ونحن نقترب من سينما هريكن (سينما مسترحمود )
جُنّ جُنون شباطة وصاح وهو يلتفت الي :
- هذي هي السينما ..هذي " بيت المخناثة". شوف على قصر بنوه للمخانيث والفتّالين، من شان يدخلوا يتنايكوا داخله .
وقال ليؤكد لي ماسبق من تحذير:
-شوف ذانا اقول لك.. لودخلت السينما.. اوواحد شافك تدخلها ..والاّتخرج منها.. والّاتحوم حولها.. خبرك بايجي لاعندي ..ولوجا خبرك لاعندي.. بايوصل لاعند اخوك سيف.. لاننا مااقدرش اخبي شي على سيف.. ولو ماكلمتوش وعرف من آخرين انك تسينم، واننا عارف
بايزعل مني ،وبايقول لي :
-ليش ياشباطة ماكلمتناش ليش ماقلت لي:
- عبد الكريم يسينم.
ومن ذلحين اقول لك مش انا مسئول لورجّعك اخوك سيف القرية ..ومش بعدا تروح تقول لجدتك شباطة هو الذي حرّش بك عند اخوك وخلّوْ يرجّعك ..فهمت اولا !!
قلت -وانا مقهور من كلامه -: فهمت
قال مواصلا حديثه وهو في ذروة انفعاله :
-واشتي اقول لك قبل ماانسى :
- اوبه من الزنوات.. لوواحد قال لك: تعال اعزمك غدا او عشا في مطعم .. اوبه تقبل تروح معه.. اليوم بايدخّلك مطعم على حسابه ..وبكرة بايدخِّلُه لك بلاش .
ولم افهم ماذا يقصد شباطة بقوله :
"بكره بايدخله لك بلاش "
وفيما كنا نمر من امام السينما لمحت فتاةً شعرتُ نحوها بانجذاب، بشيئٍ خفي يشدني اليها .
كانت خضراء.. حلوة ،ودمها حالي.. ولها نفس ملامح البنت الخضراء التي احببتها بالقرية وكانت قد توقفت تتفرج على ملصق عند مدخل السينما
لحظتها قلت اسأل شباطة وانا اشير اليها :
- النسوان يسينمين ياشباطة اولا ؟
وكان جوابه بان القحاب والشراميط هن اللاتي يسينمنَ ويدخلنَ السينما .
لكني استبعدت ان تكون تلك الفتاة واحدة من النساء سيئات السمعة اللاتي ذكرهن فقلت له :
- هذي البنت باين عليها مش هي قحبه
قال جازما :
- هذي قحبه بنت قحبة
قلت - وقد شعرت بالاهانة-:
-بس ياشباطة هي شافت الصورة ومشت ومادخلت السينما لوهي قحبة كانت باتدخل!!
قال شباطة وهو يلتفتُ اليّ تلك الالتفاتة الغاضبة :
-اقول لك قحبة تقول لي مش هي قحبة ..ماعرّفك انت بالقحاب!! لو هي بنت ناس، وتحترم نفسها ،ماجزعت من جنب السينما .ايش جزعها!! وليش وقفت تتفرج على الصور لوهي مش قحبة !!
وحينها لذتُ بالصمت ،ورحت افكر بتلك الفتاة التي ذكرني دمها الاخضر الحلو بفتاتي الخضراءذات الدم الحبشي اليمني المزدوج .
وفيما راح شباطة يذمُّ السينما امامي ويذيعُ عيوبها.. كنت انا قدذهبتُ بعيدا ،وعدتُ للقرية، ووقفت في سقف دار الرجل المغترب العائد من اديس ابابا اتفرج على ابنته وهي ترقص في السقف مع اخواتها
كنتُ ارقبها بعينيّ العاشقتين وهي ترقصُ رقصة الفراشة. وفي نفس الوقت كنت اسمع بأذنيّ هذيان شباطة الذي راح يتكلم عن السينما لكأنما بينه وبينها ثأر .
