ما أنْ لفظ الهادي شرف الدين محمد بن عبد الله عشيش أنفاسه الأخيرة 19 شوال 1307هـ / 6 يونيو 1890م، حتى اجتمع علماء الزّيدِيّة في صعدة، ورشحوا ولده محمد الشهير بـ (أبو نيب) بدلًا عنه، رفضها الأخير، وقيل أنَّه لم يستوفِ شروطها، فما كان منهم - حسب وصية الإمام المتوفى - إلا أنْ راسلوا محمد بن يحيى حميد الدين الذي كان حينها مُقيمًا في صنعاء، طلبوا منه الحضور، وفي صعدة اختاروه إمامًا؛ كونهم - حد توصيف المُؤرخ الجرافي - لم يجدوا من يصلح للإمامة غيره. تلقب الإمام الجديد بـ (المنصور)، وهو من الأسرة القاسمية، ولكن من فرع لم يتولَّ الإمامة من قبل، كان شديد التعصب لمذهبه، مُنكرًا لما دونه من مذاهب، ولقب (حميد الدين) التصق بأبيه لمصاهرة حدثت بينه وبين آل حميد الدين بن المـُطهَّر، من أسرة شرف الدين في كوكبان. في تلك الأثناء، كان لا يزال المهدي محمد بن قاسم الحوثي قائمًا بالدعوة لنفسه في برط، أرسل إليه المنصور محمد جماعة من أهل صعدة وضحيان، فاوضوه، فما كان منه إلا أنْ خلع نفسه، وبايع الإمام الجديد، وتحدث صاحب (الدر المنثور) عن حدوث مناوشات محدودة بين أنصار الإماميين. بعد ثلاثة أشهر من دعوته، غادر المنصور محمد صعدة، وجعل عليها أبو نيب، استقر في القفلة، وجعلها عاصمة له، ومن هناك أخذ يوجه دعاته لاجتذاب القبائل الشمالية لمحاربة الأتراك، أعداءه الذين كان يُكن لهم عظيم الكره، سبق أن حبسوه في الحديدة قبل 15 عامًا؛ والسبب مُناصرته حينها للإمام محسن الشهاري، وكان قبل ذلك قد تولى باسمهم قضاء حجة، إلا أنَّه لم يدم في ذلك المنصب طويلًا، بدأ عهده بمحاربتهم، واستجابت القبائل بالفعل لندائه التحريضي، وعبر عن ذلك شعرًا، نقتطف منه: أجيـبوا دعائي، ولــبـوا نـــدائي وقــومـوا بـحـق عليـــكم وجب وشدوا الهــمــم، لحـرب العـجم وضــــرب القمـم، ونفي الريب ليس في بلاد من بلاد الزّيدِيّة في اليمن - كما قال المُؤرخ العرشي - إلا وللمنصور محمد فيها معركة، وقيل أنَّها وصلت لحدود 150 موقعة، سيطرت قواته عام توليه على الشاهل شوال 1308هـ / يونيو 1890م، هزمت الحامية العثمانية فيها، وقتلت قائدها محمد عارف بك، أما باقي الحملات فقد توجهت صوب ظفير حجة، ومسور، وحفاش، وملحان، والروضة، وقد كانت خسائر الأتراك فيها فادحة، وكان الشيخ ناصر بن مبخوت الأحمر من أبرز أنصاره. لم يأتِ عام 1309هـ / 1891م إلا وقوات المنصور محمد التي قدرت بـ 70,000 مُقاتل تحُاصر صنعاء، دارت حينها معارك كثيرة في عصر، ونقم، والجرداء، والجراف، فيما أعلنت ذمار، ويريم طاعتها من أول وهلة، كما تشجع أبناء قبيلة بكيل في المناطق الوسطى على التمرد، وقاموا بمحاصرة الأتراك في مراكزهم بـإب، والقاعدة، وقد كان لوفاة الوالي العثماني إسماعيل حقي - حينها - أثره البالغ في تنامي حدة تلك التمردات، وقال حينها الشاعر محمد الحضراني مُهددًا الأتراك: فقل لعلــــوج الروم وافـاكمو الذي لسطـــوتـه ينــجـــاب كـــل المـُلمة هـمــام كـــريم من ذؤوبة هــــاشـم خبـــيـر