ابتكارات إمامية!
لم يحد الأئمة السُلاليون من بيت حميد الدين قيد أنملة عن نهج أسلافهم؛ بل فاقوهم بأساليب وابتكارات أكثر ظلمًا وانحطاطًا، مُبتدأها الخِطاط الإجباري، وخاتمتها التنافيذ التعسفية، وبينهما احتساب، وقبض، وتخمين، وأبطال ذلك الوجع المُتجدد رعية مكلومون، وعساكر مُتوحشون، وعمال جشعون، يوزعون الأوامر لمن يُدر عليهم الأموال الكثيرة، وفوق الجميع إمامٌ ظالم، لا هم له إلا انتظار وصول الغنائم، لا ليوزعها على فقراء دولته؛ بل ليملأ بها المدافن والمخازن!
الخطاط
أول بلية، وأعظم رزية، عرفها اليمنيون، وأصيبوا بها، هكذا عرَّف الأستاذ أحمد محمد نعمان في رسالته الشهيرة (الأنة الأولى) الخِطاط، واصفًا إياه بأنَّه «قتل الحمية، وأمات الغيرة، وداس الفضيلة، وأذل الناس، وبغّض إليهم الحياة، وحبب لهم الموت، واضطرهم للخروج من بلادهم جماعات ووحدانا». وهو - أي الخِطاط - كلمة مجهولة المصدر، ولا يوجد لها أصل في قواميس اللغة العربية، وإنَّما لها وجود في قواميس الأئمة السُلاليين، وعمالهم، ويفهمها الرعية المساكين أكثر من غيرهم، كيف لا؟ ومضمونها الأشمل يتمثل في تدمير بُنيتهم الاقتصادية المُتواضعة، وإذلالهم جسديًا، ونفسيًا، ومعنويًا. والراجح أنَّ كلمة الخِطاط مُشتقة من الفعل (حط)؛ خاصة إذا ما علمنا أنَّ عساكر دولة الإمامة المُتوحشون كانوا يحطون رحالهم في منازل الرعية، ويتصرفون في الأموال والمُمتلكات وكأنَّها ملكهم، وهم في الأصل أرسلهم الإمام الحاكم لإخضاع إحدى القبائل المُتمردة، دون أنْ يمُدهم بالمؤن اللازمة لإنجاح مُهمتهم، والتي غالبًا ما تكون من مهام القبائل المُجاورة، والتي لا ذنب لها إلا أنَّ القدر وضعها في طريقهم. وبالغ عبدالرحمن البيضاني في تعريف الخِطاط، وقال أنَّ الإمام يقوم بتوجيه أوامره لقبيلة ما، ويكلفها بالتوجه بكامل هيئتها وأفرادها إلى قبيلة أخرى مُذنبة، ينامون في بيوت سكانها، ويأكلون طعامهم، ويفرضون عليهم حظر التجوال، لافتًا أنَّ القبيلة المُتضررة لا تستطيع المُقاومة، وإلا أرسل لها الإمام قبيلة ثانية، وثالثة، أو جيشًا من عنده. من جهته عرَّف الباحث عبدالعزيز قائد المسعودي الخِطاط تعريفًا موضوعيًا، وقال بأنَّه يتمثل في ترتيب وتوزيع القوات الإمامية على القرى والمنازل، وبحسب أهمية الأشخاص والعشائر، هذا في حال تم إرسال قوة عسكرية كبيرة، ولكن في حال تم إرسال ثُلة من الجنود نحو العشرة، فكان يُسمى (بقاء)، ويدوم حتى يستجيب الفلاحون لطلبات الإدارة المركزية، وفي الغالب - كما أشار ذات الباحث، وقد تقارب هنا مع ما ذكره البيضاني - كانت السلطات الأمامية تُسلط قبيلة ما على أخرى، لا لتقضي على شوكتها فحسب؛ بل وتُمعن في إذلالها وقهرها حتى تذعن لسلطة الدولة. أما المُؤرخ التهامي عبدالودود مقشر فقد شبه الخِطاط بالعقاب والإفقار الجماعي، وعده أقصى أنواع العقاب الذي ناله الرعية من السلطات الإمامية، والذي أدى حسب شهود عيان التقاهم إلى فظائع ومآسي لم تمُحى من الذاكرة، وقضى في حينه على أي تفكير بالثورة أو المقاومة. وما هو مُتداول ومُؤكد أنَّ عساكر الإمامة عمدوا على إذلال الرعية، واستعبادهم، وإذا حصل أنْ عجز