خَمسة محاور
ما أن يُخضعـوا قبيلة إلا ويَـرمون بها أُخرى، ديدن الأئمة السُلاليون على مَدى تاريخهم، وحين استعصت عليهم حاشد، أوقعوا الفتنة بين قبائلها، ثم انقضوا عليها، سَلبَوا، ودَمرَوا، وقـَتَلوا، وهَجرْوا. وألزموا مواطنيها - حد توصيف المُؤرخ الجرافي - بأحكام الشريعة، وتوريث النساء. مات بعض مشايخها بعد ذلك في سجن غمدان؛ فاضطر الإمام يحيى أنْ يُفرج على من تبقى منهم، مُكتفيًا بأخـذ أبنائهم كرهائن. قاد السيف أحمد يحيى حميد الدين وبأوامر من والده رعايا حاشد الذين هزمهم ونكل بهم صـوب تهـامـة 20 سبتمبر 1928م، ضمن جيش عرمرم تجاوز عدده الـ 10,000 مُقاتل، كانوا هم عماده، ومن مناخة بعث مع منصب المنصورية يحيى بن أحمد بحر بِرسالة تحذيرية لمشايخ قبيلة الزرانيق، جاء فيها: «ونحذركم الخلاف، والتنكب، والاعتساف، وسفك الدماء، وإثارة الدهماء، فإنْ سلكتم طريق الصواب، عاد جوابكم بالوصول، وإنْ اخترتم اتباع الشيطان، وإغضاب الرحمن، فهذا بلاغ ولم ينس السيف أحمد أنْ يتحدث في رسالته تلك عن نظرية المُؤامرة، وعن مَطامع الأمم الكُفرية بالبلدان الإسلامية، وخاطب مشايخ الزرانيق قائلًا: «وقد علمتم تكالب الأعداء على هذه القطعة، وإعمالهم كل وسيلة، وسعيهم التام في تفريق الكلمة، وتملك البلاد، وليس طلبهم هذا محبة للعباد، ولا لإحياء البلاد، لا والله، إنَّما قصدهم إنْ ظفروا استرقاق عبيد الله المسلمين، وأخذ أسلحتهم، وطمس دينهم، وتملك أوطانهم، كما قد كان منهم في كثير من الأمصار، كالسند، والهند، ومصر، والعراق، وغيرها». مَكث السيف أحمد في مناخة أسبوعًا كاملًا، ومنها توجه وبعد أنْ أتم استعداداته إلى عُبال، وهناك استقبله شقيقه السيف محمد، ومضيا سويًا إلى مدينة باجل، وكان قد سبقه إلى الأخيرة يحيى بن أحمد الكبسي بقواتٍ حاشدية أيضًا، وفي الوقت الذي عاد فيه أمير الحديدة إلى مقر عمله، تحرك السيف أحمد بالقوات مُجتمعة إلى المراوعة عن طريق القطيع، وكان أفراد تلك القوات ومن أتى بعدهم يرددون زوامل حرب تهديدية، نقتطف منها: يـــا عباد الله قــــومـــــوا للجــــهـــــــاد واضربوا من كـــــان مُفسد في البــــلاد وانـصـــروا ابــــن الإمـــــــــــــــــــــام ومنها: جـــــاك سيل الله يـــا صاحب تهامة مقـــدم السيــف المُظلل بالغـــمــامة نضـــرب الزرنوق في داخل خيامه راعــد القبــلة ورَدْ شــرفا وجـرمل في حوار صحفي أجري معه، ونُشر قبل وفاته، قال الإمام أحمد كلامًا كثيرًا عن الزرانيق، الاسم الكابوس الذي ظل يورقه طول حياته، واصفًا إياها بـ (القبيلة العاتية)، وأبطالها بـ (الخناذيذ)، وهم حسب حديثه خرجوا عن طاعة أبيه، وقطعوا الطرق، وانتهكوا الحقوق، وأخذوا الإتاوات، وأغاروا على مدن تهامة، ومراكزها، لا يخافون سلطان، ولا يردعهم رادع. وأضاف: «عاثوا، أفسدوا، وكثر تعديهم على المراكز الإمامية، واستشرت أطماعهم، واشتطت مطالبهم، واعتقدوا أنَّ أي قوة لن تقوى عليهم، لذلك كان من الأنجح الفتك بهم، والقضاء على شرهم، قضاءً حاسمًا، خصوصًا