بكم يــا شـــر كــل الخليقة هتـكتــم شـريـــعة جــده وارتكبـتم جـرائــــم أدنــاهـن ظــلم الرعـــية سلاحكــم ســـلبًا وارحـامـــكم سبا وأمــــوالكـم نهبـــا إذا الهــامُ حُزت عانى سكان صنعاء من ذلك الحصار الأمرين، وحين اشتد ببعضهم الجوع، خرجوا بأهلهم بحثًا عن مكان آمن، وفي الطريق تلقفهم المحاصرون، وفتكوا بهم، ونكلوا بهم أشد تنكيل، وقد فضح المُؤرخ الواسعي جُرم تلك القبائل بقوله: «ارتكبوا أنواع الفضائح، وأغضبوا الرب تعالى بفعلهم القبائح، هتكوا الأنفس والأعراض، وكلما خرج إنسان نهبوه، وإن وجدوا امرأة هتكوا عرضها». كما نقل الرحالة الإنجليزي هاريس الذي كان حينها مُتواجدًا في صنعاء تفاصيل دقيقة لبعض المعارك التي دارت حول المدينة المحاصرة، وقال في نقله لإحداها: «أطلقت القوات العثمانية المتحصنة في قلعة صنعاء نيران مدافعها بصورة مُنتظمة على مواقع رجال القبائل المحاصرين للمدينة، مما ساعد العثمانيين على الخروج من البوابة الجنوبية والاتجاه شمالًا، حيث نشبت معركة عنيفة رجحت كفة الترك، وتمكّنوا من طرد رجال القبائل الذين اضطروا إلى التقهقر تجاه قرية صغيرة قريبة من أسوار صنعاء، وقد تمكّنت القوات التركية بمساعدة بعض المدافع الصغيرة من تدمير منازل تلك القرية تدميرًا تامًا، وتمكّنت كذلك من رد هجوم مُضاد قام به الثوار». وأضاف هاريس: «وأخيرًا اضطر رجال القبائل إلى التقهقر بعد أنْ تركوا آلافًا عديدة من القتلى في ميدان المعركة، ورغم انتصار القوات التركية على الثوار، لم يكن هذا الانتصار كله في صالحهم، إذ أدى ترك جثث القتلى دون دفنها إلى انتشار الأمراض بين السكان». بعد وفاة الوالي إسماعيل حقي باشا، عين الأتراك الفريق حسن أديب باشا بدلًا عنه، وكان وصول الأخير إلى مدينة الحديدة في يوم الجمعة 11 ذي الحجة 1308هـ / 17 يوليو 1891م، وحين لم يصل إلى صنعاء بسبب الأوضاع المضطربة، صدرت الأوامر لأحمد فيضي باشا - رجل المهمات الصعبة - بالتوجه من مكة إلى الحديدة، وهو والٍ شجاع، سبق أنْ تولى ولاية اليمن، نجح ومعه آلاف العساكر بإخماد ذلك التمرد، ودخول مدينة صنعاء 7 ربيع الأول 1309هـ / 10 أكتوبر 1891م. قال المُؤرخ الواسعي عن تلك المعركة الفاصلة: «مع فساد نية القبائل، وارتكابهم المحرمات، حاق مكر الله بهم، فلم يزالوا ينهزمون للأتراك من محل إلى محل، وأصابهم الخوف والوجل، والذل والفشل، وكلما وصلوا إلى محل، هرب أهل ذلك المحل، حتى دخل الوالي صنعاء، وعم الناس السرور والفرح، وزال عنهم البؤس والترح». وفي المناطق الوسطى تحركت قوات تركية من تعز إلى إب، سيطرت عليها دون قتال، ولم يعترض طريقها إلا بعض أبناء قبيلة بكيل في نقيل السياني، وقد ولوا بعد هزيمتهم هاربين، وإلى ذلك أشار صاحب (الدر المنثور): «تقدمت العجم من مدينة تعز إلى حصون الأخطور، ونقيل المحرس، وفيها جماعة من آل دماج، وأحمد بن قائد.. فوقع الحرب بينهم بالموضعين.. وأخذت العجم الحصنين». بعد أنْ صدر قرار تعينه واليًا على اليمن للمرة الثانية 6 جمادى الأول 