في الرابع من نوفمبر الفائت أعلن رئيس الوزراء الأثيوبي عن عملية عسكرية واسعة في إقليم تيغراي بعد أن شنت جبهة تطلق على نفسها "جبهة تحرير شغب تيغراي" هجوما على إحدى قواعد الجيش الأثيوبي في الإقليم مما حدى ببعض الجهات توقع أن البلاد على وشك الدخول في نفق الحرب الأهلية لتشمل لهيبها الدول المجاورة ، وهذا ما لم يحدث بعد إعلان الحكومة سيطرتها على عاصمة الإقليم بعد أقل من شهرين من بداية المعارك، وبالأمس 14 ديسمبر زار رئيس الوزراء آبي أحمد المنطقة لأول مرة منذ اندلاع المعارك مما يشي بأن الأوضاع على وشك أن تحسم لصالح الحكومة. حقيقة الأزمة في تيغراي بعد انتهاء الحرب الأهلية في أثيوبيا عام 1991م التي استمرت لما يقرب من 20 عاما تولى الحكم "الجبهة الثورية الشعبية الإثيوبية" التي استمرت بحكم أثيوبيا طيلة ثلاثة عقود كاملة، وكانت أقلية التيغراي التي تبلغ حوالي 6% فقط من سكان البلاد المهيمن الأكبر عل تلك الجبهة، وحكمت البلاد بقبضة حديدية وارتكبت الكثير من التجاوزات من ملئ السجون بالمعارضين إلى طردهم ونفيهم بل وتصفيتهم في بعض الأوقات وهمشت الآخرين مما أثار حفيظة وسخط العرقيات الأخرى لاسيما عرقية الأمورو والأمهرة أكبر عرقيتان في البلاد، وهذا تجلى في مظاهرات غاضبة انطلقت شراراتها عام 2015م وحاولت السلطات إخمادها بالقوة وفرضت قانون الطوارئ إلا أنها لم تنجح وفي النهاية سقطت في 2018م ثم تولى رئيس الوزراء الحالي آبي أحمد الحكم. إصلاحات آبي أحمد كان أحمد على علم أنه بات يحكم بلد العرقيات كما تسمى التي فيها حوالي 80 لغة وديانات متعددة وهي من أكثر بلدان أفريقيا من حيث الكثافة السكانية بأكثر من 100 مليون نسمة وفيعا يقع مقر الإتحاد الأفريقي ، فقرر أن ينتهج سياسات إصلاحية وودية مع جميع فئات الشعب، فأمر بإخراج الآلاف من السجون وأعاد الهاربين من بطش السلطة السابقة إلى بلادهم بمن فيهم الكثير من المسلمين، ووقع اتفاق سلام مع إريتريا المجاورة بعد سنوات طويلة من العداوة بين البلدين حصل على إثرها على جائزة نوبل للسلام، والأهم من ذلك مواصلة تطوير بلاده على جميع الأصعدة ك البنية التحتية والتعليم والزراعة والصحة وجعل سد النهضة رمزا لذلك، ولكي يحصن هذه الإنجازات بدأ بتطهير مؤسسات الدولة من أقلية التيغراي التي كانت تسيطر على الكثير منها. عهد جديد في أثيوبيا كانت إجراءات وتحركات آبي أحمد غير مسبوقة في تاريخ البلاد الحديث بدءا بتصالحه مع جميع التيارات والعرقيات ومع دول الجوار وتطوير البلاد وتحدي الخصوم انتهاء بتوفير الحماية لهذه التحركات من خلال قطع دابر المتربصين من الطغمة الفاسدة السابقة. وهنا يظهر مدى حنكة وذكاء القيادة الجديدة؛ فقد علمت منذ البداية أن أقلية التيغراي تشكل خطرا داهما على استقرار وتطور البلاد، والأقليات دائما تعد خيارا مثاليا للحكم بالنسبة للغرب نظرا لسهولة تطويعها لصالحه لأنها ببساطة تحتاج للآخرين لتبقى حية مع كره عامة الشعب لها، وفعلا حصل ما كان متوقعا، فقد انتظرت جبهة التيغراي الفرصة المواتية ليعلنوا تمردهم، ولما رأوا أن امتيازاتهم ومناصبهم سلبت منهم عاد قادتها إلى مناطقهم، ومن هناك بدأو بالتجييش ضد الحكومة واتهموها بأنها لا تقدم خدمات كافية للمنطقة وأنها تريد إقصاءهم من المشهد وهي ذات الحجج التي يسوقها المتمردون في كل الدول، ثم ذهبوا بعيدا حينما أجروا انتخابات في الإقليم بدون موافقة الحكومة المركزية بعد أن أجلتها بسبب كورونا وأخيرا أطلقوا الرصاصة الأولى ضد الجيش بهجمات على معسكراته، غير أن الحكومة لم تتسامح أبدا مع هذه الأفعال وقررت بسرعة محاصرة إقليم تيغراي وأطلقت عملية عسكرية فر على إثرها الآلاف إلى السودان المجاور، ولم يتبق للمتمردين من أمل سوى الدعم والمساعدة الخارجية ليبقوا على قيد الحياة لاسيما من بريطانيا التي احتلت أثيوبيا في فترة من الفترات، وكالعادة طالبت الأمم المتحدة والمنظمات الغربية وقف العمليات بحجة تقديم المساعدات وإغاثة المحتاجين إلا أن هذه الحجة لم تنطل على الحكومة التي رفضت جميع المقترحات وأعلنت أن زمن الهدن والتصالح قد ولى، والحل الوحيد الذي تستحقة جبهة التيغراي التي كان هدفها إما الاستيلاء على الحكم مجددا أو فصل الإقليم أو إدخال البلاد كلها في حرب أهلية طاحنة هو الاستسلام أو الموت، وبهذه الصرامة والقوة والعزة سجلت أثيوبيا نجاحها ودخلت في عهد جديد.