ذات السلاسل
مضى الشتاء بجوه الساخن، وحلّ الربيع بجوه الأسخن، وما أنْ أدرك السيف أحمد استحالة تجاوز متاهة وادي الجاح المُنهكة، حتى يمم خُطاه عبر الساحل جنوبًا، صوب مدينة زبيد هذه المرة 9 أبريل 1929م، وهناك كثَّف من استعداداته لجولة أخرى، واستقبل المجاميع المُنجدة، وتوجه بعد مرور أسبوعين بتلك المجاميع وغيرها إلى قرية الصعيد، مقر قبيلة المعازبة، والمُطلة على مدينة بيت الفقيه من جهة الشرق، جاعلًا منها نقطة انطلاق هذه الجولة، التي أرادها أنْ تكون حاسمة. كانت المُقاومة الزرنوقية على علم بتحرك السيف أحمد، وأعدت له بعد خروجه من زبيد كمينًا مُحكمًا، نجا منه بصعوبة، بعد أنْ تكبدت قواته - كما أفاد المُؤرخ مقشر - خسائر جسيمه، وعن ذلك الكمين قال المُؤرخ الإرياني: «ولم يمشِ بحيشه إلا قليلًا، فظهرت جموع الزرانيق، وعند ذلك قابلتهم بالرمي طائفة من الجيش، وتبعتهم إلى غاباتهم، وباءت الزرانيق خائبة الأمل، مرمية الفشل». ولم يكتفِ ثوار الزرانيق بذلك؛ بل قاموا - كما أفادت إحدى تقارير المخابرات البريطانية - بالاستيلاء على قافلة ضخمة قوامها ستين جملًا في القرب من الحسينية، كانت مُحملة بالمؤن والذخائر. كان في استقبال السيف أحمد عامل ريمة عبدالله بن حسين الديلمي، ومعه هو الآخر جيشًا آخر، ولم يكادا يتما حديثهما عن هجمات ثوار الزرانيق الليلية على قرية الصعيد، حتى فاجأهما الأخيرون بهجوم ليلي مُباغت، نقل المُؤرخ الإرياني تفاصيله، وقلل - كعادته - من أهميته، حيث قال: «وانشعلت نار الحرب، فانهزم البغاة هزيمة فاضحة، وكانت الغلبة للمُجاهدين». جعل السيف أحمد من مسجد الصعيد مَقرًا له، ونصب بجواره المدفع العملاق، الذي استمر يُصلي مدينة بيت الفقيه بحممه حتى سقوطها، وأخضع في اليوم الثاني لوصوله قبيلتي المعازبة، وبني محمد المُجاورة، وهي الذريعة التي قَدِم بسببها - أصلًا - إلى تلك الناحية، وجهز أيضًا حملة إلى دير القاصر، لإخضاع الشيخ محمد سعيد المقبولي، وأتباعه، ولكن دون جدوى؛ فقد انسحب الأخير بعد المعارك التالي ذكرها إلى بيت الفقيه، واستمر في مُقاومة القوات الإمامية حتى سقوط تلك المدينة، وكان - كما سيأتي - من جُملة الأسرى الذين تم اقتيادهم إلى سجون حجة. أتم السيف أحمد بعد ذلك استعداداته، وفرق جُموعه الكبيرة إلى ثماني فرق، وبدأ في صبيحة اليوم التالي هجومه الكبير 25 أبريل 1929م، وذلك بعد أنْ وزع تلك الجموع على أسس قبلي محض، فقبيلة الحيمة مثلًا وجهها تحت قيادة أحمد بن علي الصعدي إلى قرية القائم، وقبيلة الوعظات التهامية وجهها تحت قيادة أحمد تركي هيج إلى قرية الفقيهية العليا، وعززها بقبيلة الشغادرة تحت قيادة حسين بن أحمد الحوثي، وكانت هذه الفرقة مسنودة بمجاميع من الجيش النظامي، وأحد المدافع. أما قبيلتي المعازبة، وبني محمد - لم يذكر المُؤرخ الإرياني اسم قائدها - فقد وجههما إلى قرية الحمراء، ولأنهما حديثتا العهد بالطاعة، وخوفًا من أنْ تنظما للطرف المقاوم؛ أتبعهما بفرقة من الجيش النظامي. عامل ريمة عبدالله الديلمي هو الآخر وجهه بالقوات التي قدمت معه إلى منطقة دير أمسعد، ودير السيد عبدالله مشهور، وعززه