بعد ست جلسات من المُحادثات المُملة والمُكررة، تم الإعلان عن فشل مُؤتمر أبها 22 مارس 1934م، وأمر الملك عبدالعزيز وفده بالرجوع، وأمر في المُقابل بعدم السماح للوفد الإمامي بمُغادرة ذات المدينة، وقال في إحدى ردوده على برقيات الإمام يحيى أنَّه - أي ذات الإمام - لا يُحسن غير المَكر والغدر، مُعطيًا إياه مُهلة لقبول شروطه، حددها حتى الخامس من أبريل، وكلف ولي عهده الأمير سعود بالهجوم في ذلك اليوم، في حال لم تصدر تعليمات أخرى. بالتزامن مع الهجوم السعودي الأول، أصدرت المُفوضية السعودية في لندن بيانًا رسميًا مُقتضبًا 5 أبريل، جاء فيه: «أنَّ الملك عبدالعزيز بن سعود بعد أنْ يئس من الوصول إلى اتفاق مُرضِ مع الإمام يحيى، واستفذت حُكومته جميع الوسائل السلمية بالطرق السياسية مع سيادة الإمام يحيى، ولكن سيادته بقى مُصرًا على موقفه؛ لذلك فقد أصدر أمره إلى ولي عهده سعود بأنْ يزحف بجنوده لـمُهاجمة القوات الإمامية، لاسترجاع البلاد التي احتلها الإمام يحيى». زحفت القوات السعودية من ثلاثة مَحاور، قوات تَحركت من شمال نَجران تحت قيادة الأمير خالد بن محمد، وقوات تَحركت من خميس مُشيط تحت قيادة الأمير فيصل بن سعد، فيما تولى ولي العهد سعود القيادة العامة لهذين المحورين. وفي الجانب التهامي تَحركت قوات من صامطة تحت قيادة أمير عسير تهامة حمد الشويعر. وفي الوقت الذي أرسل فيه أمير الحجاز فيصل بن عبدالعزيز بتعزيزات عَسكرية لهذا المحور، تَحرك أخوه الأمير محمد بقوة احتياطية من نجد لمُساندة المحورين الآخرين. وقد كانت تلك القوات مُجتمعة مُزودة بسيارات حمل، ودبابات، ومُصفحات، ومَدافع جبلية، وبطاريات، ومَدافع رشاشة، وأجهزة ميدان لا سلكية، وغير ذلك من الأسلحة المُتطورة التي لا يملك الطرف الإمامي حتى النزر اليسير منها، وقد رافق تحركها الإعلان عن فتح الجهاد، وذلك بعد أنْ وافق الملك عبدالعزيز على التماس رعاياه حول هذا الجانب، ووجه نداء إلى الشباب لدعم الجبهات، وإنشاء هيئة لإسعاف الجرحى، وتخصيص صناديق يُطاف بها في جميع مناطق المملكة لجمع التبرعات. كان هجوم القوات التي تحركت من صامطة سريعًا، حيث تَمكنت من السيطرة على مدينة حرض فجرًا، فيما استعصت عليها قلعتها، دارت معارك شرسة على تخوم تلك القلعة، قُتل فيها الكثير من الجانبين، قدرهم المُؤرخ الإمامي أحمد شرف الدين بأكثر من 1,000 قتيل سعودي، واضاف: «ومن عسكر الإمام بالنسبة إليهم قدر قليل، وما برحوا في مصارعهم صرعى، حتى تغير من جيفهم الهواء»، وحين يئس عامل حرض علي السياني من الصمود، خرج بعد 12 يومًا مُتسللًا إلى جبال الشرف، مُفسحًا الطريق للقوات الزاحفة، المسنودة بـ 800 سيارة نقل سريعة. سقطت حرض، وما كان لها أنْ تَسقط؛ لولا قيام قبيلة بني مروان التهامية بمُساندة القوات السعودية، حيث قامت تلك القبيلة بمنع وصول الإمدادات للحامية الإمامية، ليتوالى بعد ذلك دعم القبائل المُجاورة للقوات المُهاجمة، وعن ذلك قال حمد الشويعر في إحدى برقياته: «وصلت