الرعوي وزوجته عن توفير أسباب الراحة لهم، ولم يبالغوا في إكرامهم، والاهتمام بهم، نزلوا - كما أفاد الأستاذ النعمان - بهما ضربًا ورفسًا، وأهانوا كل واحد منهما أمام الآخر؛ بل أمام الله والعالم، وإذا استغاث أحدهما أو بكي، اجتمع عليه بقية العساكر المُخططين في البيوت الأخرى، فينهالون عليه بالضرب، والسب، والشتم، وإذا تدخل أحد الجيران أو الأقارب أصابه ما أصاب ذلك الزوج وزوجته. والأدهى والأمر من ذلك، أنَّ السلطة المُطلقة تكون في يد هؤلاء العساكر المُتوحشين، فهم لا يُسألون ممن هم أعلى منهم رُتبة عما يفعلون، ويجرون - كما أفاد أحمد عبدالرحمن المعلمي - من الأعمال والعجرفة، وسوء السلوك الأخلاقي، ما يقشعر له البدن، وتبكي له السماء، ويغضب له القرآن. وهذا أحد أبناء تهامة تحدث عن تلك الصورة المأساوية في رسالة بعثها لجريدة (الشورى) المصرية، في أواخر عشرينيات القرن الفائت، وقال بعد تعريفه لمُفردة الخطاط، أو (التخطيط) - كما يسميها التهاميون، بأنَّ عساكر الإمامة يسكنون في بيوت الرعية، ويفترشون فراشهم، ويكلفوهم في المأكل ما فوق طاقتهم، وأضاف مُتألـمًا: «ويدخل الواحد منهم بلا استئذان على حرمك، ويفتخر بأنَّهم تنازلوا كرمًا عن مشاركة الرعية في الزوجات.. وكم من مرة أرادوا انتهاك حرمات الناس في هذه الأحوال، فينتقم المرء لعرضه وشرفه، فيكون نصيبه ونصيب القرية السحق والمحق، والعدم من الوجود». الطبيبة الألمانية إيفا هويك أكدت تلك الجزئية المأساوية في مُذكراتها، وقالت في نقلها لأحداث عايشتها في لواء تعز، أنَّ عساكر الإمام أثناء انتظارهم لسداد الضرائب (الجبايات) من المواطنين، يُقيمون في أحسن الغرف التي وضعوا أيديهم عليها، ويأكلون أجود الأطعمة، وأكثرها، ويحاولون الاعتداء على الأعراض، مُستغلين مراكزهم كجنود. وقد عَبر المصلح الاجتماعي الكبير محمد رشيد رضا في رسالة له بعثها لشكيب أرسلان عن امتعاضه الشديد من تلك التصرفات الإمامية المُقززة 8 أبريل 1926م، وهي التصرفات التي جعلته يُعيد النظر حول مُساندته طيلة السنوات السابقة للإمام يحيى حميد الدين؛ بل ويعبر عن ندمه على ذلك، ومن رسالته نقتطف: «وإنْ كانت أخبار ظلم الزيدية للشافعية لا يمكن المراء فيها، وأقبحها أنَّ جيش الإمام يحتل بيوت الأهالي في تهامة، ولا يكتفي بضيافة الأكل والشرب؛ بل...». وسبق للمُؤرخ يحيى بن الحسين أنْ تحدث عن تلك المعاناة، وبمعنى أصح عن معاناة الجغرافيا الخانعة، ونقل في كتابه (بهجة الزمن) مقولة لأحد أبناء إب من بيت الكاظمي ضمن حوادث سنة 1088هـ / 1677م، مضمونها: «وكذلك اليمن الأسفل الذي وقع فيه الحطمة والموت والرّحلة، أنه اجتمع عليهم الجور والفساد لعدم الغيرة منهم، والقدرة على الدفع عن حرمهم وبيوتهم من عساكر الدولة، فإنَّهم - أي العساكر - ينزلون بيوتهم، ويختلطون بحريمهم وأولادهم، ويقع ما يقع من الفساد، وعدم قدرتهم وضعفهم عن الدفع عن أهلهم». يبقى الخِطاط ابتكار شنيع، وسلوك إمامي بامتياز، ولم يسبق للأتراك (العثمانيين) أنْ مارسوه أثناء تواجدهم الأول والثاني في اليمن، فقد أنشأوا ثكنات عسكرية لذات الغرض، لم يستغلها للأسف الشديد عساكر دولة الإمامة