1309هـ / 7 ديسمبر 1891م، أصدر الوالي المشير أحمد فيضي باشا أوامره بالعفو العام عن كل الخارجين، فأعلنت القبائل الشمالية المتمردة طاعتها له، وما هي إلا أشهر معدودة حتى قاد بنفسه جيشًا جرارًا صوب القفلة عاصمة الإمام 22 شوال 1309هـ / 18 مايو 1892م، وحين أدرك الأخير أنَّه هالك لا محالة، سارع بتهريب الأموال والذخائر، ثم أوى إلى كهف بعيد يعصمه من الموت. وعن ذلك قال صاحب (الحوليات): «والإمام باقٍ بالبطنة، هيجة غربي سوق الحرف - يقصد حرف سفيان - مُتصلة بالعمشية، أرض قفرة لا يسكنها إلا البدوان، قيل أن فيها جرف منحوتة في الجبل، وقد صارت في هذه المدة مفر للأئمة، كلما نابت نائبة لجأوا إليها»، وكان الإمام محسن الشهاري قد أقام فيها من قبل، وكذلك فعل الهادي عشيش. وكان المنصور محمد قبل ذلك قد ناشد القبائل المنهزمة بقصيدة طويلة نقتطف منها: أفي الـديــن أن يبــقى إمـام بنـــفسه وحيـدًا ومـــــا منكم مُعيــنٌ على أمر ولا تبخلــوا بـــالمال عنه وقــــد سخا بـمهجتـــــه، والـــروح أغلى من الدُّر أنيبـوا أنيبـــوا قبـل أن تمــطر السما عليـــكم بــــأنــواع الـمصائـب والفقر حين وصل الوالي أحمد فيضي باشا إلى القفلة، ولم يجد المنصور محمد يحيى حميدالدين فيها، أمر بتدمير بعض الحصون، ثم توغل في مناطق حاشد وصولًا إلى برط العنان، وهناك أخذ جنوده الأسرى من قبيلة ذو محمد دون فدية، وهؤلاء سبق أن أرسلهم الإمام مع ولده يحيى إلى تلك القبيلة، ثم توجه إلى صعدة، أخضعها، وأظهر أهلها - كما أفاد المُؤرخ الجرافي - استعدادهم لإرسال الأسرى الأتراك لديهم إلى مُتصرف عسير؛ وهو الأمر الذي أغضب الإمام المهزوم كثيرًا. فور عودته إلى صنعاء، وجه الوالي فيضي باعتقال 55 من العلماء والأعيان بتهمة التواصل مع الإمام الهارب، أرسلهم إلى الحديدة، ومن هناك تم نفيهم إلى جزيرة رودوس في البحر الأبيض المتوسط، وقد ظلوا فيها قرابة 18 عامًا، وقد امتدحه حينها الشاعر عبدالله بن إبراهيم بقوله: هـــذا ونـشكـــر فعـل والــــيــنــا الـــــــذي حـاز الـمـــنــاقــــب والـمفـــــاخــر والفطن الفـــاتــك الـمشـهــور والشــــهم الـهــــمام الليـــث والـمــــقــــدام أشـــجـــع من طعن فـاسأل منــازل بالخميــــــس وبيت عذران وســـــــل جــدرا وبــالـــجــرداء تـــــغـــن ملك الـــــعــــنـــان وحــط فيـــه ركـابــــه بعـــــد الـجـــراف وحــــرف سفيــان سكن رغم جبروته، واتهامه بالفساد، عمل الوالي أحمد فيضي باشا على تحقيق بعض الإنجازات التي تحسب له، فقد شيَّد - عام توليه أمر الولاية - عددًا من الحصون والقلاع فوق الجبال المطلة على مدينة صنعاء، للدفاع عنها من هجمات القبائل المتكررة، كما أعاد بناء باب اليمن على هيئته الحالية، وأمر بتعبيد الطرق بين ألوية الولاية، وقال عنه صاحب (الدر المنثور) ساخرًا: «وغرم في ذلك أموالًا واسعة.. كل ذلك لأجل أن ينسيهم الفساد، ويُشغلهم بذلك عن المُراد». لم تطل مدة بقاء المنصور محمد بالكهف كثيرًا، فقد وصل