بعد أن وصلتني رسالة جدتي الغاضبة.. والتي تطلب مني فيها ان اخرج من المعهد العلمي الاسلامي وادخل مدرسة النصارى .بقيت حائراً لاادري كيف اتصرف!! ولاماذا افعل!! كنتُ بعد دخولي فيلم (صراع في الوادي)قدكرهتُ الدراسة ،والمدارس، وتمنيتُ لو ان بمقدوري الذهاب الى السينما بدلا من الذهاب الى المدرسة. لكني ولشدة حرصي على ارضاء جدتي، وعدم اثارة غضبها..قررت الذهاب الى مدرسة النصارى لاسجل فيها بدلا من المعهد العلمي الاسلامي. ولاني اجهل عنوان المدرسة ..فقدرحتُ أسألُ المارة في الشوارع عن العنوان . و لم اكن اسألُ اي شخص اصادفه في طريقي.. وانما كنتُ انتقي الرجل الذي يبدولي من ملابسه بأنه متعلم . وكنتُ كلمارايتُ شخصاًانيقاً يلبس بنطلوناً ومعه نظارة اوقلم حبر في جيبه اقتربُ منه واسلِّم عليه وبعد السلام اسأله عن مدرسة النصارى. كان بعضهم يُستفزُّ من سؤالي ،ويلتفت اليّ التفاتةً غاضبةً لكأني جرحتهُ، اوكأني نقضتُ له الوضوء . وبعضهم كان ينهرني ويقول لي : - امشِ من قدامي.. انت باين مافيش معك اهل يربموك . وهناك من كان يقول لي بأنه لم يسمع عن مدرسة بهذا الاسم واكثر من واحد قال بأنه سمع عنها لكنه لايعرف عنوانها . وقال لي احدهم بأن المدرسة التي اسأل عنها موجودة في التواهي وليس في كريتر وثمة من كان يسالني : - ليش تسال عن مدرسة النصارى؟ ايش تشتي منها ؟ وعندمااقول بأني سوف اسجّل فيها يعترضُ وكأنه ولي امري ويقول لي : - لاااا، لو انت دخلت مدرسة النصارى باينصِّروك ولم اكن افهم ماذا يعني بقوله انهم سوف ينصِّروني!! وكان هناك من يخوّفني من الجَبَرتْ ويقول لي : - ياوليد لاتخرج وحدك ..شوف واحد من اهلك يجي معك . انت في عدن. ولوشافوك الجبرت تمشي وحدك بايشمَّمُوك ويشلُّوك لابنجلة الشيطان ويصلبوك. ولم افهم ماذا تعني بنجلة الشيطان ولاماذا يعني بقوله بانهم سوف يصلبوني لكن في تلك الأيام كان الحديث عن الجبرت ،وعن بنجلة الشيطان، وعن الاطفال الذين تم اختطافهم حديث الساعة، وحديث الناس، وحديث الصحف. وكنت كلما سمعت احدهم يتكلم عن الجبرت وعن بنجلة الشيطان يقشعر جسدي من الرعب. عند اقترابي من البنك الاهلي رايت رجلا يقفُ في الرصيف منتظرا توقف السيارات كيما يقطع الشارع. وكنت قدتعبتُ من البحث ومن القاء الاسئلة على المارة . وحين رحتُ اتفرّسُ في وجهه بدا لي الرجل مالوفاً وشعرتُ كمالواني اعرفه . كان يلبس قميصاًابيضَ، وبنطلوناً ازرقَ ،وفي جيب قميصه منديل ، وقلم حبر، وكانت جزمته سوداء تلمع كأنها المرايا . اتذكّر حين سالته عن مدرسة النصارى ضحك ضحكةً من قلبه اوجعتني وجعلتني انفرُ منه، وابتعد عنه، واقول بيني ونفسي : - هذا زنّاط باين عليه عدني وكانوا قد قالوا لنا بأن العدانية "زنّاطين " يزنطون علينا ،ويسخرون منّا نحن الجبالية القادمين من الجبال ،ومن قرى الشمال، وينظرون الينا بازدراء وباحتقار . وبعد ان تركتهُ ومشيتُ لحق بي وقال لي وهو يمسك بيدي : - تعال يابوالروتي ماتزعلش.. تعال بعدي وانا اوريك المدرسة. قلت غاضبا وانااسحب يدي من يده : فكّلي. كانت تلك اول مرة اسمع احدهم يطلق عليّ :(ابوالروتي ) وقد اوجعتني ( ابوالروتي ) اكثر ممااو جعتني ضحكته الساخرة وشعرتُ بانه قالها عمداً ليهزأبي ويسخر مني. قال الرجل وقد شعر بزعلي : ليش زعلت مني ؟ قلت : ايوه ،اول ضحكت عليّ وبعدا تقول لي يابو الروتي !! قال بأنه لم يضحك عليّ وانما ضحك من اسم المدرسة. وراح يصحِّح لي الاسم : - اسمها( مدرسة البادري ) وليس مدرسة النصارى. اماعن مناداته لي ب (ابو الروتي ) فذلك لانه لايعرف اسمي وكان غرضه ان يقول لي بأنه يعرفني . قلت وانا زعلان ومبرطم : من اين تعرفنا؟ قال : انا ساكن قريب منكم واشتري الروتي من حقكم الفرم . قلت : مش هو حقنا الفرم. قلتها بغضب ثم شعرت بالخجل . وفيما رحنا نقطع الشارع سالته ان يُعيد عليّ ذكر اسم المدرسة فقال بان اسمها البادري وقد بدالي اسمها اصعب من ان يلصق بذاكرتي . بعدئذٍ ،عندمااخبرته عن رغبتي في التسجيل.. اخبرني بان مدرسة البادري لاتقبل اي طالب ليس من ابناء عدن .لكنه قال بأنه سوف يأتي معي ويحاول مساعدتي قدر مايستطيع. وراح يحدثني عن مدرسة البادري قائلا بانه درس فيها، وتخرج منها، ويعرف مديرها ،ويأمل ان يوافق على التحاقي بها . قلت له : من اين انت؟ قال : اناعدني من عدن . وبعد ان قال لي بأنه عدني شعرتُ بوساوس ،وبهواجس تغزو راسي وقلت بيني ونفسي : - عدني ويشتي يساعدنا !! اكيد له غرض !! وتذكرت كلام شباطة فازدادت وساوسي وهو اجسي ومخاوفي منه وقلتُ له: - لمو شتساعدنا وانت ماتعرفناش، ولاانت قريبي، ولامن قريتي؟ قال : انت سالتنا عن المدرسة وطلبت مساعدتي وانا مستعد اساعدك واجي معك .ومش ضروري اكون قريبك اومن قريتك!! قلت : وبعدما تجي معي وتساعدنا ايش تشتي مني؟ قال : ايش اشتي منك!! ولا شيئ. ومع ان كلامه لم يبدّد شكوكي وهو اجسي الا اني كنتُ بحاجة ماسة الى مساعدته. وفي طريقنا الى المدرسة سالني الرجل العدني وكان قد اخبرني بان اسمه نجيب واخبرته باسمي : - ليش تشتي تدرس بالبادري؟ ليش ماتدرسش في مدرسة بازرعة اوفي المعهد العلمي الاسلامي ؟ قلت : - "قا كنتو سجلتو بالمعهد العلمي الاسلامي لكن جدتي تشتينا اخرج من المعهد وادخل مدرسة النصارى ". وضحك نجيب ثانيةً لكني هذي لمرة كنت قد فهمتُ سبب ضحكته وقلتُ مصححاً الاسم : - مدرسة البادري قال مستغربا : هل جدتك درست وتعلمت؟ قلت : جدتي لاتقرا ولاتكتب وسألني :هل هي موجودة في عدن ؟ قلت : جدتي بالقرية. وبدا كأنه لم يصدقني وكيف له ان يصدق بان امراة في قرية من قرى الشمال المتخلف والمعشعش فيه الجهل والأمية تبعث بحفيدها الى عدن لغرض الدراسة!! وسالني : ليش جدتك تشتيك تدخل مدرسة البادري؟ قلت : اخي درس بها وجدتي تشتينا اكون مثله. قال : اخوك درس فيها!! انت متأكد!! قلت : ايوا ويشتغل بالتواهي مع النصارى وهو اللي بايدفع لي الرسوم . ومثل المحامي حين يستمع لموكله ويشعر شيئاً فشيئاً بأن موكله قدم له معلومات مهمة تجعله يتحمس للدفاع عنه ..شعرتُ بأن الرجل العدني قد تحمس لقضية التحاقي بمدرسة البادري.. لكن الشك ماانفك يساورني حول غرضه من مساعدتي. !! وفي طريقنا التقى الرجل العدني بصديق له ورايتُ صديقه ينظر الي نظراتٍ اخافتني.. وسرعان ماراح الاثنان ينزويان بعيدا عني، ويتكلمان بصوتٍ لايكادُ يُسمع .