الأنباء من جميع مشايخ تهامة لطلب الأمان، مقابل البلاد بمن فيها من جنود الزيود»؛ ولولا تلك المُساندة ما سقطت باقي المناطق تباعًا، وبدون قتال، ولنا مع هذه الإشكالية المُتجذرة والمُسببة وقفة في السطور الآتية. والمُتتبع لخَارطة تحركات هذا المحور، يَلحظ عدم توجه قوات سعودية صوب جبال عسير تهامة (أحد أبرز مواضع النزاع)؛ وهذا وإنْ دل فإنَّما يدل على أنَّ تلك القوات أرادت أولًا فرض واقع جديد، وتهيبت ثانيًا من الحرب في تلك الجبال الوعرة، واكتفت بتطويقها 9 أبريل، وقطع الاتصالات والإمدادات المُرسلة من جهة صعدة عن المُقاتلين المُرابطين فيها، والذين كان أغلبهم من أنصار الأدارسة، وتحت قيادة عبدالوهاب الإدريسي، وبخصوص الحسن الإدريسي (عم الأخير) فقد تم نقله حينها من ميدي إلى المحابشة. من جهته أفاد المُؤرخ محمد علي الشهاري أنَّ المُقاتلين المُرابطين في تلك الجبال قاموا حينها بعدة عمليات هُجومية ضد الحاميات السعودية المُتمركزة في العارضة، والقصبة الواقعتين غرب جبال العبادل، وضد القوات الزاحفة التي قامت بتطويقهم أيضًا، وقد كان لصمود أولئك المُقاتلين الأثر الأكبر في إصرار الملك عبدالعزيز - خلال هذه الجولة - على تسليم الأدارسة إليه، بدلًا من إبعادهم. وفي المحور الأوسط كان هُجوم القوات السعودية التي تَحركت من خميس مشيط بطيئًا، وأفادت الباحثة مروى سليمان أنَّ تلك القوات سيطرت على جبل باقم، في حين قال المُؤرخ الخترش أنَّها - أي تلك القوات - سيطرت على منطقة بني جُماعة القريبة من ذلك الجبل، وأنَّ ولي العهد الأمير سعود نَقل مقر قيادته العليا إلى منطقة بقصة، ووادي نشور، دون أنْ يحددا - أي مروى، والخترش - تاريخ تلك التحركات. وتفنيدًا لتلك الرواية، وبمعنى أصح للجانب الأكبر منها، أفاد المُؤرخ الشهاري أنَّ القوات السعودية لم تُسيطر إلا على عقبة الشطبة، ويباد، ومضيق باب الحديد من بني جُماعة، ولم يحدد - هو الآخر - تاريخ تلك السيطرة، والراجح أنَّها كانت بعد التاسع من أبريل بأيام معدودة، التاريخ الذي تم فيه - كما سبق أنْ ذكرنا - تطويق قوات عبدالوهاب الإدريسي في جبال عسير تهامة. وفي اليوم التالي لعملية التطويق تلك، وصل إلى مكة المُكرمة بطلبٍ من إمام صنعاء وفد المُؤتمر الإسلامي بالقدس، المُكون من أربعة أعضاء: رئيس المُؤتمر الحاج أمين الحسيني (فلسطين)، ومحمد علي علوبة (مصر)، وهاشم الأتاسي (سوريا)، وشكيب أرسلان (لبنان)، وهو الوفد الذي ماطل الملك عبد العزيز بادئ الأمر في قبول مساعيه، وأصر - كما أشارت أبرز القراءات - على خوض حربه حتى النهاية. وبالعودة إلى ميدان القتال، فقد كان هجوم القوات التي تَحركت من شمال نجران بطيئًا أيضًا، ولم تعلن وزارة الخارجية السعودية عن سيطرة تلك القوات على جنوب ذات الإقليم إلا في بداية الأسبوع الرابع من بدء المُواجهات 27 أبريل، وجاء في بيان تلك الوزارة ما نصه: «الجيوش التي تحت قيادة سمو الأمير سعود تمكنت من طرد الزيود من نجران، والاستيلاء على القصور