إليه عدد من مشايخ حاشد، أرضوه بعقير، وطلبوا منه النزول في ضيافتهم، أقام بحوث مدة، ثم أدلف راجعًا إلى القفلة، ليبدأ بعد ذلك بالتدلل إلى الأتراك، والتوسل إلى سلطانهم عبد الحميد الثاني بعدة مراسلات، طلب منه في إحداها أنْ يحكم شمال اليمن تحت مظلة ذات السلطان، تماما مثل محمد علي باشا وبنيه في مصر والسودان، ولم ينسَ أن يتباهى بسلالته، وبأنها الأحق بالحكم والولاية، ولو بدرجة (نائب سلطان). قال المنصور محمد في إحدى رسائله ما نصه: «ولو يعلم السلطان الأعظم حقيقة الحال، لسارع إلى إعانتنا في الحال والمآل، ورفع جميع المأمورين من الخطة اليمانية، وأمرهم بحرب الفرقة الكفرية، ولمنع من محاربة العترة النبوية، التي هي بضعة من الذات الشريفة المحمدية». حين يئس المنصور محمد من الأتراك، فتح خط تواصل مع الإنجليز، الفرقة الكفرية - حد توصيفه - وكان سلطان لحج فضل العبدلي وسيطهم إليه، كما حصل على أسلحة مُهربة من قبل الفرنسيين، وبتحريض إنجليزي عادى الأتراك، واستمات في حربهم، وكانت حروبه هذه المرة تخريبية، حرب عصابات، اقتصرت على نسف بيوت المناوئين، وقطع أسلاك التلغراف، ومهاجمة الطرق، ونهب البريد. وفي عام 1315هـ / 1897م عادت التمردات لتهد كيان ولاية اليمن من جديد، وكان أهالي بلاد الشرف سباقون في ذلك، ثاروا في جهتهم، واستولوا على كمية من الأسلحة، منها مدفع كبير، وأسروا عدد من الموظفين، وحاصروا الحامية التركية في قفل شمر، وتوسعت التمردات لتشمل عدد من المناطق، منها آنس بقيادة الشيخ علي المقداد؛ الأمر الذي أدى لعزل الوالي أحمد فيضي باشا، وتعيين حسين حلمي باشا بدلًا عنه، وذلك بمجرد أن انتهى ذلك العام. لم يكد الوالي الجديد يصل إلى العاصمة صنعاء صفر 1316هـ / يوليو 1898م، حتى اعترض موكبه في متنة جموع غفيرة من القبائل المناصرة للمنصور محمد، كان الأخير قد تعب في تحشيدها لحصار صنعاء - وهو ما يسميه بعض المُؤرخين بالحصار الثاني - إلا أنَّهم فور سماعهم بوصول ذلك الموكب تخلوا عن مهمتهم طمعًا بالغنائم، احتاط الأتراك للأمر، حموا واليهم، وتفرقت القبائل من حولهم تجر أذيال الخيبة. استبشر اليمنيون بمقدم الوالي حسين حلمي خيرًا، وهو بشهادة كثير من المُؤرخين يُعد من أفضل الولاة، قام بإصلاحات جمة، عزل الفاسدين، وأسس دارًا للمعارف، ودارًا للمعلمين، ومكتبًا للصنائع، كما أصدر أوامره بأن يكون التعليم إجباريًا لجميع اليمنيين، وجعل إلى جواره هيئة من أهل العلم والسياسة يشاورهم فيما يمكن عمله لإصلاح البلاد والعباد، وحفاظًا على الهوية اليمنية استصدر من الباب العالي أمرًا بأن يلبس الموظفون العمائم بدلًا عن الطربوش، خلافًا لأوامر الوالي السابق. سخر صاحب (الدر المنثور) من إنجازات هذا الوالي قائلًا: «وأن هذه الحوادث التي ألمت بهذا الوالي الخبيث من حسن صنيع الله مالا يخفى، فإنَّه خرج مفوضًا في اليمن، وصار تارة يهم بمخاطبة الناس بالنظام.. وتارة يخاطب الناس يدخلوا أولادهم الرشيدية، فلم يتم له المرام»، وعاد فاستدرك: «إلا أن