الاستغلال الأمثل، وعن ذلك قال الأستاذ أحمد النعمان: «العُمال مدوا هذا الخِطاط تعمدًا، برغم استغنائهم عنه، وعدم الحاجه إليه، فالثكنات من عهد الدولة العثمانية موجودة في عموم المراكز». وأضاف مُشيدًا بالأجنبي، الذي كان أفضل بكثير من الأئمة السلاليين وأنصارهم: «غير أنَّ رجال تلك الدولة الأعجمية الأجنبية لم يتخذوا الجند لمُحاربة الرعية؛ بل للدفاع عنهم، والذود عن كيانهم، فكانوا ينشئون الثكنات في المراكز، ويُعلمون الجند المُحافظة على الكرامة، وعزة النفس، والترفع عن الدناءة، وعدم إظهار الفاقة والحاجة عند الفقراء، والمُعوزين، وكانوا يوسعون عليهم بالإنفاق، ويخصصون لهم خدمًا ينتقلون معهم أينما ساروا، وحيثما أقاموا».
التنافيذ
ويَأتي بعد الخِطاط التنافيذ، وبينهما ارتباط كبير، وكلاهما يُكرسان إذلال وامتهان الإنسان اليمني، ويُعنى بالأخير الأوامر المُطلقة من الإمام إلى جميع العُمال في إنفاذ العساكر على الرعية؛ لأسباب عديدة، قد تكون قضائية مُتصلة بحق المواطنين أنفسهم، أو إدارية مُتصلة بحق الدولة، والأخيرة هي الأغلب، وتتمثل بالجبايات التعسفية التي تختلف أنواعها، وتتعدد مُسمياتها، وكل ضريبة تُفرض على الرعوي يُنَفذ عليه العامل - أو من يقوم مقامه - عسكريًا أو اثنين أو ثلاثة، بحسب قِلة المُراد جبايته أو كثرته. وهناك تنفيذ مُؤقت، حيث يَكتفي العسكري المُنفذ بإحضار المطلوب ضبطه أو إشعاره، والعودة بعد يوم أو يومين إلى عند الجهة المُرسلة، وبعد الحصول على الأجر المعلوم، ولوازم الضيافة. وهناك تنفيذ البقاء، وهو مُرتبط - كما سبق أنْ أشار الباحث المسعودي - بالخِطاط، حيث يبقى العسكري أو العساكر المُنفذين في منزل الرعوي مدة أطول، حتى يستجيب هذا الرعوي أو ذاك لطلبات السلطات. وعن تنفيذ البقاء قال عبدالرحمن البيضاني: «فعندما يتأخر أحد الرعايا من القسم الشافعي عن تسليم الزكاة المفروضة عليه، يُرسل إليه الإمام - يقصد عُمال الإمام - عددًا من هؤلاء الجنود ليحتلوا بيته.. وينهبوا طعامه وشرابه.. ويناموا على فراشه.. حتى ولو كان غائبًا.. ويستمر ذلك إلى ما يشاء الله..». بمُجرد أنْ يستلم العسكري أمر التنفيذ (وهي ورقة يحررها المُوظف المسئول عن إدارة تلك الجهة)، يأمر العامل بقطع راتبه، ونفقته اليومية؛ لأنَّه سيكون ضيفًا على الرعوي المسكين، الذي صار بحلول هذا الضيف الثقيل أضيع من يتيم، وأعجز من أرملة، وقد تحدث الأستاذ أحمد النعمان بإسهاب عن تفاصيل تلك المُعاناة، حيث قال: «يأخذ الجندي الأمر بيده، ويؤم منزل الفلاح المُنفذ عليه، وإذا وصل إليه، فلا تحية، ولا استئذان، ولا استئناس». وأضاف: «لا يكتفي الجندي بكسر الباب؛ بل هناك سب وشتم بصوتٍ عالٍ غليظ من حين يدخل باب المنزل، وتلك هي تحيته لأخيه المسلم.. وتراه يطوف غُرف المنزل إنْ كان فيه عدة غرف ليختار ما يوافقه، ولا يمر على شيء أمام عينه فيعجبه إلا اختطفه.. وإذا جاء وقت النوم لا يرضى إلا بالغرفة الخاصة بالفلاح وأهله وأولاده، فيتنازلون عنها، ويقصدون إصطبل البهائم بين أرواثها وأبوالها، إذ لا يمكن خروجهم من المنزل إلى بيوت الجيران، فقد يحتاج حضرة الجندي شيئًا في أثناء الليل..».