حتى لقد شعرت كما لوانهما يتآمران علي. وكان ماأكد مخاوفي وشكوكي هو ان العدني الثاني كان اسود البشرة وكنتُ قد سمعتُ بأن الجبرت الذين يختطفون الاطفال في عدن هم من السود. ولشدة خوفي كانت نفسي تحدثني بالهروب.. فيما خيالي كان قد ذهب بي الى اقصى حدود الرعب حتى لقد بدا لي ذلك المبنى الغريب ( مبنى المجلس التشريعي) الواقف فوق تلك الصخرة الشاهقة بأنه بنجلة الشيطان . عند وصولنا البادري تبين بأن نجيب الذي صار وكيلي والمتحدث باسمي شخصٌ معروفٌ وليس ذالك المجهول . جميعهم هناك كانوا يعرفونه.. بمافي ذلك المدير الذي استقبله في مكتبه بحرارة. تكلم نجيب مع المدير باللغة الانجليزية وحكى له حكايتي ..وكيف ان جدتي ارسلتني من القرية لأدرس بمدرسته .ومع ان المدير بدا منتشياً وسعيداً بماسمعه الا انه لم يوافق على قبولي محتجا بقانون المدرسة.. وراح يتمسك بالقانون. قال له نجيب بأن اخي درس في البادري ،وتخرج منها ،وانه ليس من العدل ان تقبل المدرسة اخي وترفضني. لكن المدير لم يصدق حكاية ان اخي درس في مدرسته. وقال بأنه سيرجع للسجل، وللارشيف، ليتأكد من صحة كلامي. وبعد ان سأل المدير عن اسم اخي طلب من الموظف المختص ان يبحث عن ملف الطالب عبد الحليم في الإرشيف ويأتيه به. واثناء الانتظار راح الاثنان المدير و نجيب يواصلان الكلام باللغة الانجليزية واناقلق وخائف اقول بيني ونفسي: - لومالقوش الملف بايقولوا عني كذاب . وبعد ان طال الانتظار راحت نفسي توسوس لي بأن المدرسة التي درس فيها اخي عبد الحليم قد تكون مدرسة اخرى غير البادري. وكان ماعزّزلدي هذا الشعور هو ان مدرسة البادري تقبل ابناء عدن فقط واخي من مواليد القرية. وفي تلك اللحظة التي بلغت فيها ذروة اليأس دخل موظف الارشيف وبيده الملف ولحظة دخوله رايت وجه نجيب وقد إكتسى بالفرح حتى لقد عرفت من وجهه الفرح بان المدير وافق على قبولي. خرجنا من البادري ومشينا الى الميدان وهناك افترقنا هو عاد الى بيته وانا ذهبتُ الى التواهي لاطلب من اخي عبد الحليم رسوم المدرسة لكني لم اجده فقلت ارجع له اليوم التالي ..وفي المساء كتبتُ رسالة الى جدتي اخبرتها فيها بأني سجلت في المدرسة التي طالما تمنّت ان ادرس فيها .وفي الصباح ذهبتُ الى الجمّال وسلمته الرسالة ليوصلها الى جدتي ثم ركبتُ الباص المتجه الى التواهي وقابلتُ اخي عبد الحليم الذي صعد بي الى سطح المبنى ليسألني عما جاءبي وعن مطلبي !!وفي سطح المبنى الذي كان يطل على البحر، وعلى السفن ،والمراكب، وقوارب الصيادين. قلت له بأنني سجلت في نفس المدرسة التي درس فيها وأنني جئت اليه من اجل رسوم الدراسة. وامام هذا المنظر الجميل والساحر أرخى اخي عبد الحليم يدهُ ولطمني لطمةً لامبرّرلها حتى لقد دار البحر في راسي ،ودارت السفن ،والمراكب ،وشعرتُ بدوار اعظم من دوار البحر. ويومها خرجتُ من عنده وانااتحسس خدي .. و كان اول شيئ فعلتهُ حين وصلت بيت الحاج عبد الله في كريتر هو انني اخذتُ المرآة و قرّبتها من وجهي لارى اثر اللطمة على خدي لكني لم ار في المرآة سوى الدموع. من يومها والى ان غادرتُ عدن بعد خمس سنوات لم اذهب اليه، ولم اطلب شيئاًمنه، ولم افشِ لأحدٍبسر تلك اللطمة التي احتفظت بها لنفسي ..وحتى جدتي حين وصلتني رسالة منها تسألني عن سير دراستي ..لم اقل لها بأن اخي عبد الحليم لطمني لطمةً اجهزت على حلمي وحلمها . وقد ظلت المسكينة تعتقد بأنني ادرس في مدرسة النصارى ولم تعرف الحقيقة الابعد مرور عام عندما وصلها خبر رسوبي في المعهد العلمي الاسلامي . اما العدني نجيب الذي جاء معي الى البادري، وساعدني. فكنت كلمارايته قادما لشراء الروتي اتوارى خجلاًمنه .