بطابور من الجيش النظامي. ووجه - أي السيف أحمد - قوات أخرى أرسلها الأمير علي الوزير من تعز، قوامها 1,000 مقاتل، إلى دير القاصر، وأتبعها بفرقة ثامنة من الجيش النظامي، قادها بنفسه، وتجاوز بعد معركة شرسة تلك المنطقة إلى قرية المراميد، ومن الأخيرة انتقل إلى قرية الفقيهية السفلى، وذلك بالتزامن مع اشتعال المواجهات في المحاور الأخرى. وكان السيف أحمد قد مهد لهجومه الكبير ذاك بالقصف المدفعي الكثيف على مدينة بيت الفقيه، والقرى المُجاورة، واستبقى في الصعيد وضواحيها قوات احتياطية لتأمين ظهره، ولمنع أبناء تلك القرية من الخروج منها، ونقل أخبار تحركاته للطرف الآخر، ولذات الغرض - أيضًا - مَنَع قواته أثناء الهجوم من إثارة أي جلبة. بعد ست ساعات من المُواجهات غير المُتكافئة، تمكنت القوات الإمامية من السيطرة على 23 قرية، وفشلت في السيطرة على قرية الحمراء، وأرجع المُؤرخ الإرياني سبب ذلك لخور أصاب قبيلتي المعازبة، وبني محمد! وأضاف مُتباهيًا: «وانهزمت جموع البغاة، بعد أنْ حل بهم القتل الذريع، وحزت رؤوس من رؤسائهم، كمشاهيرهم، وقدمت إلى مولانا، وأرسل من تلك اثني عشر رأسًا إلى الحديدة.. وانكشف أنَّ عدد القتلى والجرحى بالجهات الثلاث من الزرانيق مائة وعشرون نفرًا، ومن المجاهدين الذين حازوا الشهادة العظمى نحو خمسة وستين». وفي عصر اليوم الخامس لوصوله قرية الصعيد، قاد السيف أحمد هجومًا كاسحًا على قرية الحمراء، ومن أكثر من اتجاه، وسيطر بعد ساعة من المواجهات الشرسة مُؤقتًا عليها، وأكمل المُؤرخ الإرياني ذلك المشهد بقوله: «وكان استيلاء الجيش على الحمراء، وإحراقها، ولم يبق منها إلا يسيرًا، وغنم الجيش غنائم واسعة من الحبوب، والجلجلان، والقاز، والسليط، وأثاثات البيوت المتنوعة». بعد أنْ أدرك استحالة تحقيق نصر نهائي من هذه الجهة؛ توجه السيف أحمد في اليوم التالي إلى قرية المحوى (القاهرة) من بلد الوعارية العليا 29 أبريل 1929م، والواقعة شمال مدينة بيت الفقيه، واصطحب معه قوات نظامية، وقبلية، والمدفع السريع، ومعدات حربية لازمة، ولا غرض له إلا السيطرة على جبل قحمة المُطل على قبيلة المجاملة، والانتقام - بحسب توجيهات والده - من تلك القبيلة لما فعلته بحملتي قيس، والسياني السابق ذكرهما، وإحكام حلقات الحصار على عاصمة الزرانيق، تمهيدًا للسيطرة عليها بصورة نهائية. وقبيلة المجاملة المذكورة هي أحد فروع الزرانيق، ويتميز أبنائها - كما أفاد المُؤرخ مقشر - بالشدة والصلابة في القتال، وسبق أنْ تحدثنا عن جانب من بطولاتها في السطور السابقة، وعنها قال المُؤرخ الإرياني: «والمجاملة قبيلة جريئة، أهلها بغاية من التوحش والصلابة الأعرابية، وعدم الاتباع للحق، وطالما أرشدهم وأبلغهم الحجة مولانا سيف الإسلام إلى الدخول بالطاعة أول إبلاغ، وهو إذ ذاك في مركز الدريهمي، فلم يذعنوا». كان الشيخ علي عمر المقداد ومعه 700 مُقاتل مُرابطين مُنذ بداية المواجهات في قرية المحوى، وما أنْ أتم استقباله للسيف أحمد، حتى كلفه الأخير - كما أفاد المُؤرخ الإرياني - بالهجوم على قرية طمطام جنوب جبل قحمة، وكلف قوات قبلية أخرى من الواعظات، والشاهل