الأصل في الناس هو الشر، وعلى هذا الأساس يجب أن يُعاملهم الحكام إذا أرادوا لحُكمهم البقاء، هكذا شرَّعن نيقولا مكيافيللي لأفكاره التسلطية، جمعها بين دفتي كتابٍ أسماه (الأمير)، ونمقها بمُفردات ملؤها الخسة، والانتهازية، وعدم احترام حقوق الآخرين، وظلت عارًا يُلاحقه حتى بعد وفاته، والأسوأ أنَّ ذلك الكتاب حظي باهتمام الكثير من الطغاة، وسبق لموسوليني أنْ اختاره موضوعًا لأطروحته التي قدمها للدكتوراه، أما هتلر فلم يكن ينام إلا بعد أنْ يُعيد قراءته! ليس بالضرورة أنْ يكون الحاكم محبوبًا، ولا كريمًا، ولكن عليه - كما قال مكيافيللي - أنْ يكون قويًا، حريصًا، سيخشاه - تبعًا لذلك - الناس، وسيعتبرونه مع مرور الأيام سخيًا، خاصة حال إدراكهم أنَّه فعل ذلك من أجل مصلحة الوطن، وأضاف: «لا توجد صفة تحطم نفسها بنفسها مثل صفة الكرم، لأنَّه كلما زاد كرم المرء فإنَّه يفقد القدرة على المزيد منه.. ولهذا فمن الأفضل أنْ يشتهر الأمير بالحرص الذي يجلب له اللعنة، وليس الكراهية، وألا يضطر إلى أن يكون جشعًا، لأن ذلك يجلب له العار والكراهية معًا». حكام كُثر لم يطلعوا على كتاب (الأمير)، إلا أنَّهم طبقوا ما جاء فيه بحذافيره، وذلك بحكم سجيتهم، وطول فترة حكمهم، والأدهى والأمر أنَّهم زادوا فيه تطبيقًا لا نظريًا، ويُعد الإمام يحيى حميد الدين أبرزهم، وثمة شواهد كثيرة تدل على ذلك، سنستعرض بعضها في سياق تناولنا للأحداث الآتية. طويت بصلح دعان صفحة قاتمة لصراع كلف الجانبين (الإمامي، والعثماني) آلاف الضحايا، لم يعد الأتراك بعد ذلك كفار تأويل مهدوري الدم، كما لم يعد الإمام يحيى خارجًا عن طاعة الخلافة، يجب إخضاعه، وعن ذلك قال الواسعي: «وبعقد الاتفاق انحسم الخلاف، وهدأت الخواطر، وقرت الأعين النواظر، وارتاحت النفوس، وزال كل خطب وبؤس». الأتراك من جهتهم، وتأكيدًا لرغبتهم في استمرارية الصلح، قاموا بعزل محمد علي باشا جمادى الآخر 1330هـ / مايو1912م، وتعيين محمود نديم بك بدلًا عنه، والأخير سوري من أصل كردي، كان له عظيم الأثر في تهدئة الأوضاع؛ بل أنَّ الإمام يحيى نفسه كان يثق به، وكان يكتب إلى عماله بأنْ يلتزموا بأوامره. ضاقت حينها القبائل الشمالية المُعتاشة من غنائم الحرب ذرعًا، وبدأ البعض من مَشايخها يتذمر ويُعلنها صَراحة بمُوالاة حَاكم صبيا محمد بن علي الإدريسي، حليف الطليان، والمُستمر في حُروبه العدائية ضد الأتراك، والذي شكل بدهائه وحنكته تهديدًا خطيرًا على زعامة الإمام يحيى السياسية والروحية معًا، واستطاع بكرمه أنْ يَسحب البساط من تحت قدميه، ويستقطب عددًا كبيرًا من أنصاره. كان شيخ حاشد ناصر بن مبخوت الأحمر من أوائل مشايخ المناطق الشمالية المُساندين لمحمد الإدريسي، حسب ما أشارت إليه تقارير القنصل الأمريكي