. يومها كان جدي علي اسماعيل هو الوحيد في القرية الذي يملك ناظورا وراديو وبندقية صيد لكن جدتي استخدمت الراديو والناظور وتركت بندقية الصيد معلقة كمالوانها تحفة للزينة. بعد ان اخذنا قسطا من الراحة تحت شجرة الإثأب رحنا نواصل سيرنا وفي طريقنا رايت بيتا على اليمين وكنت عاطشا فقلت : -" ضمئان ياجدة " -" باقي قليل ونوصل "- قالت الجدة - قلت بصوت عال ومفعم بالحماس : " باقي قليل ونوصل عدن ياجدة !! " قالت مستغربة وقد جعلها سؤالي تتجمد في مكانها: - "منو اللي قال لك انحنا شنروح عدن !!" قلت - وقد شعرت بالارض تدور في راسي : - "اين الاّشنروح "؟ قالت : " قرية (بني علي) اسجلك بالمدرسة الجديد ونرجع البيت . وعندها انهار وتهاوى ذلك العالم الذي كنت احلم به.. واذابي اهوي وارتمي وسط الطريق، وارفسُ بقدميّ الارض " اتوذّح " وامرّغ نفسي بالتراب. ومن شدة الالم والقهر رحتُ ابكي بكل مااملك من صوت ..
حتى ان جدتي لشدة ماهي محرجة من علوّ صوت بكائي راحت تصرخ فوقي : -" أُوْصْ،أَصَهْ ،اسكت.. موفي ؟مومعك تبكي ؟موحصل؟ قلت لها وانا اواصل البكاء: -" انت قلتي للنسوان شتنزِّلينا عدن ..وشْتخَلَّيْ جدي يسجِّلنا بمدرسة النصارى قلتِ والّالا ؟" قالت جدتي وقد تذكرت ماقالته : -"آوه قلتُو لهن" قلت :" وانا صدقتك ياجدة.. ورحتو ابشِّر العيال.. وقلتو لهم: "شنزل عدن ادرس بمدرسة النصارى وهم صدقونا.. ذلحين مواقول لهم !!" قالت جدتي : - "واني مُو كذبتُو علوك!! من صدق .. شانزِّلك عدن، واخلِّي جدك يسجلك بمدرسة النصارى. لكن بعدما تكبر !!" و راحت تُغريني بحلاوة الطحينية كيما اتوقف عن البكاء: - "ذلحين اسكت واني شااشتري لك طاحونية " وعلى الرغم من إغراء حلاوة الطحينية الاانني من شدة القهر واصلت البكاء . وعلى صوت بكائي خرجتْ من البيت الذي على يميننا امراةٌ جميلةٌ بطول النخلة.. وفي عنقها طوقٌ من الذهب "لازم " .وبعد ان سلّمت على جدتي ..رفعتني من الارض، واحتضنتي، وراحت تلاطفني ،وترشيني بقبلاتها ،وتسالني عن سبب بكائي؟ وحين حدثتها عن مدرسة النصارى التي وعدت جدتي بأنها سوف تسجّلني فيها.. لم تفهم العلاقة بين بكائي وبين مدرسة النصارى !!وراحت تسألني- وهي تضمني بحنان زائد- : - " موهي مدرسة النصارى؟ هيّا قل لي موهي !! " لحظتها وقد ضمّتني الى صدرها.. وشمَمْتُ رائحة جسدها.. تخدّرت حواسي، وشعرتُ بقشعريرةٍ لذيذةٍ ولذتُ بالصمت. لكني وقد توقفتُ عن البكاء ..رفضت مواصلة السير باتجاه المدرسة وقلت لجدتي : - المدرسة بعييييد.. موقدرنا اروح لهاكل يوم !! ورحت اهدد بأني سوف اهرب من المدرسة إن هي سجلتني فيها . ولحظتها ابصرتُ رجلاً فوق دابةٍ غريبةٍ لم يسبق لي ان رايتُ دابةً مثلها.. ورايته يتقدّم نحونا وكان ان أخذتني الدهشة من ضخامة تلك الدابة،وعلو قامتها، ومن راكبها القصير، وكيف استطاع برغم قصرقامته ان يرقى اليها ،ويركب فوقها.!!ورغم زعلي من جدتي سالتها : - "موهي ذي ياجدة "؟ - "بغلة" قالتها ببساطة متناهية ادهشتني ورحت اسأل نفسي : - كيف عرفت جدتي بأنها بغلة؟ ثم راح بالي الى الناظور ووجدتُ الجواب: - بالناظور الذي تركه لها جدي تعرف الناس والبهائم والدواب . وحين سألتها عن الشخص الراكب فوق البغلة قالت بانه الشيخ ( عبد الرب علي) شيخ قرية(بني علي) قلت : لِمَوْهُوْ معه بغلة وابي معه حمار؟ فكان ردها : -" عبد الرب علي شيخ وابوك عريفه" وقبل ان اسألهاعن الفرق بين الشيخ والعريفة؟وصل الشيخ( عبد الرب علي) واستغرب وجود جدتي في ذلك المكان .
فاوقف بغلته. ومن فوق البغلة .سلم عليها، وحيّاها ،وسألها عن اسمي! ومن اكون !ابن ابنها! ام ابن بنتها! ولماذا ابكي ؟والى اين سوف تأخذني؟ وبعد ان حكت له جدتي الحكاية كلها امرالمراة ذات الطوق الذهبي وكان يعرفها ان ترفعني الى ظهر بغلته وتردفني خلفه. ومن مفارقات حياتي المليئة بالمفارقات هو انني ركبت البغلة قبل ان اركب الحمار . وقدشعرت وانا فوق البغلة بان الارض ابعد ماتكون عني وباني معلّق فلا انا في السماء ولاانا في الارض. وطوال ماتبقى من رحلتنا الى المدرسة ( مدرسة البعث الجديد )كان كل تفكيري يتمحور حول النزول من فوق البغلة ..كيف سأنزل!! ومن ذا سوف ينزّلني!! وتمنيتُ لحظتها لوان المراة ذات الطوق الذهبي كانت معنا لكيما تتكفّلَ بمهمة إنزالي لكنها كانت قد عادت الى بيتها ..ونابت عنها رائحتها التي ماانفكت تلاحقني، وتلحق بي حيثما ذهبت .
كانت رائحتها هي آخر رائحة شممتُها قبل ان افقد حاسة الشم. اتذكر حين وصلتني رسالة جدتي التي تقول لي فيها : ( اخرج من المعهد الاسلامي وادخل مدرسة النصارى ) ان اول شيئ استرجعته وانا اقرأ رسالتها هو رائحة تلك المرأة المطوّق عنقها بالذهب . تلك التي راحت تسألني بشغف : -" موهي مدرسة النصارى؟! هيّا قل لي موهي؟! "