يومها قال كلاما شبيها بنفس الكلام الذي كان يقوله الفقيه سعيد عن الراديو بعد دخوله الى القرية لكنه كان احيانا، يسهو ويقول كلاما مكررا سبق ان قاله لي :
- شوف ياعبد الكريم ..اسمع مني ..اليوم انا موجود ..بكرة مش انا موجود.. اليوم انت زغير لكن بكرة تكبر وتتذكر كلام عمك شباطة والصدق اقول لك :
-السينما افسدت اخلاق الرجال واخلاق النسوان.. ومن حين دخولها عدن.. انتشر الزنا واللواط ..واصبح الواحد يعزم البنت على بيرة في الساحل ،ومن الساحل ترجع البنت لابيت اهلها وهي حامل.
ولم اكن اعرفُ ماهي البيرة لكن راح بالي مباشرةً الى القوارير التي نذهبُ صباحاً لجمعها من الساحات في شارع البنوك ، ومن طريق حُقّات ،والتي كان عامل الفرن يكرعُ بقاياها في بطنه.
كانت نبرة صوت شباطة ترتفع شيئاً فشيئاً حتى ان المارة كانوا يلتفتون الينا مستغربين .
شوف باقول لك : السينما هي مدرسة.. مثل المدرسة .لكن
المدرسة يدخلوها الطلبة بالنهار يتعلموا ويخرجوا منها بعلم ينفعهم.. اما السينما يدخلوها بالليل ..واللي يدخلوهاهم الصعاليك من عيال الشوارع، وعيال السوق. ولودخلوها ناس محترمين ..تشوفهم يسترقوا سرقة.. ويدخلوا مثل السرق ..خايفين لوواحد من اهلهم واقاربهم يشوفهم ويبلغ بهم .
لكن تعرف ايش يتعلموا بالسينما ؟
- يتعلموا المخناثة ،والسفاهة، وقلة الادب. ويتعلموا الصعلكة والجريمة.. تشوفهم يجلسوا بالغدرة يتفرجوا على الممثلين والممثلات وهم يتباوسوا ويتنايكوا عرض الجدار، وعلى المجرمين وهم يسرقوا، ويقتلوا. وعلى السكارى وهم يشربوا الخمر . ولومايشوفوا البطل يبوس البطلة كل واحد يبوس اللي جنبه .
واذا شافوا البطل يشرب خمر يخرجوا للمخمارة يشربوا خمر.. واذا شافوه يزني يخرجوا من السينما للسيسبان يزنو.. واذاشافوه يسرق، او يقتل، اويرتكب اي جريمة. يخرجوا من السينما وكل واحد ناوي يعمل جريمة .
شفت ذلحين ليش انا انصحك واحذرك من دخول السينما!!
شوف بااقول لك :واحد من قريتنا كان مافيش احسن منه. رجّال مسبّع مربّع ومحترم وسمعته في السماء وكلهم اصحاب قريتنا كانوا يحبوه ويهابوه ويحترموه وكانت كلمته مثل حدّ السكين تمشي على الكبير والصغير، على الغني والفقير ،وكانوا مستعدين ينتخبوه رئيس للنادي لكن بعدما عرفوا انه يسينم سقط من عيونهم وسقط بالانتخابات وبعدماكانوا يحبوه ويحترموه ويصدقوه ويسمعوا كلامه اصبحوا يكرهوه ويحتقروه ويكذِّبوه حتى لو قال الصدق.
وليلتها فهمت من كلام شباطة بان المسينمين يجلسون فوق كراسي وفي مكان مظلم وامامهم سبورة معلقة بالجدار لكنها بيضاء وليست سوداء مثل سبورة المدرسة
وانهم حين يرون بطل الفيلم يفعل اي شيئ يتعلمون منه ويقلدونه ويفعلون مثلما يفعل.
ومن خلال حديث شباطة تكونت لدي قناعة وهي ان السينما مدرسة يدخلها عيال الشوارع والصعاليك واولاد الحرام وابناء السوق وقلت بيني ونفسي:
- انا ابن ناس مش انا من عيال الشوارع ولاانا من عيال السوق وقطعت عهدا على نفسي بعدم الاقتراب من السينما.