كثيرًا من أهالي صنعاء أدخلوا أولادهم المكاتب، مكتب الرشيدية للأطفال، ومكتب المعارف، ومكتب الإعدادية، ومكتب الصنايع، ومكتب العربية، كل هذه المكاتب فيها كثير من أهل صنعاء، وعلى الجملة قد أفسدوا أهل صنعاء، حتى لم يبق منهم من لم يخالط الدولة إلا مثل الشامة بجلد الثور». ولمُواجهة المجاعات المُتتالية التي نُكبت بها اليمن خلال تلك الفترة؛ طلب الوالي حسين حلمي المساعدة من الباب العالي، إلا أنَّ معظم تلك المعونات تعرضت في الحديدة للتلف؛ بسبب تأخر نقلها، وهطول الأمطار، الأمر الذي عده صاحب (الدر المنثور) كرامة من كرامات سيده الإمام، حيث قال: «وقد أخبرنا الجم الغفير أنَّه صار الدقيق في الحديدة كالتل الكثير، حتى ذهب أكثره من الأمطار»، وأضاف: «ولقد سمعت الوالي حسين حلمي يقول، وقد وصل إليه رجل من بندر الحديدة، يسأل أنْ يحول له بشيء من الدقيق الخارج، فقال أهل اليمن عجزة، أخرج السلطان مثل الجبل دقيقًا ولم يقدروا على حمله، حتى فسد أكثره من الأمطار، وسبخه البحر الزخار». أصدر الباب العالي حينها قرارًا بتعيين المشير عبدالله باشا قائدًا للقوات التركية في اليمن؛ وهو الأمر الذي أدى لتعارض السلطات المدنية والعسكرية، ومهد لعزل الوالي حلمي باشا كما سيأتي. قام هذا القائد بحملة عسكرية على بلاد حاشد جمادى الآخر 1316هـ / أكتوبر 1898م، وصولًا إلى منطقة السُّودة، وراسل من هناك المنصور محمد طالبًا منه إلزام أهالي بلاد الشرف بإعادة المدفع الذي سبق أنْ استولوا عليه، وحين لم يستجب الأخير لطلبه، أكمل مسيره إلى وداعة، ومنها إلى القفلة، وكان الإمام قد توجه منتصف ذالك العام إلى شهارة، ومنها إلى جبل كوكب، ولم يعد إلى عاصمة دولته (القفلة) إلا بعد عودة المشير عبدالله باشا إلى صنعاء، في ليلة عيد الأضحى 19 أبريل 1899م. وعلى ذات النهج، وبطريقة دبلوماسية أيضًا، نجح الوالي الجديد حسين حلمي باشا في سحب البساط من تحت أقدام المنصور محمد، ناصره بعض المشايخ، وناشد الأخيرين أقرانهم بذلك، وبالفعل انضمت قبائل وداعة وحاشد لذات الحلف، وكذلك فعلت آنس بقيادة الشيخ علي المقداد، إلا أنَّ خضوع الأخير لم يستمر طويلًا، خاض بعد ذلك عشرات المعارك مع الأتراك، وقد دفعت بلاده ثمن تلك المواجهات كثيرًا. وفي ذات الصدد، ذكرت وثائق عثمانية أنَّ حوالي 200 شخص من مشايخ وسادات بني حشيش برئاسة عبدالله بن الإمام محمد الوزير طلبوا الأمان، وتخلوا عن مُناصرة الإمام الزيدي؛ الأمر الذي أغضب الأخير، كتب حينها الأمير يحيى بن محمد حميد الدين قصيدة طويلة مُتبرمًا من القبائل التي تخلت عن مُناصرة والده، جاء فيها: غيـــــر أنَّ العـرب قــاطبـة البســـــوا بــالظــلم والظلم لم يـــــراعــوا أمر قـــائمهم والـــوفا بــــالعهــــد والذمم تجرأ المنصور محمد بعد ذلك على قتل مُعارضيه، ونسف بيوتهم، وتسميم مياه الشرب، وأصدر فتاوى بذلك، وقيل أنَّه خصص بئرًا لخصومه من همدان - يرجح أنَّهم من الإسماعيليين - ودفنهم فيه بعد اغتيالهم. كما أرسل أحد أنصاره لنسف