والقلاع، والمهمات العسكرية، وطاردتهم إلى ما وراء بلدة الحضن، آخر حدود نجران من جهة اليمن». وعلى النقيض من ذلك، أفاد مُؤرخو الإمامة أنَّ الإمام يحيى أمر قواته بالانسحاب من جنوب نجران، وأنَّه أبرق قبل إعلان وزارة الخارجية السعودية بأسبوعين (12 أبريل) للملك عبدالعزيز طالبًا الهُدنة، وقائلًا: «يكفي ما قد كان، ونعوذ بالله من شرور المُتربصين بالإسلام الدوائر، لتحقيق مطامعهم. بلاد يام تحت حكمكم، وقد أمرنا برفع جندنا من نجران»، وأنَّ القوات الإمامية تحت قيادة إسماعيل بن حسن المداني بدأت بعد تسعة أيام في تنفيذ أوامر الانسحاب، وأنَّها - أي تلك القوات - تَعرضت اثناء انسحابها لعمليات هجومية. وفي نفس اليوم الذي أعلنت فيه الحكومة السعودية عن سيطرة قواتها حربًا على مدينة نجران، سقطت في الجانب التهامي مدينة ميدي سلمًا، وكان قد وصل قبل ذلك إلى مشارف الأخيرة بأيام معدودة الأمير فيصل بن عبدالعزيز ليتولى القيادة العامة للقوات المُهاجمة في هذا المحور، والمُحاصرة لذات المدينة، وإليه أرسل أعيانها بطلب الأمان؛ وبذلك جنبوا مدينتهم دخول تلك القوات، واكتفى ذات الأمير بإرسال قوة خفيفة لحفظ الأمن. وكان أولئك الأعيان قد لجأوا لذلك التصرف بعد خروجهم ليلًا من السجن الذي زج عامل ميدي القاضي عبدالله العرشي بهم به، وبعد معرفتهم بفراره، وقد قامت سريتين من القوات السعودية محمولة على 25 سيارة باللحاق به، وتمكنت بعد معركة غير مُتكافئة استمرت لثلاث ساعات من أسرهم، وإرسالهم إلى جيزان، وبعد مرور ثلاثة أيام كان السقوط السريع لمدينة اللحية، ثم الزيدية، ثم الحديدة، وباجل. كان سقوط مدينة الحديدة مُدويًا، دخلتها القوات السعودية دون قتال 4 مايو، وبِمُساعدة شيخ قبيلة الواعظات هادي بن أحمد الهيج، وشيخ قبيلة الضِّحِى إبراهيم السبهان، وشيخ قبيلة عبس السابق محمد الشوكاني، والشيخ أحمد فتيني جنيد، أحد مشايخ قبيلة الزرانيق، وكان الأخير قد التجأ وأهله بعد فشل ثورة الزرانيق إلى جيزان، وساند ومجاميع من أبناء قبيلته وقبائل تهامية أخرى القوات السعودية أثناء إخمادها لثورة الحسن الإدريسي السابق ذكرها. سكان الحديدة كان لهم أيضًا دورًا بارزًا في صناعة تلك الأحداث، وقد مهدوا لدخول القوات السعودية بطرد القوات الإمامية من مدينتهم، وقيامهم بنهب مُستودعات الأسلحة والذخائر التي ابتاعها الإمام يحيى مُؤخرًا، وعن هؤلاء وغيرهم قال المُؤرخ محمد زبارة: «وقد سرى الخور والغدر والمكر من أهل البلاد بواسطة الرشوة». وما لم يَعترف به المُؤرخ زبارة وغيره من مؤرخي الإمامة أنَّ أبناء تهامة تَعاملوا مع الإماميين كمُحتلين، وأنَّهم قاموا خلال السنوات الماضية بعدة انتفاضات ضد ذلك التواجد، وبدلًا من أنْ يقوم الإمام يحيى بِكسبهم إلى صفه، تعامل معهم بمناطقية وعنصرية فجة، واعتبر أموالهم غنيمة. حتى أولئك المشايخ والمناصب الذين سهلوا له احتلال بلادهم، أقصاهم، ونكل بهم، وصادر أسلحتهم؛ فما كان منهم إلا أنْ ارتموا نكاية به في