المُكرم.. والعياني العريان!!
قتل النجاحيون الملك الكامل علي بن محمد الصليحي، وأخذوا زوجته أسماء بنت شهاب أسيرة، وهي الانتكاسة التي كادت تصيب الدولة الصليحية في مقتل، لولا الملك الشاب المُكرم أحمد، الذي ثأر لأبيه، واستعاد أمه، وتصدى ومعه عدد من القادة المُخلصين بحزم لجميع التمردات القائمة، وأعاد الوضع إلى ما كان عليه، مُبتدئًا من نقطة الصفر. تمكن النجاحيون من القضاء على علي الصليحي - وهو في طريقه إلى الحج - بالغدر تمامًا مثلما عمل على قتل كبيرهم نجاح، بعد أن مهدوا لذلك بالتواصل من جزيرة دهلك - منفاهم الاضطراري - مع المُوالين لهم داخل مدينة زبيد، تصدر قيادتهم سعيد الأحوال وأخوه جياش ابنا نجاح، اضطلع الاثنان بذلك الدور، وفي ضيعة أم الدهيم بالمهجم أتما جريمتهما، وغنما أموالًا عظيمة كان الـصليحى يعتزم إرسالها هدية إلى المُستنصر الفاطمي، وأتبعا ذلك بالإفراج عن عدد من الزعامات اليمنية، وهو أمرٌ كان له ما بعده. أعاد النجاحيون سيطرتهم على تهامة، وأعاد بنو الكرندي سيطرتهم على المناطق الوسطى، وأعاد بنو معن سيطرتهم على المناطق الجنوبية، وتوالت في المُقابل هجمات القبائل الشمالية على العاصمة صنعاء، صد المُكرم أحمد زحوفات الأخيرين، ثم أتبع ذلك باستعادة حصن حضور، وكحلان، وهران، ويحصب، ورعين، وعنس، كما قام بطرد أنصار النجاحيين من تخوم حصن مسار، وهي الانتصارات التي أعادت للصليحيين الثقة بأنفسهم، وجعلتهم يستعيدوا في وقت قياسي كثيرًا من المناطق. وقد تجسد التَمرد الإمامي الزيدي بظهور داعيَين في وقت واحد، الأول يُدعى حمزة بن الحسن أبي هاشم، والآخر - من تقدم ذكره في الحلقة الثالثة - الشريف الفاضل القاسم بن جعفر العياني، قام الأول بتحريض من بني شهاب، ولقي حتفه في أول مُواجهة له مع الصليحيين، على يد عامر بن سليمان الزواحي ذي الحجة 459هـ، بوادي المنوي في أرحب، وذلك بعد 40 يومـًا من مقتل علي الصليحي. كان مع أبي هاشم في معركته الأخيرة حوالي 8,000 مُقاتل، وقيل ضعف ذلك، جُلهم من قبائل بكيل، ونهم، ووداعة، تركوه في قلة من أنصاره، وذلك بعد أن لقي 800 منهم مَصرعهم، ومعهم ولده، و70 شيخًا من همدان، ليلحق بالأخيرين وهو ينشد: أطعن طعنًا ثائرًا غباره طعن غلام بعدت أنصاره وانتزحت عن قومه دياره وفيه قال أحد شعراء المُكرم أحمد مُخاطبًا أنصار الإمامة بشكل عام: فصرعن بالمنوى منكم سيدًا قرمًا ولم يسمح به أنْ يُصرعا ملك لو أن بني سليمان معًا وزنوه يومـًا لم يوازن إصبعا في تلك الأثناء كان الشريف الفاضل عائدًا لتوه من الحجاز، وذلك بعد تسع سنوات من الابتعاد، لتصله فور وصوله مدينة صعدة رسالة من أخيه محمد الشهير بـ (ذي الشرفين)، طالبًا منه مناصرة الإمام حمزة، وبينما هو مُنهمك بتجميع الحشود، وصله نبأ واقعة المنوى السابق ذكرها، فقرر حينها أمام تحفيز مناصريه من قبائل ذبيان وبني جبير وبني الدعام خوض غمار مُواجهة الصليحيين. لم يُعلن الشريف الفاضل نفسه إمامًا؛ بل جدد دعوته مُحتسبًا، وذلك بعد أنْ أوهم أنصاره بظهور المهدي المنتظر، مُستجلبًا حكاية عمه المهدي حسين العياني، كبح المُكرم أحمد جماحه، ثم صالحه، واعترف له بنفوذه على مناطق بكيل ووداعة، وأخذ ولده محمدًا رهينة. توجه المُكرم أحمد بعد ذلك صوب تهامة، لتدور عند بوابة زبيد الشرقية (الشبارق) معركة قوية صفر 460هـ، انتصر فيها على النجاحيين، وخلص أمه من الأسر، ومنع عساكره من النهب، وأدلف بعد 36 يومًا عائدًا إلى صنعاء مُغاضبًا، مؤجلًا تحرير تهامة لجولة أخرى، وذلك بعد أنْ وصلته أنباء نقض الشريف الفاضل للصلح، وسيطرة الأخير على عددٍ من المناطق. قام