كان كلام شُبَاطَة قد سقط مثل حجر في بئر ذاكرتي، وايقظ اكثر الذكريات رعبا .ولحظتها، تذكرت تلك الليلة التي رايت فيها من سطح بيتنا رجال وفتيان القرية وقد خرجوا بالفوانيس والمشاعل لملاحقة الجَبَرتْ . كان الجبرت قدقدموا من جهة البحر، وصعدوا الى قريتنا متّشحين بالضباب ،وخطفوا طفلا من ساحة القرية قبيل الغروب. يومها كانت القرية مُطَرْبَلَة بالغمام، ولم يكن ثمة شمس لكيما تغرب . كان اسم الجبرت يثير الرعب لكن اهالي القرية كانوا يطلقون عليهم اسما اكثر رعبا :"ذئاب الغمام." ليلتها كنا نحن الاطفال وامهاتنا في سطوح البيوت نرقب غابة من الفوانيس تتحرك في الظلام بحثا عن ذئاب الغمام . ومن سطح بيت جدي تناهى الى مسامعي صوت جدتي تحدث نساء القرية عن الجبرت الذين ياتون في كوانين (كانون الاول وكانون الثاني ) لم اعرف ماذا تقصد جدتي بقولها بأن الجبرت يأتون في كوانين .وحين سالتها "حمام "زوجة خالي محمد عن السر في انهم يأتون في كوانين !! قالت جدتي : - كوانين غمام.. وهم يحبوا الغمام.. ويطلعوا لاعندناوقت مايكون في غمام. وسالتها "منى" ابنة خالي عبد الوهاب عن بلاد الجبرت واين تكون !! فقالت بان بلادهم تقع خلف سبعة بحور، وليس فيها شمس، شمسهم الغمام . ولم استطع ليلتها ان اكتفي بالاستماع فسالت جدتي: -لِمَوْ الجبرت ياجدة يخطفوا الجهال؟ قالت جدتي :الجهال دمهم حالي. وسالتها عمااذا كان الجبرت يشربون دمهم الحالي!! وكان ردها بان الاطفال الذي يقوم الجبرت بخطفهم يعلقوهم مثلما يعلقوا الكباش. قلتُ وقد سرت قشعريرة رعب في جسدي : - يذبحوهم ياجدة ؟ قالت جدتي :" لا، مايذبحوهمش، بس يعلقوهم، وبعدما يعلقوا الواحد، يعملوا تحته صحفة، وبعدا يتغِّزوه بالإبر وهو حي ، وبعد مايتغِّزوه بالإبرالدم ينتُش وينطُف لاداخل الصحفة ويقول : -طُفْ طُفْ طُفْ وكل نطفة تنطُف ترجع جنيه ذهب . كان شُبَاطَة يسالني وانا شارد الذهن استرجع كلام جدتي عن الجبرت ، وعن قطرات الدم التي تتساقط من اجساد الاطفال المثقوبة . وكان اكثر ماارعبني في حديث جدتي هو صوت سقوط تلك القطرات : طُفْ طُفْ طُفْ وحتى يوقظني من شرودي صاح بي محتدا : -اين انت؟ اين راح حسك؟ اين عقلك؟ اسالك وانت سارح !! قلت له وقد انتبهت : -موقلت؟ قال : ليش جدتك استعجلت وخلّيتك تنزل عدن وحدك ؟ كانت باتصبر لوما يسافر واحد من القرية وتسفّرك معه. قلت : جدتي بعدما مات الحمار حقنا قالت لي مافيش فايدة من جلستك بالقرية انزل عدن عند اخوتك . قال شباطة وقد تفاجأ بكلامي : - موتقول ياب !!حماركم مات !!مووقع به!! وكان شباطة قد استأجر حمارنا الى الراهدة عندما سافر عدن لذلك استغرب عندما اخبرته بموت الحماروسالني عن سبب موته!! قلت له بانه اثناء عودتي من الراهدة الى القرية والدنيا شمس فاجأني سيل قوي وسط وادي الشويفة وبعد ان ابصرت السيل ربطت الحمار عرض شجرةكبيرة بحبل وبعدما ربطته طلعت فوق الشجرة وكنت انا فوق وهو تحت والسيل بالوادي يلدش لديش. قال شباطة معترضا على كلامي : - كيف سيل وشمس ! كيف سيل ومافيش مطر! هذا خبر جديد ماقد حدث ولاقد سمعنا به. ومن الطاولة المجاورة قال السائق : - ولاانا قد سمعت بسيل من دون مطر. وزاد "الجُرِشْبِل "كمّل الفوره وقال نفس الكلام وطلعونا كذاب وكنت احلف لهم وهم ولارضو يصدقوا. قال شباطة : طيب قل لنا كيف سيل وشمس!! قلت : كان المطر بالجبال وبالوادي ماكانش في مطر لكن كان السيل ينزل من الجبال للوادي وقلت له وعاد نحنا بالراهدة كنا نشوف سحابة سوداء فوق جبال الاعروق وكان صاحب المقهاية يقول لي : - مطر ارقد بالراهدة والصبح بكر قلت له : لا، شاروح قال : المطر صورته غزير.. ولوما يكون غزير.. السيل يكون قوي.. يشل سيارات ،وقلابات، وبوابير عنترناش .وانت معك حمار والله لايشل الحمار ويشلك معه . لكن الذي حدث هو ان السيل اخذ الحمار ولم يأخذني معه ويومها عدت للقرية من دون حمار.