بعدن رايموند دافيد، الذي نقل عن ذات الشيخ قوله بــ «أنَّ الإدريسي يدفع أكثر»؛ وإنَّه لذات السبب مال وغيره إليه، وكانوا يُسمونه بـ (إمام الذهب)، ويُسمون مُنافسه الإمام يحيى بـ (إمام المذهب)، وحين احتدمت المُواجهات - حينها، وفيما بعد - بين الجانبين، كانوا يلهجون إلى الله بهذا الدعاء: «اللهم انصر الإمام يحيى نُص، وانصر الإدريسي نُص»؛ كي يستمر تكسبهم من الحرب، المهنة التي كانوا يعتاشون بها، ولا يجيدون سواها، ويُؤكد ذلك قول أحدهم: ما أنا قبيلي أحــــد ولا حــــد دولتي ما دولتي إلا من املا جيبي قُروش وما ينبغي تأكيده قبل التوسع أكثر في موضوعنا، أنَّ القبائل التي لا تُوجد لها مَصادر ثابتة للدخل، تَجد في الحروب والصراعات بُغيتها، وسبق لأمين عام جامعة الدول العربية الأول الدكتور عبدالرحمن عزام - مثلًا - أنْ قال في مُذاكراته أنَّ القبائل الليبية انقسمت بعد الاحتلال الإيطالي لبلدهم بين الأخيرين والثوار. عزام قال أيضًا أنَّه توجه إلى ذلك البلد العربي الشقيق مُناصرًا لثوارها، وأنَّه عمل على الإصلاح بين قبائلها، وتوحيدها لمُحاربة المُحتل الخارجي، وفي ذروة قيامه بمهمته تلك، خاطبه بعضهم قائلين: «يا أستاذ عبدالرحمن أنت رجل فاضل.. ابحث لنا عن حرب جديدة نأكل ونترزق منها»!
وبالعودة إلى موضوعنا، لم تقتصر تلك المُساندة على مشايخ حاشد وبكيل، فهناك علماء زيديين ناصروا محمد الإدريسي نكاية بالإمام يحيى، كيحيى بن محمد بن الهادي، وأحمد بن عبدالرحمن الأعضب، والأخير قاد - كما أفاد المُؤرخ إسماعيل الأكوع - مجاميع قبلية من حاشد لذات الغرض، وكانت مجاميعه تلك تردد بعض الزوامل، نقتطف منها: ويا سلام الله عليك يا سيدي الولي مُحمد بن إدريس أللي نوره مُضي ومنها: شـــــاع صــــيـــت نـــصـــــره واهتـــــــدى كـــــل عـــــاصـي أخـــــرج مـــــــــدافــع والخيام والشـــــمــــــس حـامـــــــــــي واخــــــــــرج ذُيُوب الحـرب نَبُّــــــــــــــوت وصــابــــــــه أما يحيى بن محمد الهادي، فقد بالغ في خُصومته للإمام يحيى، وهجاه في شعره، وبَالغ في المُقابل في مدح خصمه، وما أنْ طُويت صفحة الأدارسة، حتى عاد لسيرته القديمة، وحاول أنْ يُكفر عما اقترفه، ومدح سيده وسميه بأشعار كثيره، ومما قاله في لحظات خصامه نقتطف: ويُغلق باب شرع الله حتى كـأنَّ بيـوته من غير باب ونقتطف أيضًا: ولابــــن حميــــد الـــدين مُلــــك مُـــدمرٌ لـــه ومــواليـــــــه مـن العجــم والعـرب بمـــــا قد تعـــــدوا في يـريم حـــدودهم وأرض تـعـز والـــعـديـــن إلــــــى إب وقد دفعت تلك التصرفات الإمام يحيى إلى أنْ يُلوح في إحدى رسائله لعلماء حوث بالاستقالة إذا استمر الوضع على ما هو عليه، وقد خلص الباحث زيد الوزير ناقل هذه الجزئية