أحضان آل سعود، تمامًا مثلما ارتموا قبل تسع سنوات في أحضانه نكاية بالأدارسة! ولتوضيح هذا المشهد أكثر أترككم مع ما قاله المُؤرخ محمد الأكوع: «ولقد خبرت من غير وجه أنَّ الجيش اليمني الموزع على المراكز تاه على وجهه بدون قيادة، وعلى انفراد، وأنَّ القبائل التهامية كانت تتخطفه من كل جانب، وينزلون عليهم ضربًا، ونهبًا، وقتلًا، وكان يُصاح بهم: "أمزيدي، أمجباليا"». وبالإضافة الى ذلك السبب البارز، هناك أسباب أخرى مُتصلة، ساهمت بِمُجملها في التعجيل بسقوط تلك المناطق، منها: أنَّ الشاب العشريني السيف عبدالله (حاكم تهامة المُستجد) هرب من الحديدة بعد أنْ تبادر إلى مسامعة إشاعة وفاة والده، وأنَّ الأمور في صنعاء بفعل ذلك مُضطربة، وقد وصف عبدالله الشماحي ذلك المشهد بالقول: «وفر سيف الإسلام عبدالله من الحديدة فرار الأمة الوكعاء، ومن لا رجولة له». ومنها: أنَّ إمام صنعاء أمر قواته بالانسحاب من السهل التهامي إلى الجبال القريبة؛ لأنَّه كان يدرك جيدًا أنْ موازين القوى على الأرض ليست لصالحه، وأنَّ سُكان تهامة مِثلهم مثل سُكان نجران لا يحملون له - لاختلاف المذهب - إخلاصًا صادقًا، ولا ولاءً حقيقيًا. ومنها أيضًا: أنَّ القوات السعودية كانت الأكثر عددًا وعدة، وخِبرتها في الحروب الصحراوية طويلة، وانتصاراتها خلال السنوات السابقة لافتة، ومعنوياتها مُرتفعة، وتحركاتها بمساعدة سيارات النقل الإنجليزية سريعة، وهي السيارات التي شبهتها القوات الإمامية المرعوبة والمُنسحبة بالعفاريت! واصلت القوات السعودية المُنتشية بالنصر تقدمها جنوبًا، وتجاوزت مدينة الطائف، وصولًا إلى مدينة بيت الفقيه، والأخيرة دخلها الشيخ أحمد فتيني جنيد وأصحابه دخول الفاتحين، وكان ثوارها قد مهدوا لذلك باقتحام سجن ذات المدينة، وقاموا - كما أفاد المُؤرخ الشبيلي - بإخراج أقرانهم منه، وطاردوا العامل الإمامي عبدالله المنصور وعساكره إلى سفوح جبال ريمة، وقتلوا 12 فردًا من عساكره. توقف هُجوم القوات السعودية المُسنودة هذه المرة بأبناء قبيلة الزرانيق عند مشارف مدينة زبيد، حيث تلقت مُقاومة عنيفة من قبل العساكر الإماميين المُرابطين في ذات المدينة، والذين كانوا - كما أفاد المُؤرخ البحر - تحت قيادة عاملها عبدالله الديلمي، ومسنودين بمجاميع قبلية من زبيد، ومن العدين، وكانت نتيجة هذه المعركة سقوط قتلى كُثر من الطرفين. أوجدت القيادة السعودية في مدينة بيت الفقيه حامية مُكونة من عشرة الى خمسة عشر رجلًا، ومثلهم في مدينة الطائف، أما الحديدة فقد تجاوز عدد قواتهم المُتواجدة فيها الـ 400 جندي، غير الآلاف الذين تمركزوا على امتداد الساحل التهامي، والعشرات الذين وصلوا فيما بعد إلي ذات المدينة بحرًا. عاشت مدينة الحديدة خلال الأيام الأولى لسقوطها فترة فوضى محدودة، وفرَّ كثيرٌ من سكانها، وقد استطاع الأمير فيصل خلال وقتٍ قياسي أنْ يُعيد لها استقرارها، ويطمئن رعاياها، وبالأخص الأجانب منهم، وعن ذلك قال الضابط الإنجليزي إس . بارنيز في إحدى تقاريره السرية: «ولقد أعطاني - يقصد الأمير فيصل - التأكيدات الأكثر طمأنة على قدرته على حماية الأرواح والمُمتلكات للمُواطنين البريطانيين، طالما الاحتلال السعودي لمدينة الحديدة قائمًا، كما أكد لي أنَّ كل شيء هادئ، وأنَّ السلام يعم هذه المدينة، ولقد تأكد ذلك لي بملاحظاتي الشخصية». وكما حظيت هجمات هذا المحور بالتوثيق الجيد، ظلت هجمات المحورين الأخرين عُرضة للتأويلات الجانبية، وفي الوقت الذي قال فيه المُؤرخون السعوديون أنَّ قواتهم وصلت من جهتي نجران وجبل باقم إلى القرب من صعدة، وأنَّها طوقت تلك المدينة وعزلتها عن محيطها، وتستعد للزحف إلى ما ورائها، قال المُؤرخون الإماميون أنَّ ولي العهد السيف أحمد تمركز في جبل باقم، وصمد في وجه القوات السعودية منذ لحظات الهجوم الأولى، ونكل بها في معركتي شيحاط، والنقعة شر تنكيل. لم يخض المُؤرخون الإماميون في تفاصيل تلك المَعركتين، واكتفى المُؤرخ زبارة بالقول: «وحينئذ تحرك الأمير سعود بن عبدالعزيز وحط بظهران بالقرب من باقم، فصحبته الجيوش الإمامية إلى وكره، وطحنتهم طحنًا، وسلبت المحطة وما فيها، وأخذت الراية، والمدفع، والخيمة، وجميع ما كان في هذه المحطة النجدية، وهذه المعركة مشهورة، وتبعتها معركة نقعة المعروفة». ليس من عادة المُؤرخين الإماميين أنْ يمروا على انتصارات أسيادهم مرور الكرام، ومن هذا المُنطلق صَعُب علينا تحديد تاريخ تلك المعركتين، مع العلم أنَّ الرحالة المُنحاز للجانب الإمامي نزيه مُؤيد العظم تحدث عن مَعركة فاصلة أسماها (معركة جبل باقم)، لافتًا أنَّ تلك المعركة كانت السبب الحقيقي في توقف القتال، وعقد الهدنة، وغير مُستعبد أنْ تكون هذه المعركة هي نفسها معركتي شيحاط، والنقعة السابق ذكرهما. من جانبه المُؤرخ الشهاري تحدث بشيء من التفصيل عن معركة جبل باقم، مُحددًا تاريخها باليومين التالين لسقوط مدينة الحديدة (6 - 7 مايو)، وأماكن نشوبها بمناطق: قاع باقم، والنقعة، ويباد، والشطبة، وعلس، مشيرًا إلى اشتراك مجاميع من القوات التي انسحبت من تهامة فيها، وأنَّها - أي تلك المعركة - فَكَّت الحصار عن القوات الإدريسية في جبال عسير تهامة، وأجبرت القوات السعودية على المُغادرة، بعد أنْ تكبدت خسائر فادحة في صفوفها، ومعداتها، والتي حددها ذات المُؤرخ بـ 2,000 قتيل وجريح، و400 أسير، أما الغنائم فتمثلت بـ 360 جملًا، و32 مدفعًا، و9 سيارات حمل سليمة، و27 مُحطمة، وعددًا كبيرًا من الخيام. وهكذا، وكما انتصرت القوات السعودية انتصارًا كبيرًا في المناطق السهلية، انتصرت القوات الإمامية انتصارًا محدودًا في المناطق الجبلية، الأمر الذي جعل الحرب بين الجانبين - حسب توصيف أحد الكتاب - كالصراع بين الفيل، والحوت؛ بحيث لا يستطيع الأول أنْ يُغادر اليابسة، ولا يستطيع الآخر أنْ يُغادر البحر! وكانت صحيفة (المورننج بوست) الإنجليزية قد تنبأت بتلك النتيجة سلفًا، حيث قالت: «إن النزاع سينتهي متى بسط الملك ابن السعود نفوذه على المناطق الصحراوية السهلة». لم