المُكرم أحمد فور عودته من زبيد بمُراسلة الشريف الفاضل مُعاتبًا، وحين جاء رد الأخير سلبيًا، توغل الملك الصليحي شمالًا، استعاد عدد من المناطق، وفي بركة مذود قرب ذيبين حقق له قريبه أحمد بن المُظفر انتصارًا حاسمًا، وهي معركة فاصلة قُتل فيها خمسة من آل العياني، وعدد كبير من أنصارهم، فيما ولى كبيرهم القاسم بن جعفر إلى الجوف هاربًا. ما كان للشريف الفاضل أنْ يتجرأ وينقض ذلك الصلح لولا تحريض النجاحيين له؛ وذكر كاتب سيرته أنَّ سعيدًا الأحول راسله ووعده اللقاء في صنعاء، وذلك بعد القضاء على الصليحيين، وأنَّ جياشًا كان يرسل له بـ 1,000 دينار شهريًا؛ الأمر الذي حفزه على أنْ يطلب من أحد الشعراء أنْ يمدح الأخير على لسانه بقصيدة طويلة جاء فيها: بجياش شددت العزم حتى بلغت من العداة به مُرادي مددْتُ بماله باعي فنالت نواصي الظالمين على البِعاد وأشعلت النيار بكل نجد وداركت المغار لكل واد في تلك الأثناء قدِم من العراق أبو الفتح الديلمي، ولا ندري هل مفرج بن أحمد الربعي - وهو مُؤرخ عاصر تلك الأحداث - ناقل تلك الحادثة، يَقصد الإمام الديلمي السابق ذكره في الحلقة الثالثة، أم شخص آخر، وبما أنَّ سيرتهما مُختلفة، فربما يكونان أقارب. وصل الديلمي الأخير أول ما وصل إلى بلاد ضاعن في حجة، ثم توجه إلى تنعمة في خولان العالية، ليتخلى عنه أنصاره فور علمهم بمقدم الصليحيين نحوهم، فما كان منه - أي القادم الجديد - إلا أنْ توجه إلى الجوف، وفي الأخيرة ناصر الشريف الفاضل في حروبه الدفاعية، وشهد معه أكثر من موقعة، ليفترقا في مواجهة الصليحيين كلٌ له جهته، وقد كانت نهايته - هو الآخر - قتيلًا في منطقة الفقع بحوث، حزَّ الصليحيون رأسه، وخلَّد ذو الشرفين ذكره في قصيدة طويله خاطب بها قاتليه، مُذكرًا بموقعتي المنوى وذيبين، نقتطف منها: قتلتم بني الزهراء عمدًا قطعتمُ بذيبين والمنوى حبال التواصل وبالفقع والمخلاف أيضاً قتلتم أبا الفتح يُهدي رأسه شرُّ حامل كانت المناطق الوسطى وجهة المُكرم أحمد التالية جمادي الآخر 461هـ، أخضعها سلمًا وحربًا، تمامًا كوالده، وأفشل تحالف حكامها - من آل الكرندي وغيرهم - مع النجاحيين، ثم أدلف بعد شهر وثلاثة أيام عائدًا إلى صنعاء، وفى غرة رمضان من ذات العام يمم خطاه صوب المناطق الغربية، وفى نيته هذه المرة القضاء نهائيًا على سعيد الأحول وجياش، والأخذ بثأر والده منهما، نجح أحد أنصاره في قتل الأول، فيما فرَّ الأخير إلى عدن، ومن الأخيرة إلى الهند، وبذلك عادت تهامة لحظيرة الدولة الصليحية، ولكنها - أي العودة - لم تستمر طويلًا. بالتزامن مع هروب الشريف الفاضل إلى الجوف، استفتح أخوه ذو الشرفين شهارة، فنُسبت إليه، أسماها بـ (الحضرة العالية)، وصارت معقله الحصين، ليتوجه المُكرم أحمد بداية العام 462هـ إليها، ثم أدلف عائدًا تاركًا قريبه أحمد بن الـمُظفر هناك، حاصرها الأخير لخمسة أشهر، ودارت على تُخومها حوالي 70 موقعة، كان آخرها مَعركة أقر التي قتل فيها 900 فرد أغلبهم من الصليحيين. هُزم الصليحيون، وانسحبوا إلى صنعاء، لتُعلن معظم قبائل المناطق الشمالية ولائها للشريف الفاضل وأخيه، سيطرا الأخيران على صعدة رمضان 463هـ، ثم توجها صوب السودة، وأوغلا فيها قتلًا وأسرًا وخرابًا، كما أحرقا مدينة باري في حجة، وأخذا جبل مسور دون قتال رمضان 464هـ، وأنشئا فيها دارًا لضرب العُملة، وذلك بعد أن جمعا الفضة من الأتباع والأقارب، كما وصلا أكثر من مرة إلى تُخوم مدينة صنعاء، وأذلا سكان مناطقها المجاورة، وأخذا سبعة أعشار أموالهم، لينجحوا بعد ذلك في تشديد الحصار عليها شعبان 466هـ، حتى مات بعض سكانها