المُهمة إلى القول: «لقد لاح بالفعل في أفق الجماهير المُتطلعة للقتال والمال بطل جديد قادر على أنْ يقضي بذهبه على الإمام والترك معًا». مع نشوب الحرب العالمية الأولى، تحالف الإنجليز مع محمد الإدريسي، بعد أنْ تخلى عنه الطليان، ووقعوا معه مُعاهدة صداقة، وردًا على ذلك قام الأتراك باجتياح لحج 23 شعبان 1333هـ / 5 يوليو 1915م، بقيادة اللواء علي سعيد باشا الجركسي، ومعه أكثر من 8,000 مُقاتل، غالبيتهم من قبائل المناطق الوسطى، مع قلة قليلة من الحواشب، واليوافع، والصبيحة، وذكر الباحث صادق عبده علي أنْ مُساندة أهل تعز لتلك الحملة جاءت طمعًا في أنْ يمنحهم الأتراك حكمًا ذاتيًا أسوة بما أعطوه للإمام يحيى. وقف الإمام يحيى في تلك الحرب على الحياد، ووصلت القوات التركية إلى الشيخ عثمان، إلا أنَّ الإنجليز استردوها، بعد أنْ استخدموا الطيران لأول مرة، وفي الأخير حدث ما يشبه التعايش بين الفريقين، ففتحت التجارة بين لحج وعدن، ونشأت علاقة ودية طريفة بين المُتحاربين، دامت حتى انتهاء الحرب. وما أنْ بدأت الدولة العثمانية أواخر تلك الحرب تترنح؛ حتى سارع الإمام يحيى بإرسال مندوب من قبله إلى عدن للتفاوض مع الإنجليز 1917م، خاصة وأنَّ الأخيرين كانوا قد شددوا قبضتهم على السواحل اليمنية، ورفعوا من وتيرة حصارهم للقوات العثمانية، وهو الحصار الذي كانت تبعاته على إمام شهارة وأنصاره وخيمة. وصل مندوب شهارة إلى عدن طارحًا عدة مطالب، وكان على رأسها الاعتراف بخضوع اليمن - كل اليمن - لسلطات الإمام، وأنْ تُعاد للأخير جميع الموانئ البحرية كونها من ممتلكات أسلافه! وطرد الأدارسة من عسير وشبه الجزيرة العربية، وأنْ يتم اتصال الإنجليز مع الشعب اليمني من خلاله، وأنْ تقوم بريطانيا بتزويده بالأسلحة والذخائر، وقد اعتذرت الأخيرة عن قبول تلك المطالب كونها مُرتبطة باتفاق معاهدة مع الإدريسي. بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى، وقّع الأتراك على هدنة مودروس محرم 1337هـ / أكتوبر 1918م، وبموجبها، وبعد شهرين من توقيعها استسلمت قواتهم في لحج للإنجليز، وعن ذلك قال جيكوب: «وقد دخل علي سعيد باشا عدن دخول المُنتصر، فقد قابلته الجماهير هاتفة له؛ وذلك لأنَّه حارب بيدين نظيفتين، وكان جنديًا مُمتازًا، وكذلك إداريًا من الدرجة الأولى، وقد أكسبته شخصيته عند زحفه إلى الجنوب كثيرًا من الأصدقاء». وما يجدر ذكره أنَّ الإمام يحيى سبق أن رفض أخذ لحج وضواحيها بموجب مبادرة قدمها له علي سعيد باشا، ورد على الأخير بما معناه: «ماذا أريد بأرض إذا أرسلت إليها العسكري لا يعود». وتشير بعض الوثائق التركية أنَّ القائد علي سعيد كان يود مخلصًا أنْ يرى اليمنيين يستلمون مناطق الجنوب من تركيا عند هزيمتها، بدلًا من إعادتها تحت النفوذ البريطاني، وقال في رسالة بعثها للشيخ عبدالوهاب نعمان قائم مقام قضاء الحجرية ما نصه: «نحن مجبورون على ترك تربة اليمن المقدس، وأهله إخواننا المحترمين الذين اشتركوا معنا منذ أزيد من أربع سنين، وإنا نتمنى لإخواننا في الدين الاتحاد والاتفاق التام، وأنْ لا يقبلوا تولية النصارى قطعيًا، لنكون على الدوام في سلوان بحسن فعالهم». أما الوالي التركي محمود نديم فقد رفض الاستسلام للإنجليز؛ خوفًا من وقوعه هو وأصحابه في مذلة الأسر، التحق وأفراده الـ 900 بقوات الإمام يحيى، ليغادروا اليمن فيما بعد، باستثناء 300 ضابط وجندي استبقاهم الأخير لتدريب جيشه النظامي، فيما أسلحة وعتاد الجيش التركي صارت ميراثًا سهلًا لدولة الإمامة الوليدة، التي لم يعترف بها الأتراك إلا بعد مرور أربع سنوات، وذلك بموجب معاهدة لوزان. ما إنْ دخل الإمام يحيى صنعاء 16 صفر 1337هـ / 19نوفمبر 1918م، حتى بدأ بإشاعة الخراب، والدمار، والنسف، والاغتيال، وقد امتدت أيادي أنصاره لمؤاذاة عدد من العلماء، بعد رفضهم للمادة الفقهية التي وضعها بهدف تدعيم حكمه، التي تقول: «من انتقد الإمام بقلبه منافق، ومن انتقده بلسانه مخطئ، ومن انتقده بيده محارب». كما بدأت تظهر عليه علامات التشيع، عكس ما كان يبديه بادئ الأمر، قاد بنفسه مواكب يوم الغدير إلى ضواحي العاصمة، وكان يسميه بـ (يوم صقل الخلافة)، وحمل الناس على الإيمان بحقه الإلهي، وحق سلالته في السلطة والوصاية على الدنيا والدين. وفي العام التالي استولى الإمام يحيى على المناطق الوسطى، وعلى بعض المحميات الجنوبية، وضمها بالقوة إلى (المملكة المُتوكلية اليمنية)، الاسم الجديد لدولته، لم يهنأ رغم ذلك بالحكم، توالت الثورات عليه في تلك المناطق وغيرها، مثل صنعاء، والجوف، وحاشد، وبرط، كما تمرد عليه محمد بن علي الوزير 1341هـ / 1922م، ويعتبر ذلك هو التمرد الأول لبيت الوزير. كان محمد نائبًا عن أبيه في قبض واجبات جبل اللوز في خولان، شجع بعض عقال الجبل على التمرد، وحين تم القبض عليهم تخلى عنهم، ليعاود الظهور من ذات الجبل، بعد أن تجمع معه جماعة من بني جبر، وخولان، وبني بهلول، وأعلن نفسه مُحتسبًا، وأصدر منشورًا حدد فيه مطالبه، وشرع في بث رسائله إلى الجهات مُعترضًا على أسلوب الإمام يحيى في الحكم، إلا أن الأخير قبض عليه، وزج به بالسجن، ليتدخل ابن عمه عبدالله في الإفراج عنه، وكانت نهايتهم جميعًا بعد فشل ثورة 1948م. بعد إخماده لتلك التمردات، استعاد الإمام يحيى تهامة، وميناء الحديدة من الأدارسة المدعومين من الإنجليز 3 رمضان 1343هـ / 27 مارس1925م، لتأتي بعد ذلك الثورة الحقيقية لقبائل الزرانيق، ثم انتكاسة جيشه الحافي أمام الإنجليز 1346هـ / 1928م، وأمام القوات السعودية 1353هـ / 1934م. ارتخت بعد ذلك