أجرة مُتفاوتة
وغير تلك الضيافة المُنهكة، هناك مال واجبٌ دفعه كأجرة لهذا الضيف الثقيل، تُقدر بطول وقُصر المسافة التي قطعها، وهذه يطلق عليها (ضريبة مسافة)، ثم تأتي بعد ذلك (أجرة الممسا)، والأخيرة ضريبة ليلية يدفعها الرعوي للعسكري مدة إقامته عنده، وتتفاوت هذه الأجرة من شخص لآخر، فإن كان المُنفذ عسكريًا فله قدر معلوم، وترتفع إنْ كان عريفًا أو نقيبًا، وتتضاعف إنْ كان قاضيًا أو سيدًا علويًا! وتقدير هذه الأجرة يرجع في الأول والأخير للشخص المُنفذ، إنْ شاء عدل، وإنْ شاء جار، ولا يستطيع الرعوي - كما أفاد الأستاذ النعمان - أنْ يُبدي رأيًا أبدًا؛ بل لو ظهر منه أقل خلاف بادره العسكري بالصفع على قفاه، وَكَتَّفه، وساقه أمامه - إلى مركز الناحية - كالماشية. ومن أعظم المصائب أنَّه قد يجتمع على هذا الرعوي عدة تنافيذ، فالعامل له حق التنفيذ، والحاكم مثله، والموظف في المالية، ومأمور البقية، والمشايخ، والعرايف، وهكذا دوليك، وما على الرعوي المسكين إلا أنْ يستقبل ويدفع! وسبق للشيخ حسين بن عبدالله الوصابي أنْ عرج في قصيدة ناقدة لحكم الإمام يحيى على سلوكيات هؤلاء العساكر المُنفذين، وغيرهم، حيث قال: سلبٌ وهتك ثم أخــذ جبـــايــة مـا أنزل الله بهــــا مــن حــاكم والكسر للأبواب ثـم دخــولهـم فوق الحريم فلا ترى من حاشم منها البـقا للطـائــفيـن وحزبهم والأمـر والمـمـسى بــأمر جازم وللتنافيذ عدة أنواع، نذكر منها:
- الاحتساب: وهي أنْ يُشجع العامل بعض أشرار الرعية للاحتساب على الشيخ الفلاني؛ بدعوى أنَّه لم يُسلم حقوق بيت المال للسنة الفلانية، فيتم بموجب ذلك تنفيذ العساكر على القرية أو العزلة، ويعم الضرر المنطقة برمتها لا الشيخ المعني.
- القبض: وهو أنْ يختار العامل مجموعة من المُوظفين الحكوميين، ثم يقوم بإرسالهم وبصحبتهم مجموعة من العساكر إلى القرى الواقعة على ضفاف الأودية والغيول، والتي تشتهر أراضيها بالزراعة على مدار العام، وتتركز مهمتهم في تقدير مداخيل الفلاحين من تلك الأراضي، وقبض ضرائبها؛ ولهذا سموا بـ (القباضين)، وهناك من يسميهم بـ (المُقصبين)؛ نسبة إلى (قصبة)، وتعني قطعة أرض صغيرة لا تتعدى مساحتها عدة أمتار مُربعة.
- التخمين: والمقصود به تخمين غلة السنة وتقديرها قبل موعد القطاف! ويطلق على من يتولوا هذه المهمة تسمية (مخمنين)، وهم طائفة من القضاة والفقهاء، مشهورين بعمائمهم البيضاء، والأكمام الواسعة، والمسابح الطويلة، يدعون الأمانة، وأنَّهم أحق بالخرص من غيرهم، يخرجون كل سنة إلى أرض الرعية، وبصحبتهم عشرات العساكر، ولا هدف لهم إلا نهب الأموال، والتَنعم بمُقتضيات الضيافة عند هذا الرعوي أو ذاك.