بالهجوم على شمال ذات الجبل، وكلف مُقاتلي قبيلة الشرف بالهجوم من جهة ثالثة، وتولى هو ومجاميع من الجيش النظامي الهجوم من جهة رابعة، وتمكن بذلك من السيطرة على الجبل المذكور، وهو الجبل الذي استعصى على المقداد وغيره طيلة الفترة السابقة. ما كان للسيف أحمد أنْ يُحكم سيطرته على جبل قحمه لولا قيامه بالهجوم السريع والمُباغت، ليمُارس بعد انتصاره في محيط ذات الجبل جرائم حرب شنيعة، حيث قام - كما أفاد أحد شهود العيان - بإحراق قرى الغاوي، وطمطام، والموسية، ودير الزليل، والعيسية، وقزعة أمجارية، وأنه - أي السيف أحمد هجم في اليوم التالي على قبيلة المجاملة، وأضاف ذات الراوي: «وامتد الجيش لكثرته إلى خبت القوابع بالحريق، والنهب، والطرد للقبائل حتى القوقر». من جهته قال المُؤرخ الإرياني أنَّ الهجوم على قبيلة المجاملة كان على مرحلتين، وخلال يومين متتاليين، وأنَّ السيف أحمد مهد لذلك الهجوم بالقصف المدفعي الكثيف من جبل قحمة، وعن خلاصة المرحلة الأولى قال ذات المُؤرخ: «ودب بعض الجيش بلاد المجاملة، فدخل كل الديور، بعد أنْ جرت وقعة بلغ القتلى والجرحى من البغاة إلى عدد كثير، وأما المجاهدون فلم يكن منهم إلا أربعة مجاريح، وفر البغاة بأهليهم وأولادهم ومواشيهم لا غير، ووجد الجيش بديور البغاة من الحبوب، والعلف، وأثاث البيوت، كالملبوسات ونحوها شيء واسع جدًا». المرحلة الثانية قادها السيف أحمد بنفسه، حيث توجه وبرفقته 600 مُقاتل إلى منطقة قوبة الصدفة، وتمكن بعد معركة محدودة من السيطرة عليها، وأمر بعد نهبها بإحراق قراها، ومنازلها، وعن هذه الجريمة الشنيعة قال المُؤرخ الإرياني مُبررًا: «وأحرق مولانا كل محل دير استولى عليه، لسياسة حميدة رآها نظره، ودبرها فكره، إلا ما كان معمورًا من الآجر، كقوبة الصدفة نفسها، فإنه استحسن إبقاءها، ورتب بها الشيخ علي المقداد، وجيشًا بمعيته، ثم عاد مولانا إلى جبل قحمة». وفي صباح يوم الجمعة 2 مايو 1929م، أرسل السيف أحمد عدد من المُقاتلين للسيطرة على دير عبار، وفي اليوم التالي أرسل قوات أكثر للسيطرة على مساكن قبائل بني الويط، وبني الشجاب، وعاثت القوات الإمامية - كعادتها - في تلك المناطق وغيرها نهبًا وخرابًا. جعل السيف أحمد من جبل قحمة مقرًا مُؤقتًا له، واستحدث فيه تحصينات عديدة، وإليه وصلت تعزيزات قوامها 100 مُقاتل تحت قيادة عبدالله يحيى أبو منصر، ومن ذات الجبل، وبعد يومين من السيطرة عليه، أرسل - كما أفاد المُؤرخ شبيلي - بمكتوب للشيخ يحيى منصر معروف، وغيره من مشايخ زرانيق الشام، طمنهم فيه، وقال أنَّه لا يريد حربهم، وحثهم على الاستسلام، والدخول في طاعة والده الأمام. وفي فجر يوم الثلاثاء 6 مايو 1929م، تحرك السيف أحمد يجيشه الجرار جنوبًا، قاصدًا قرية القوقر، مفتاح مدينة بيت الفقيه، بعد أنْ ظن أنَّ مكتوبه (الخدعة) سينطلي على الثوار، وأنَّهم سيركنون إلى الدعة والاستقرار، مقسمًا قواته إلى ثلاث فرق، فرقة قوامها 900 مقاتل تحت قيادة علي المقداد، وفرقة جمعت مُقاتلي قبيلتي الوعظات، والشاهل، وفرقه تولى هو قيادتها، والتقوا جميعًا في قرية القوقر، وهناك حصل ما لم يكن في الحسبان. من