قبضته، وتبددت هيبته، وبدأ الأحرار يفكرون جديًا في كيفية التخلص منه، وقد أرسل إلى بعضهم مُعاتبا: «ما كان أغناكم عما ساقكم الشيطان إليه من إنكار نعمتنا على اليمن، التي لا يوجد مثلها تحت أديم السماء، فاليمن لم تعرف حكمًا كحكمنا من عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب»! اشتهر الإمام يحيى - كما سبق أن أشرنا - ببخله الشديد، وتحدث مُقربون منه عن مخازن كبيرة في قصر غمدان كانت ملأى بالحبوب، وغرف أخرى في قصري السعادة والشكر كانت ملأى بالعملات النقدية؛ بل بملايين الريالات الفرنصية (ماري تريزا)، وأنَّه كان يقوم عند امتلائها بسدها بالأحجار، وأنَّها - أي تلك الغُرف المُغلقة - ظلت على ذلك الحال حتى قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م المجيدة، ولم يرتشد إليها الثوار إلا بعد أنْ وجدوا في قصر ولده الإمام أحمد وثائق تحدد مكانها، وقد استفادوا منها في الإنفاق على النظام الجمهوري الوليد سلمًا وحربًا. وذكر آخرون أنَّه - أي الإمام البخيل - كان يحمل في جيبه دفترًا صغيرًا يدون فيه ما يحتويه هذا المخزن أو ذاك من أموال. وتحدثوا أيضًا عن قيام أحد أولاده بسرقته، وذلك بعد أنْ حفر نفقًا صغيرًا لإحدى تلك الغرف، ولم يكتشف أمره - أي الأمير اللص - إلا بعد أنْ بدت عليه علامات الثراء! كتب حينها أحمد عبدالوهاب الوريث قصيدة ناقدة للإمام يحيى ونظامه، وفيها عرَّج على بخله، وانشغاله بجمع الأموال، وتساءل مُحفزًا أقرانه على الثورة: أفي الملك الـمـيمون وهــــو مُـــقدس نرى الملك مشغـولًا بجمع الدراهم؟ أفيه يسود الظـــلم والسلـب والـرشا وفيـه نــرى الــديـــنـار أحكم حاكم قـــبــــيــح بنــا أنـا نــراه مــؤخــرًا ونـــتـركه يـمــشي بصـورة عــادم ويرسف فـــــي قيـد الجهالة شعبه ويـحـرم مــن أنــوار فــكــره عالم كما قدم العلامة محمد بن محمد زبارة نصيحته الصادقة للإمام يحيى بترك ذلك السلوك المشين، وإنفاق الأموال التي اكتنزها بما يخدم رعاياه المُنهكين، وكتب قصيدة طويلة أسماها (الذكرى تنفع المؤمنين)، ومنها نقتطف: أنفقـوا مـمـــا جمعتـم فــي بنـي دينكم ترضون رب العالــميـــن في الأباة الصـابرين الصادقين العفـــــاة القانــــعيـن البـائسين إن جــمـع المال لا ينـجي ولا يدفـــع التسليـط عن مستـوجبين إنَّ كنز المال قـد يــوقع في الـ خـزي والخسران في دنيا ودين لم يستمع الإمام يحيى لتلك النصيحة، ولم يفتح مخازن الحبوب لإنقاذ الناس من المجاعات المُتلاحقة التي حدثت في عهده، وفتكت بالكثير منهم، ولجأ من نجا لأكل الكلاب والقطط، وحين ذهب إليه بعض المسؤولين أثناء مجاعة عام 1361هـ / 1942م، والعام الذي يليه، وقدموا له مُقترحًا بزيادة إنتاج فرن الكُدم، صعَّر لهم خده، ورد على ظهر