بعدئذ وقد انتهيت من اخبار شباطة بقصة الحمار راح الملعون يشكك بكلامي ويقول لي : - انا اعرفك انت ماربطتش الحمار الحمار هو اللي كان رابطك انت سيبت الحمار وخليت السيل يشله على شان تنزل عدن . و بيني وبينكم شعرت لحظتها بأن الملعون شباطة يعلم الغيب وقلت بيني ونفسي : كيف عرف!! والحقيقة ان حماري بقدر ماوسع من شعوري بالحرية اصبح قيدا يحد من حريتي كنت كلما قلت لابي :يابا اشتي انزل عدن يعترض ويرد علي قائلا : - والحمار - يابا اشتي انزل عدن - والحمار!!
كان يحتج بالحمار وكان من الصعب ان اغادر القرية طالما والحمار موجود. صحيح باني كنت في اعماقي اتمنى موت الحمار لكي اجد مبررا للسفر الى عدن لكني يومها دمّعت حين رايت السيل يسحبه، وندمت لرفضي نصيحة صاحب المقهاية، وتمنيت لو اني عملت بنصيحته ونمت في مقهايته. قال شباطة : - احلف يمين انك طلعت فوق الشجرة وسيبت الحمار للسيل لاتكذب وتقول انك ربطته. قلت بيني ونفسي : ماله شباطة هذا !! خينا مكانه زعلان مني من يوم استأجرحمارنا للراهدة!!
بعدما وصلنا الراهدة جاب لي عشرة شلن ايجار الحمار قلت له : الايجار خمستعشر شلن ياشباطة قال وهو قالب صورته :من قال لك ؟ قلت له : امي ويومها قال لي ونحن وسط المقهاية : - الحمار حمار ابوك ثابت مش هوحمار امك فاطمة. وانا زعلت لانه ذكر اسم امي في المقهاية امام الناس وسبيت له وهو سب لي وهدد بانه سوف يشكوني الى ابي وانه ان لم يربنا سوف يربينا بنفسه. اتذكرانه بعد كلام سائق السيارة بدا متضايقا مني، ومن وجودي ،ومن نزلتي الى عدن. وحتى يرضي السائق، ويثبت له بان له سلطة علي قال لي امامه وامام الجرشبل : - نزلتك عدن غلط ايش نزلك؟ قلت : نزلت ادرس. قال : هذي الايام عطلة، والمدارس مغلقة، وحتى لوهي مفتوحة دراسة بعدن مش ممكن اين باتجلس عند من! اخوتك ماعندهم بيوت ،وكل واحد مشغول بعمله، من باينتبه لك ومن بايمنعك ويقول لك : لا، لوقلت باتروح السينما او رحت تتصعلك وبعد ان صمت لثوان قال وكأنه وجد حلا لمشكلتي : -انا باكلم اخوك سيف يرجّعك القرية . قلت له : انت ايش دخلك !! وهو زعل ليش قلت له : ايش دخلك ! وقال بنبرة تهديد : عدن مافيش جلسة ..ولوانت جلست تدرس بعدن شخنثوك . قالها وقام يودع السائق والجرشبل اللذين هزاراسيهما هزة تنمُّ عن اعجاب بكلامه حول عودتي الى القرية . لحظتها دارت الدنيا في راسي، واظلمت، حتى اني بعد خروجنا من المطعم ،ولشدة حنقي من كلام شباطة، مشيت بخطى سريعة باتجاه سوق الطويل وكانت نيتي ان اهرب منه لكنه لحق بي وقال لي بغضب : -تعال او صلك لابيت جدك علي اسماعيل، قلت : مااشتيش اروح بيت جدي، ولااشتي امشي معك . ولم استطع لحظتها ان احبس دموعي من شدة مااوجعني كلامه . قال : مالك! خينا زعلت من كلامي !! قلت : ايوه انت جالس تفجّعنا وتقول لي : - شخنِّثوك شخنِّثوك !!من هم اللي شخنثونا؟ وبعدا موتشوفنا اهبل لومايخنثونا! كان وجهي قد اغتسل بدموعي التي كانت تسيل بصمت ومن دون صوت . وحتى يقنعني بانه على حق قال لي : - انت من قريتي ومن حقي انصحك واحذرك لمصلحتك وعليك ان تعرف بان عدن غير القرية. في القرية لوواحد ضربك اهلك هم الذي من حقهم يضربوا الذي ضربك او يسامحوه. اما هنا في عدن لوواحد من عيال عدن او من غير عيال عدن ضربك فهو ماضربكش وحدك وانما ضربنا كلنا اصحاب قريتك. ولو شتمك او اهانك شتمنا واهاننا كلنا ومسئوليتنا نحن ابناء قريتك ان ننتقم لك .نضرب من ضربك، ونشتم من شتمك ،ونهين من اهانك، ولو انت عملت عمل بطال دخلت سينمااوركبت سيكل اومشيت مع المايعين فأنت بهذا العمل تسيئ الى سمعتنا كلنا .وانا من خوفي عليك قلت احذرك وانصحك وبعدا اشتي اقول لك انا وسيف اخوك اكثر من اخوة فلاتزعل مني لونصحتك. قلت : تمام، بس ليش تشتي تقول لاخي سيف يرجعنا القرية ! قال : خلاص او عدك اننا مااكلمه، ولااقول له، بس انت اوعدنا ماتدخل سينما، ولاتركب سيكل، وكمان لاتأكل سيكريم ولاتُمْبُل ولم اكن لحظتها قد سمعت بالتمبل فسالته : - ايش هو التُّمْبُل؟ قال : شفت النسوان لومايتحومرين قلت : حامورة ! قال : حامورة.. بس اللي يتحومروا به رجال مايعين قلت : ايش يعني مايعين ؟ قال : مخانيث . وعندها داهمني شعور بان الناس في عدن كلهم مايعين ومخانيث باستثناء ابناء قريتي.
غداً الحلقة الثامنة.