جهته قال المُؤرخ محمد شبيلي أنَّ السيف أحمد هجم على القوقر بـ 5,000 مُقاتل، وأنَّه استبق دخول تلك القرية بالسيطرة على قرى الباردة، والحيدرية، والقزعة، وأضاف ذات المُؤرخ: «وما كاد - أي السيف أحمد - يصل إلى القوقر، ويحرق مساكنه، والمساكن التي حوله، كالحيدرية، والقزعة، حتى هاجمه الزرانيق ببسالة مُنقطعة النظير». وتفرَّد شبيلي برواية مُتصله، مفادها أنَّ القائد أحمد السياني هجم في ذات الوقت من جهة الغرب، عن طريق العباسي، وأنَّ المُقاومين كانوا لهذا الأخير ومن معه بالمرصاد. وما أجمع عليه غالبية المُؤرخين أنَّ ذلك اليوم لم يكن يومًا عاديًا في تاريخ قبيلة الزرانيق، وتاريخ رجالها الأشاوس؛ بل كان يومًا مشهودًا، حدثت فيه معركة كبرى، شهدت قرية القوقر فصولها الدامية، أُجبرت فيها، وقبل أنْ ينتصف ذلك اليوم قوات السيف أحمد على الفرار، بعد أن تركوا قائدهم وحيدًا، مُخلفين ورائهم عشرات القتلى، بينهم قادة كبار، منهم يحيى بن محمد أبو نيب، وعبد الرحمن بن محمد المتوكل، وغيرهم. وعن تلك المعركة قال المُؤرخ الإرياني: «أقبلت جموع الزرانيق من كل جهة تتنمر، وأقدموا إلى القتال فما منهم من تأخر، فجرت معركة عظمى، شرب الرمل من دم القتلى، وأجلى البغاة المجاهدين من القوقر، وتبعوهم تبعة رجل واحد، وأحس مولانا بفرار الجيش، وهجوم البغاة، وكان هو وجيش قليل ومدفع من المدافع النارية، وقوة قريب جدًا من البغاة، وأسرع إلى تأمين روع الجيش، وأمر بعض الخيالة برد من جدّ في الفرار، فلم يجدي ذلك؛ بل فروا حين رأوا ما لا قبل لهم به». من جهته أرجع المُؤرخ مقشر سبب شهرة تلك المعركة على سواها لأسباب كثيرة؛ أهمها استخدام المقاومين لتكتيكات حربية جديدة، كتقييد بعضهم لأرجلهم بسلاسل حديدية، والقتال حتى الموت، واختيارهم لـ 100 مُقاوم كمشاريع هجومية فدائية، التقى بعضهم - سنتحدث عنهم - بالسيف أحمد وجهًا لوجه، وكادوا يفتكوا به، وقد نجا منهم الأخير بأعجوبة. وفي الحوار الصحفي الذي سبق أنْ أشرنا إليه، قال الإمام أحمد عن تلك المعركة الشرسة: «والتقينا معهم وجهًا لوجه، ودارت أعنف المعارك، حتى كادوا أنْ يستولوا على المدفع السريع، ولكننا صديناهم، واسترجعناه من بين أيديهم بالسلاح الأبيض، وهذا كله صورته في إحدى قصائدي»، ومن قصيدته الطويلة نقتطف: فجالـدت أعــــداء الإلــــه بجمعــهم وكـــانـوا أحــاطوا كالسـوار بمعصم ودافعــت عــن ذاك السـريع فـحـزته وقــــــد كـــــان للأعـداء أكبـر مغنم وفي القوقر المعروف قد كان كل ذا ألا فــاسـألـوا عنـــي أهــــل المخيمِ وتأكيدًا لذلك، قال المُؤرخ الإرياني: «لما عرف بعض رؤساء البغاة أنَّ المُكافح لهم هو مولانا، كادوا يلقون بأنفسهم عليه، فمنهم من يقابله بالرمي، ومنهم من يسير إليه بأنْ يدني منه، ومنهم من سعى إلى مولانا سعيًا بلا اكتراث، وهو الشيخ عمر أحمد من مشايخ قبيلة الجحبى المنضمين إلى الزرانيق، لم يبق بينه وبين مولانا إلا قدر خطوات يسيرة، وكانت له إرادة خبيثة، فما نال إلا ما يستحق، وما ظفر بما لم يطق». غير عمر أحمد، كان هناك محمد يحيى بن دحيا، وأحمد شلاع جروب، قاما بذات الموقف، الأخير