كان شباطة قد اقنعني بكلامه عن السينما لكن كلامه
عن البنت الخضراء التي توقفت تتفرج على الملصق
وقو له عنها بانها قحبة كان قد ازعجني وكنت بيني ونفسي اتساءل: كيف عرف شباطة بأنهاقحبة !! كيف!! ولشدة تعاطفي مع تلك البنت التي ذكرتني بفتاتي التي تركتها في القرية وتركت عندها عقلي وقلبي وروحي شعرت بمسئولية تبرئة ساحتها من الحكم الظالم الذي اصدره شباطة.
كنت امشي مع شباطة وانا افكر بها واسترجع وقفتها وصورتها وملامح وجهها واقول بيني ونفسي : مش هي قحبة مش ممكن واحدة مثلها تكون قحبة وداخلني شعور بان شباطه مثله مثل الفقيه سعيد فقيه القرية
وكان الفقيه سعيد اذا اصدر حكما على احد من اهل القرية رجلا كان او امراة الويل لمن يناقشه او يعترض على حكمه اويشكك فيه وعندما قال عن "سعيد الفاتش" يوم موته بانه كافر وسوف يحشر مع مزماره في جهنم الحمراء. لم يغفر للمسفلة غيوم عالم قولها بعد عودتهامن رحلتها للعالم السفلي بأن سعيد الفاتش في الجنة.
بعد ان تجاوزنا السينما استحضرت ذلك الطفل العاشق الذي كنت قد نسيته الطفل الذي وقع في الحب ووقع من على ظهر الحمار وكسر رجله وعرفت القرية كلها بانه وهو الولد البوال والممخط والولد الصغير يحب ابنة الرجل المغترب صاحب الدار الكبير
وبعد ان استحضرته قلت متحديا شباطة :
- البنت مش هي قحبة
قال شباطة وكان قدنسى الموضوع :
- ايش من بنت ؟
قلت : البنت التي شفناها قدام السينما
قال شباطة وهو يلتفت الي بغضب :
- شوف انا اعرف المخانيث واعرف القحاب ومااحد يقدر يغشّنا ويغالطنا المخنوث اعرف انه مخنوث ولو هو إمام مسجد
و القحبة اعرف انها قحبة ولو هي فوق السجادة تصلي وتسبّح بالمسبحة.
والبنت اللي شفناها عند السينما قحبة ولو مش هي قحبة مانا شباطة
قلت : والله ماهي قحبة
قال وقد اثاره كلامي واستفزه :
-يعني انت ياممخط تعرف اكثر من شباطة !!
وانا زعلت من كلامه وذكّرته بماسبق وقاله لي في السوق الطويل .
قال : هاااا انت زعلان ليش قلت انك ممخط !!
قلت : انا زعلان من كلامك عن البنت
قال: تزعل على بنت قحبة !!
قلت : والله العظيم ماهي قحبة وانك كذاب
ولشدة غضبه من دفاعي عن بنت لااعرفها وقولي عنه كذاب قال لي مهددا :
- اذاماخليت اخوك سيف يرجعك القرية مااكون شباطة
قلت : والله ماتقدر لاانت ولااخي ترجعونا القرية
قال وهو في ذروة غضبه :
- شترجع القرية غصبا عنك انت صعلوك نزلت عدن على شان تسينم وتسيكل وتتصعلك اناداري بك عرفتك من يوم استأجرت حماركم للراهدة وعرفت انك بلاتربية والا ايش اللي يخليك تدافع عن بنت قحبة ماتعرفهاش وتقول علي كذاب
وبعد ان اوصلني الى باب بيت جدي علي اسماعيل امام مطعم البحر الاحمر ونادي الحسيني قال لي وقد تعمد ان يهينني امام بنت خالي التي هبطت السلم لتفتح لي الباب :
- مع السلامة ياممخط
لكن من حسن حظي ان بنت خالي التي كانت بعمر يقارب عمري لم تفهم مغزى كلام شباطة
كانت عدنية من مواليد عدن ولاتعرف القرية وكان يُخَيّلُ الي حينها بان بنات عدن لايتمخّطن ولايعرفن المخاط.
غداً موعدكم مع الحلقة الحادية عشر.