بعد أنْ استهانوا بالوزير أولًا - يقصد عبدالله الوزير - وبالبدر ثانيًا - يقصد أخاه السيف محمد - أثناء نيابتهما عن الإمام بالحديدة، فعلق الإمام يحيى بقوله: ولا أدري من يرجى لأخذنا للثأر، قلت: أنا لها يا مولاي، أنا الذي بصارمك البتار أكفيك أمرها، وأفتك بها كما فتكت بغيرها». ثم يمضي الإمام أحمد في ذلك الحوار الطويل، مُتحدثًا عن ماضيه بزهو، وعن خططه العسكرية، شارحًا تفاصيل المُواجهات الأولى، وغيرها، وهو رغم اعتزازه بنفسه، أشاد ببطولة الزرانيق، وشراسة مُقاتليهم. بدأ الهجوم الإمامي الشامل من أكثر اتجاه، وفي وقت واحد 9 أكتوبر 1928م، قوات تسللت من المراوعة صوب الدريهمي، وقوات تسللت من السُخنة صوب المنصورية، وقوات تسللت من وصاب صوب القصرة، وقوات تسللت من ريمة صوب الصعيد، وقوات تسللت من زبيد صوب الحسينية.
وما يجدر ذكره أنَّه سبق للقوات الإمامية أنْ سيطرت خلال الجولة الأولى على مناطق الدريهمي، والمنصورية، والصعيد، والحسينية، إلا أنَّ ثوار الزرانيق تمكنوا - كما تشير أغلب المصادر - من استعادتها مُؤقتًا، وذلك قبل مقدم السيف أحمد بعدة أيام. كانت قوات المحور الشمالي الغربي التي يتواجد في صفوفها القائد العام السيف أحمد الأكثر عددًا وعدة، وقد حققت بادئ الأمر انتصارات خاطفة، وتمكنت بعد مرور ثلاثة أيام، وبعد مُواجهات شرسة شهدتها منطقتي الجحبى العليا، والجحبى السفلى من الوصول إلى ميناء الطائف، وسيطرت بعد معركة كبيرة قادها من الجانب المهاجم القائد عبدالله بن محمد الضمين، ومن الجانب المقاوم الشيخ أحمد فتيني جنيد على ذلك الميناء الهام. وفي مـوضوع مُتصل، روي أنَّ الشـيخ أحــد فتيني جنيد كان يـمضغ الـقات قبـل إحدى المعارك - لم يحدد الراوي تـاريخها - وبدلًا من أنْ يتحرك للمُواجهة، طلب من المُرافق التابع له أنْ يُعمر نارجيلة التنمباك المنصوبة، بدلًا عن المدفع المنصوب، قائلًا: «عمر، وطنبش». سقط في تلك المعركة قتلى كُثر من الجانبين، حددهم أحد شهود العيان التهاميين بأكثر من 1,000 قتيل إمامي، وأكثر من 400 قتيل زرنوقي، وعنها قال المُؤرخ الإرياني: «ثم زحف الجيش إلى وادي الطائف المحتوي على ما لا يُحصى من النخيل، وما كان إلا بضع ساعة فاحتلت الجيوش مركز بالطائف، وقبضت القوة الفتينية، وغنمت الغنائم الواسعة.. وصار يوم انحلال مركز الطائف وما إليه من الديور يوم سُعد وفتح شهير، وظهر الفرح بقلب الصغير والكبير، والمأمور والأمير، وأوقدت بجميع المراكز المُتوكلية النيران، وابتسم جذلًا فم الإيمان»! من جانبه تحدث المُؤرخ التهامي عبدالودود مقشر عن حدوث خيانة في صفوف المقاومين، لافتًا أنَّ الأخيرين انسحبوا جراء ذلك تكتيكيًا إلى جُزر المجاملة، وزقر، وحنيش، وأنَّهم جعلوا تلك الجزر قاعدة للتمويل المُستمر، والهجمات الخاطفة. في حين انسحب آخرون إلى مدينة بيت الفقيه، وميناء غليفقة، وكان لهؤلاء المُقاتلين وغيرهم في باقي المحاور دور في إطالة أمد المُواجهات، وتحويلها إلى حرب عصابات، كلفت الطرف الإمامي وعلى