كان أكثرهم إقدامًا وشجاعة، توجه كالإعصار صوب السيف أحمد، قاصدًا قتله بسلاحه الأبيض، وهو يصرخ: «أحمد لاقي أحمد»، إلا أنَّ حُراس السيف أحاطوا به، وأسروه، ووضعوه على فوهة المدفع السريع، لم يخف لحظتها؛ بل ركل ذلك المدفع بقدمه، وقال مخاطبًا سيدهم: «مدفع.. مدفع الراحتين ودينا». ونقل عن أحد أبطال الزرانيق قوله: «إذا كان الله ملك أحمد أرضنا، فلن نملكه أرواحنا وفينا عرق ينبض». وإكمالًا للمشهد أترككم مع ما قاله المُؤرخ البحر الذي استرسل في نقل تفاصيل تلك المعركة، حيث قال: «صاح السيف أحمد على جيشه يعيرهم بأنَّ الزرنيق إذا أخذت مدفع الإمام، يكون عار على جميع المشرق، فرجع الجيش بحماسة إلى المدفع.. وعند ذلك أخذوا الجيش قامة المدفع، ورموا بالمدفع في بئر هنالك». وعن ما أسفرت إليه معركة القوقر، قال المُؤرخ شبيلي مُبالغًا: «وقد قتل وجرح ما يوازي أربعة ألف مُقاتل من الفريقين، منهم من خيرة شباب الزرانيق مائة شاب، وأخذت رؤوسهم، ولكن الزرانيق استنقذوها من الجيش، وقتلوا كل من كان يحمل رأسًا، حتى أنَّ أحدهم لحق أحد الجنود على زبير المعولية من بلاد المجاملة، فدعاه لترك الرأس والذي كان يحمله بأذنه، إلا أن الجندي أطلق الرصاص على الزرنوقي، إلا أن الزرنوقي قتل الجندي، وعاد بالرأس إلى الزرانيق». أجلت معركة القوقر سقوط مدينة بيت الفقيه لأكثر من أربعة أشهر، انسحب على إثرها السيف أحمد إلى جبل قحمة، آخذًا رهائن من أفراد جيشه الذين خذلوه في تلك المعركة، في سابقة غريبة لم يقم بها أحد من قبل، وعنها قال المُؤرخ الإرياني مُبررًا: «وطلب - أي السيف أحمد - رهائن من عموم الجيش، حين رأى عدم النصح من البعض، وطلب الرهائن لسياسة لا يخفى على الفطن»! وأضاف: «وفي آخر نهار الأربعاء - أي اليوم التالي - قدَّم بعض الجيش إلى مولانا أنَّ القدوم على القوقر فيه صعوبة، ويحتاج إلى زيادة جيش وقوة، ولما طرق سمع مولانا ذلك الخبر، رأى بثاقب نظره السكون في تلك الحالة». وما لم يعترف به المُؤرخ الإرياني أنَّ الخور بعد تلك الهزيمة الماحقة أصاب القوات الإمامية، وأنَّ الخلاف دبَّ في أوصالها، وبدأت المجاميع القبلية المُعتنقه للمذهب الشافعي تعلن تَذمرها، وكانت - كما أفاد المُؤرخ مقشر - قبيلة الواعظات، وهي طبعًا القبيلة التهامية الوحيدة التي شاركت في تلك الحرب، كانت أولى القبائل تذمرًا، وتمردًا، انتفضوا على قائدهم الشيخ أحمد تركي هيج، وكادوا أنْ يقتلونه، لولا أنْ نجا منهم بالفرار، ولم يستكينوا إلا بعد أنْ تم تهديدهم بقتل رهائنهم. تلا ذلك انتفاضة قبائل الحجرية، وإب، وريمة، صحيح أنَّ المُؤرخ مقشر لم يتوسع في نقل تفاصيلها، إلا أنَّه تحدث عن أبرز تداعياتها وتداعيات الانتفاضة التي سبقتها، والمُتمثلة بالتشكيك بقدرات السيف أحمد القيادية، وهي التداعيات التي دفعت والد الأخير (الإمام يحي) بأنْ يُرسل له برسالة زاجرة، عاتبه فيها على تأخره في حسم المعركة، وهدده - كما أفاد المُؤرخ إسماعيل الأكوع - بأخذ قيادة الجيش منه، وتسليمها لعبدالله الوزير؛ استشاط حينها السيف غضبًا، ورد على أبيه بأنَّه إذا أرسل ابن الوزير فإنَّه قاتله.
.. يتبع