ذات الورقة: «أحسنتم بالرأي، ما يكفي الخلق إلا الخالق، دعوهم من مات فهو شهيد، ومن عاش فهو عتيق»، فعلق القاضي العيزري - حينها - ساخرًا: «إذا كان الإمام مُصدق بيوم القيامة فاقطعوا رقبتي بحذاء». في شهادته على تلك المرحلة قال أحمد جابر عفيف: «وكانت سنوات الجدب تُحدث مجاعات كثيرة، فتأتي إلى صنعاء أعداد كبيرة من الجائعين.. وكثيرٌ منهم كانوا يموتون في الطرقات، وكانت صنعاء تشهد كل يوم أعدادًا من هؤلاء، والإمام يعرف كل ذلك ويطلع عليه.. ومع ذلك فإنه لا يفتح مخازن الحبوب الكثيرة المـُمتلئة، والموجودة في كل المحافظات، ولم يحدث أنْ لانت نفسه فصرف شيئًا لهؤلاء المساكين»، وأضاف متحدثًا عن ذات الإمام: «كان فقيهًا وعالمـًا، ويعرف جيدًا كيف تُصرف الزكاة، وما يجب على الحاكم إزاء شعبه، ولكنه لم يفعل ذلك نهائيًا»! كما لجأ الإمام يحيى إلى مُصادرة أموال اليمنيين الذين بدت عليهم علامات الثراء، وقام بضمها إلى بيت المال الذي هو في الأصل بيته؛ وذلك خوفًا من أنْ ينازعوه الحكم، وهي حقيقة أكدها هلفرتز بقوله: «ولا يستطيع أي يماني أنْ يجني ثروة كبيرة تجنب أن يُصبح مشبوهًا من الناحية السياسية في يوم ما، إذ أنَّ المال يأتي بالسلطان، ولا يريد الإمام أنْ ينازعه بالسلطان أي من رعاياه». كان الأمير الحسن - ثالث أبناء الإمام يحيى - أكثر سيوف الإسلام شبهًا بأبيه، خَلقًا وخُلقًا، وهو الآخر لا أعتقد أنَّه قرأ كتاب الأمير، إلا أنَّه جاء كوالده بأساليب جديدة، أكثر خسة وانتهازية، كان حقودًا بَخيلًا، تجاوز نصائح مكيافيللي من الحرص إلى الجشع، وسام رعية لواء إب الأخضـر صُنوف العذاب، وحين حَدثت المجاعة السابق الإشارة إليها، منع فتح المدافن المليئة بالحبوب للناس المُتوافدين عليه، وكرر مقولة أبيه الصادمة: «ما يكفي الخلق إلا خالقهم»، فمات أكثر الناس - من الجوع - أمام ناظريه. وحين طلب معاونيه منه أن يصرف أكفانًا للضحايا، أمر أن يقبروا بمقابر جماعية، وبدون أكفان، ليتصدق داؤود الصبيري - أحد التجار اليهود - بشراء الأكفان، أما الأمير البخيل فقد أغلق على نفسه داره، وكأنَّ الأمر لا يعنيه، فاستحق بذلك كره الناس، ولعناتهم، وفيه قال القاضي عبدالرحمن الإرياني: حــــسـن ابــــن الإمام لا أحســــن الله إلــيــه ولا عــداه الســـــــــــقام يــــأخـذ المــال يهتــــك العــرض لا يسلم منـــــــه النساء والأرحام كما خاطب في ذات القصيدة أباه الإمام يحيى قائلًا: أنصـــف الناس مـن بنيك وإلا أنصفــتـــهم من دونــك الأيـام ويبقى - في ختام هذه التناولة - السؤال: إذا كان مكيافيللي حيًا هل كان سيعجب بتصرفاتهم الأئمة - قديمهم والحديث - ويُدونها كنصائح للطغاة؟! أكاد أجزم أنَّه كان سيفعل ذلك، وسيغير اسم كتابه من الأمير إلى الإمام!