مدى 11 شهرًا الكثير. وفي المحور الشمالي الشرقي تحرك القائد الإمامي القاضي محمد بن علي العلفي ومعه الشيخ علي عمر المقداد بقوات كثيرة من منطقة السخنة صوب المنصورية، وقد دخل الأخيرة - كما أفاد عبدالوهاب شيبان - دون قتال، وذلك بعد أنْ مهد له منصوبها يحيى بن أحمد البحر ذلك. في حين أكد المُؤرخ شبيلي أنَّ القوات الإمامية دخلت المنصورية بعد قتال عنيف. وتأكيدًا للقول الأخير، وإكمالًا للمشهد، أترككم مع ما قاله المُؤرخ البحر: «تقدم محمد بن علي العلفي بجيشه من قرية المنصورية، وملك قرية بني الويط من الطرف الشامي، ووقع قتلى كثير من الطرفين» وقد تولى العلفي عمالة المنصورية، فيما أسندت قيادة هذا المحور لرفيقه المقداد. وفي المحور الشرقي تحرك عامل ريمة عبدالله بن حسين الديلمي بقوات كثيفة إلى منطقة المعازبة، والأخيرة تُعد أصل قبيلة الزرانيق، ولها حضور كبير في تاريخ اليمن الوسيط، وتمكن القائد الإمامي بعد معركة قصيرة من استعادة السيطرة على قرية الصعيد، وتجاوزها وصولًا إلى مربع وهيب، قرية البطل الثائر وهيب علي محبوب، الذي دخل - كما سيأتي - مذلة الأسر، وكان مصيره الموت اغتيالًا في سجن نافع بحجة. وفي المحور الجنوبي الشرقي تحرك عامل وصاب السافل سعيد أبوبكر معوضة بقوات نظامية إلى منطقتي القصرة، والكنيدة، وكان النصر في هذا المحور حليف ثوار الزرانيق، وذلك بعد قيامهم بحركة التفافية من جهة المراوعة، مُستغلين تضاريس المنطقة ذات الأشجار الكثيفة، وعن هذه المعركة قال المُؤرخ شبيلي: «وتقدم عامل وصاب ابن معوضة بمن معه من الجيش يقصد القصرة من الزرانيق، الطرف اليماني، وتصدى له الزرانيق هناك، وهُزم جيشه، فقتل من الزرانيق ثلاثة أشخاص، وقتل عدد من الجيش..». وفي المحور الجنوبي الغربي تحرك عامل زبيد القاضي محمد بن عبدالله الشامي من منطقة البدوة بقوات كثيفة صوب الحسينية، وقد تمكن بعد معركة غير مُتكافئة من استعادة السيطرة عليها، وهي المعركة التي قتل فيها قائد مقاومة زرانيق اليمن الشيخ عمر معوضة معروف، وأجبرت خلفه الشيخ حسن محمد فاشق على الانسحاب، ولم تكد تلك القوات تستقر في تلك المدينة، حتى باغتها الثوار بهجوم مضاد 14 أكتوبر 1928م، وجرعوا بعض أفرادها كأس المنون. شددت القوات الإمامية خلال هذه الجولة حصارها على قبيلة الزرانيق، ومن ثلاثة اتجاهات، فيما كرس القائد العام لتلك القوات (السيف أحمد) جهوده على إكمال حلقات ذلك الحصار، فالدعم الإنجليزي - كما يعتقد - يصل للثوار من جهة البحر، وهو الأمر الذي حفزه للسيطرة على الشريط الساحلي الذي يربط شمال تلك القبيلة بجنوبها، في خطة مُغايرة لمن سبقه، مبتدئًا - كما سبق أنْ ذكرنا - بالسيطرة على الطائف، وتشييد عدد من التحصينات بالقرب من تلك القرية، واستحداث إضافات في قلعتها الشهيرة. على الرغم من سقوط ميناء الطائف، إلا أنَّ زخم المُقاومة الزرنوقية لم يتوقف، فقد ظل ميناء غليفقة القريب منه يمد المقاومين بالدعم اللازم، استغل السيف أحمد إهمال الزرانيق تحصينه؛ وأرسل إسماعيل