سمسرة وعلان؛ كون صاحبها محمد حسن فايع من المـُوالين للأتراك، وقد دخل ذلك الانتحاري وأكياس البارود محمولة فوق ظهر حمار، وصارت السمسرة بمجرد أنْ أشعل النار قاعًا صفصفا، وقتل هو - أي الانتحاري - و35 رجلًا، غير الدواب. وأمر ذلك الإمام الطاغية أيضًا بقتل ابن قنبع، وتفجير منزل صالح متاش، ومحمد الحيمي، وغيرها الكثير. والأدهى والأمر من ذلك أنَّه رفض مقترح عدد من العلماء والأعيان حين وصلوا إليه يترجوه بإخراج السكان من تلك المنازل قبل نسفها، فكان رده عليهم: «الصغار في الجنة، والكبار في النار»! كان لحلمي باشا توجه للصلح مع المنصور محمد، خاصة وأنَّ قوات الأخير كان قد أغارت على قرية الخدرة في عيال سريح، وأجبرت القوات التركية على التقهقر إلى عمران، وبالفعل درات المفاوضات بين الجانبين، ورفضت الشروط التي وضعها الإمام المنتشي بذلك النصر من قبل الباب العالي. وهكذا تعارض توجه حلمي باشا مع مركزية الدولة الشديدة، وميول بعض النافذين للفساد، وحين اشتد التضييق عليه، وتم الاعتداء عليه، ومحاولة اغتياله من قبل بعض الفاسدين الذين سبق أن قام بعزلهم 8 صفر 1318هـ / 6 يونيو 1900م؛ قدم استقالته، وغادر اليمن، وعن ذلك قال المُؤرخ الواسعي: «وأسف الناس عليه، لاسيما أهل العلم، وسافر وهيئته، وأحيلت الولاية إلى المشير عبدالله باشا». وفي عام 1319هـ / 1901م وصل إلى المنصور محمد القاضي أحمد بن محمد البرطي، والنقيب على بن ناصر جزيلان المعروف بــ (أبي حرب)، وهما من مشايخ بكيل في المناطق الوسطى، وصلا طالبين الدعم والمساندة لإعلان التمرد في تلك الجهة، وبالفعل عاثوا بعد عودتهما فسادًا، ونهبًا، وتخريبًا، وعن ذلك قال صاحب (الدر المنثور): «ولما وصلوا إلى هنالك ثارت قبائل المشرق الذين كانوا قد استوطنوا اليمن الأسفل، فعاثوا في البلاد، وصاروا يتعرضون للطرقات، وينهبون الضعفاء من الرعية، ويتخطفون كل من ظفروا، حتى اشتعل اليمن نارًا، وسفكت الدماء». تعرضت مدينة إب في تلك الأثناء للحصار من قبل مجاميع النقيب على بن ناصر جزيلان، تداعى الأتراك لإنقاذ المدينة، فما كان الشيخ المذكور إلا أنْ انسحب إلى جبل بعدان، لتدور هناك مواجهات شرسة لثلاثة أيام، كان النصر فيها حليف الأتراك، فيما توجه المتمردون ومن ساندهم شمالًا، مُستجيرين مرة أخرى بالإمام. لم ينعم اليمن في عهد الوالي عبدالله باشا بالأمن والاستقرار، كان مُتكبرًا، مُتجبرًا، عنيدًا، استشرى في عهده الظلم والفساد، واشتد الجدب، وارتفعت الأسعار، وتقوى جانب المنصور محمد، وسيطر ابن الأخير الأمير يحيى على مدينة حبور ربيع أول 1321هـ / يونيو 1903م، وإليها وإليه احتشد مئات المقاتلين، ومنها توجه إلى بلاد نيسا، وعفار، وكانت الحرب بينه وبين الأتراك سجالا.
أصيب حينها المنصور محمد بالشلل، وتوفي بالقفلة ليلة الخميس 19 ربيع الأول 1322هـ / 4 يونيو 1904م، عن 71 عامًا، ودفن حسب وصية له بمدينة حوث جوار قبر المُتوكل محسن الشهاري.
من كتاب (المتاهة.. الحلقات المفقودة للإمامة الزيدية في اليمن)