من الجوع. أجبرت تلك التهديدات المُكرم أحمد أنْ يتخذ من جبلة عاصمة لدولته 467هـ، وهي مدينة جميلة سبق أنْ اختطها قبل تسع سنوات عمه عبدالله، وكانت صاحبة المشورة في ذلك التحول الاستراتيجي زوجته سيدة بنت أحمد، أخذت الأخيرة دور عمتها أسماء - توفيت في ذات العام - في الجانب الاستشاري، وأدت دورها على أكمل وجه، أما صنعاء فقد جعل الملك الصليحي عليها عمران بن المفضل اليامي، ولأحفاد الأخير دور في تأسيس دولة إسماعيلية مُستقلة سنأتي على تناولها في الأحداث الآتية. بعد سبع سنوات من الحكم، تخلَّت القبائل فجأةً عن مناصرة الشريف الفاضل؛ بل حاربته بسبب الجبايات الباهظة التي كان يفرضها عليهم، ولسبب آخر تمثل بقيام المُكرم أحمد في كسب ولاء بعض المشايخ، واحتواء الأمير حسين بن أبي الفتح الديلمي، وإرسال الأخير إلى قبائل بكيل لتثبيطها عن مناصرة الأخوين، وهو ما كان. وهكذا، وبعد أنْ رأى المُكرم أحمد انتكاسات الشريف الفاضل المُتتالية، وخضوع معظم المناطق الشمالية طوعًا لحكمه؛ قرر استعادة المناطق الجنوبية، استولى على لحج وعدن وأبين شعبان 467هـ، وترك بنى زريع - ينتسبون إلى زريع بن العباس الهمدانى، وقد استقلوا فيما بعد بحكم تلك المناطق - نوابًا عنه، وكلفهم بتقسيم الأموال بينه وبين محمد بن معن، استقر الأخير في أحور، ثم في أبين، وما هي إلا عشر سنوات حتى تجدد القتال بين الجانبين، وقعت معركتان، انتهتا بهزيمة بني معن، ولم تقم للأخيرين بعد ذلك قائمة. أما الشريف الفاضل فإنَّه وبعد أنْ أيقن بعدم مقدرته على مُواجهة القبائل الشمالية، من ناصروه بالأمس، اعتزلهم، وتوجه مطلع العام 468هـ إلى الجوف، وهناك تحول إلى مُزارع في ضيعة عمران، قسمها لثلاثة أقسام، قسم له ولأخيه ذي الشرفين، وقسم لبني نهم، وقسم لبني نِشْق وبني الدعام، لم يُعجب ذلك التقسيم الأخيرين، فقتلوه ضربًا بالعصي صفر 468هـ، وهو عريانٌ يغتسل بغيل الخارد. قاد ذو الشرفين محمد في مُنتصف العام التالي أنصاره لمحاربة قاتلي أخيه، أروى غليله، وشفا غيظه، وفتك بالكثير منهم، ليعود بعد أنْ هادن الصليحيين إلى شهارة الأمير طامحًا في الحكم والإمارة، وهو ما كان. نقض الصليحيون الصلح، وتوغلوا بدعم من قبائل بكيل شمالًا، حتى وصلوا إلى سفوح شهارة، إلا أنَّ ذا الشرفين مَسنُودًا بقبائل خولان الشام استعاد زمام المبادرة، وكسر زحفهم، وماهي إلا سنوات معدودة حتى داهمه المرض، فأقعد فكره، وثبط تطلعاته، وظل طريح الفراش إلى أنْ مات محرم 478هـ، دخلت الإمامة الزّيدِيّة بعد ذلك مرحلة الانكماشة الكبرى، حتى وصلتها من بلاد فارس دعوة أعادت إحيائها من جديد. وبالعودة إلى ذكر المُكرم أحمد، فقد كان كأبيه، ذا عزم، وحزم، وإقدام؛ بل فاقه في بعض الميزات، مثل عدم لجوئه إلى أخذ الرهائن من مُعارضيه، وعدم التدخل في صراعات القبائل، ولو كان أحد الأطراف من مُناصريه، وهي السياسة التي أدت إلى عودة تلك القبائل سلمًا إلى طاعته، وعنه قال المُؤرخ عمارة: «كان فصيحًا شجاعًا مشهورًا بالثبات والإقدام، إذا زلت الأقدام، ولم يكن في زمانه من يتعاطى حمل رمحه وسيفه؛ لشدة قوته، وعظم خلقه». بلغت الدولة الصليحية في عهد المُكرم أحمد أقصى درجات القوة، وتجاوزت كدعوة الجغرافيا اليمنية إلى عُمان، والحجاز، والأحساء، والهند، والسند، اشتد عليه في أواخر عمره مرض الفالج الذي أصيب به أثناء تحرير أمه من الأسر، فنصحه الأطباء باعتزال الناس، فالتزم بالأمر، وترك الحكم لزوجته سيدة بنت أحمد، وآثر الاعتكاف في حصن التعكر حتى وافته المنية جمادي الأولى 477هـ / سبتمبر 1084م، وهو في العقد الخامس من عمره. .. يتبع