المروني بقوات كثيرة للسيطرة عليه، وقد تسنى لتلك القوات ذلك، بعد محاولة فاشلة، وأخرى ناجحة 22 نوفمبر 1928م، وبعد أنْ جعلته ضربات المدفعية قاعًا صفصفا. وهكذا، وبعد 42 يومًا من بدء المُواجهات، تمكنت القوات الإمامية من السيطرة على ميناء غليفقة، وأتبعت ذلك بمصادرة كل القوارب والسفن الشراعية، وإرسالها إلى الحديدة، ومنعت - كما أفاد المُؤرخ مقشر - أبناء تهامة الاقتراب من البحر، ودمرت قراهم الساحلية، وأحرقت الأشجار والنباتات لمنع تواصلهم مع أقرانهم في الجزر، وصادرت أموال ومُمتلكات عدد كبير منهم، كان الشيخ أحمد فتيني أبرزهم. بسقوط ميناء غليفقة فقدت الثورة الزرنوقية إلى حدٍ ما زخمها؛ وهو الأمر الذي أجبر قائدها الشيخ أحمد فتيني جنيد على الالتجاء بالمعسكر الإنجليزي في جزيرة كمران، وطالب الأخيرين بدعم قبيلته في نضالها ضد الإمام يحيى، وأعوانه، وطالب أيضًا بحق تقرير المصير، وناشد عصبة الأمم التدخل لإنهاء ذلك الصراع. وكثرت حينها الإشاعات عن الرجل، وعن هذه الجزئية قال المُؤرخ الإمامي أحمد الوزير: «وكثرت الإشاعات حول تعاون الإنجليز مع الشيخ أحمد الفتيني، حتى قيل: أنَّ بريطانيا طلبت من الشيخ المذكور قاعدة جوية لها». وما يجدر ذكره أنَّ الشيخ أحمد فتيني جنيد سبق أنْ تحالف قبل 16 عامًا مع الإيطاليين يونيو 1912م، وذلك أثناء حربهم مع العثمانيين، ومُحاصرتهم للسواحل اليمنية، وهو التصرف الذي حمى من خلاله ميناء الطائف من ذلك الحصار، وإكمالًا لهذه الجزئية قال جون بولدري: «لكنه - يقصد الشيخ فتيني - ما إنْ انفلت من طائلة الحصار، حتى تلاعب بالإيطاليين لحسابه، فأرسل حمولات من دقيق القمح، والأرز، والسكر إلى تجار الحديدة، وبيت الفقيه، وزبيد الخاضعات لحكم العثمانيين». وأضاف بولدري: «وحالما اكتشف الإيطاليون مخادعة فتيني، أطلقت سفينة حربية مدافعها على خمسة عشر مركبًا شراعيًا محملة في مرفأ الطائف، وأمسكوا بمركبين أو ثلاثة، وأغرقوا مركبين آخرين، بينما لاذت بقيتها بالفرار». وبالعودة إلى موضوعنا، وأمام التصرف الفتيني السابق ذكره؛ فقد صار جميع ثوار الزرانيق - من وجهة نظر الإماميين - بلا استثناء عملاء للإنجليز، وراحت السلطات الإمامية تُشنع عليهم، وتحتقرهم بأقذع الصفات، رغم أنَّهم سبق أنْ ثاروا قبل سبع سنوات ضد الإنجليز، وكانوا سبب خروج الأخيرين من الحديدة 21 مارس 1921م. في كتابه (اليمن الجمهوري)، استبعد عبدالله البردوني تلك التهمة عن أبطال الزرانيق، وأضاف: «فمن الجائز أنْ يكون الفتيني مُتآمرًا، أو مُستعينًا بالإنجليز، لغياب أي نصير». وغير بعيد قال تشرشل: «لا يضرنا الاستعانة ولو بالشيطان»، والغريق في النهاية لا تهمه جنسية من ينقذه. وفي المُقابل قال المُؤرخ التهامي عبد الرحمن طيب بعكر في كتابه (كيف غنت تهامة) أنَّ دعم الإنجليز لقبيلة الزرانيق لا يستنقص من أبطالها، ولا يعني أنَّهم عملاء، مُعتبرًا تمسح الإنجليز بذلك؛ للضغط على الإمام يحيى حينها؛ كي يتخلى عن المحميات التي احتلها في الجنوب.
.. يتبع