وإذا طغى أحد هؤلاء المُخمنين في تقدير المبالغ المطلوبة، عززه العامل بـمُخمن آخر، ومعه عدد من العساكر، ويسمى هذا بـ (الكاشف)، فإنْ قرر الأخير ما قرره الأول، عُزز بـ (كاشف الكاشف)، وعلى الرعية في جميع الحالات توفير الإعاشة لهم، ودفع أجرتهم. وفي المُحصلة المأساوية، فإنَّ القصد من إرسال الكاشف، وكاشف الكاشف فتح سبب للإعاشة ينتفع به هؤلاء لا أكثر، وعن طبيعة عمل هؤلاء قال الأستاذ النعمان: «فإنَّه - أي الكاشف - يتبع سنن من قبله شبرًا بشبر، ويمثل الدور الذي مثله سلفه سواءٌ بسواء: ضيافة ثقيلة، ورشوة مُضاعفة، وقد يضع تقديرًا لغلات الأرض أعظم من تقدير المُخمن، لينال حظوةً عند الموظف الذي قلده هذا المنصب العظيم». وفي ذات السياق، هناك رجال الدين (المرشدون)، وعمل هؤلاء كان إلى عمل المُتنفذين أقرب، فهم يأخذون من المواطنين أموال نظير قيامهم بالإرشاد الديني، وتعليم الناس أمور دينهم، وكانوا يتقاضون بمساعدة شيخ المنطقة من اثنين إلى خمسة ريالات على كل مواطن. وفي ناحية القبيطة - كما أفاد سلطان أحمد عمر - ظل المواطنون قبل قيام الثورة السبتمبرية يدفعون فرقًا سنويًا استمر لمدة عشر سنوات، سمي بـ (فرق الغزالي)، والأخير المُرشد الديني الذي كان يمر عليهم كل عام.
تنافيذ مُتصلة
وفي موضوع شبه مُتصل، كان العساكر المُنفذون هم الوسيط بين العمال والرعايا، ومن هذا المُنطلق لم تكن أوامر التنافيذ مقصورة على الجبايات فقط؛ بل اندرجت تحتها عناوين أخرى لمهام مُختلفة، فهناك تنافيذ على الأوقاف، والأخيرة يُقصد بها الأراضي والعقارات الموقوفة على المُنشآت العامة، مثل المساجد، والمدارس، والآبار، والمناهل، والمباني التي على الطرقات العامة، وتعتبر تلك العقارات - كما أفاد العلامة الشوكاني - من ضمن أملاك الدولة، ولا يجوز التصرف فيها كالبيع ونحوه، وإنما تستعمل غلاتها وريعها لصالح المنشآت المذكورة، وكم سلبت أراضي مواطنين بحجة أنَّها موقوفة. وهناك تنافيذ على المواطنين، وجلبهم بالإكراه كسخرة، وكم من طُرق عامة عُبدت، ومَرافق حكومية شيدت، ومنازل مسؤولين بُنيت، وأراضي خاصة زُرعت، بجهود وسواعد هؤلاء، وعن هذه الجزئية قال عبدالرحمن البيضاني: «وإلى جانب الضرائب ابتكر الإمام وسيلة السخرة لقضاء حاجته.. فإذا أراد إقامة بيت أو طريق أو أية مُنشأة، فإنَّه يستطيع أنْ يأمر جنوده كي يجمعوا الأهالي المجاورين لهذا العمل، ليقوموا به مجانًا دون أي أجر.. سوى السياط التي تُلهب ظهورهم..». كان هؤلاء الرعية المساكين المغلوبين على أمرهم يُعبرون عن امتعاضهم الشديد من ذلك الوضع البائس، وذلك بترديد مهاجل ناقدة، منها: الله لا كـــــــانـــــه رعـــوية مــــــا دام والـــدولة زيدية ولا يقصد المخيال الشعبي هنا بالزيدية - كما أفاد قادري أحمد حيدر - كراهية مذهبية أو طائفية، إنما هي إشارة إلى عمق الاستبداد السياسي والاجتماعي الإمامي الذي تجرعه اليمنيون، واكتووا بناره لسنوات طويلة.
خاص بصحيفة (26 سبتمبر)