يعد الملك عبدالعزيز بعد تلك المعركة ذلك المُتكبر العنيد، المُصر على خوض معركته حتى النهاية، أتاح للوفد الإسلامي المقيم لديه فرصة التدخل، ليقوم أعضاء ذلك الوفد بمُراسلة الإمام يحيى، مُقترحين عليه استئناف المفاوضات، استجاب الأخير لطلبهم دون تردد، واستجاب أيضًا لشروط الملك السعودي، وبذلك أعلنت الهدنة 13 مايو، وحددت مدتها حتى الـ 21 من ذات الشهر. وفي المُقابل لم يعد الإمام يحيى بعد تلك المعركة ذلك الخانع الذليل، المُستجدي إنقاذه، قبل مقترح الوفد الإسلامي من موضع قوة، وقال في إحدى تصريحاته: «ولقد أبرمت الهدنة بعد معركة في منطقة صعدة، كان النصر فيها حليف ولدنا سيف الإسلام أحمد، وفي ذلك كله فإننا لا نحمد بعد الله أحدًا إلا الولد أحمد». والحق يقال أنَّ مَعركة جبل باقم لم تكن هي وحدها من قلبت الموازين، فقد كان لصمود عبدالوهاب الإدريسي وقواته في جبال عسير تهامة دورًا في ذلك، بالإضافة إلى تزايد التحركات الإيطالية في سواحل البحر الأحمر، واتصالاتها المُستمرة مع صنعاء، وإعلان روما أنَّها لن توافق على سقوط اليمن؛ خاصة بعد أنْ شعرت أنَّ لندن تستغفلها، وتُقدم معونات كبيرة للسعودية. وكانت العمليات العسكرية قد خلقت بادئ الأمر نوعًا من القلق لدى لندن، وروما على السواء، ولم يتجاوز هم الدولتين حينها الحفاظ على مصالحهما، ومعهما فرنسا، وفي حين لم تنحاز الأخيرة لهذا الطرف أو ذاك، انحازت إنجلترا لصالح الملك عبدالعزيز، وانحازت إيطاليا لصالح الإمام يحيى، وسارعتا في إنزال بعضٍ من جنودهما في مدينة الحديدة، بذريعة تأمين الرعايا الأجانب، إلا أنَّ مُكوث تلك القوات لم يدم طويلًا. وقد انعكست سياسة الدولتين على صحافتهما المحلية، وفي الوقت الذي وقفت فيه الصُحف الإيطالية مع دولة الإمامة، وقفت الصحف البريطانية مع السعودية، وقد كانت لغة لندن هي الأقوى؛ على اعتبار أنها تُساند الطرف المُنتصر، من نعتته بـ (قيصر الصحراء)، وأنَّ روما راهنت على الجواد الخاسر! وفي ذات السياق، ثمة مُقارنة لافتة وضعتها صحيفة (الأوبزرفر) اللندنية، بين الإمام يحيى والملك عبد العزيز، صحيح أنَّها انحازت للأخير، إلا أنَّها في شأن الأول لم تجانب الصواب، ومن مقالها نقتطف: «ويصعب جدًا مُعاملة الإمام يحيى لأنَّه يمتعض من كل تجديد، ويكره التقدم الحديث، والآراء الجديدة، ولا يمكن الاعتماد على كلامه لأنَّه يعد اليوم، وينكل بوعده غدًا، ويماطل، ويتردد، ويبدل آراءه تكرارًا، ولا يُمكنه أنْ يُوحي بالحماسة إلى رجاله؛ لقلة ما فيه من الصفات التي يُعجب بها العرب، فهو متلاعب مكار، في حين أنَّ الملك ابن السعود حاذق بارع، وهو مُتناه بالبخل، وعبدالعزيز سَخي، أما إنجلترا فخير لها أنْ يحكم عبدالعزيز اليمن، لأنَّ الإمام يحيى كان دائمًا عدوًا للإنجليز». وعلى ذكر التحركات الإيطالية المُساندة لدولة الإمامة، أفاد المُؤرخ إسماعيل الأكوع أنَّه وفي ذات اليوم الذي أعلنت فيه الهدنة، رست سفينة عسكرية إيطالية في ميناء المخا، ونزل أفرادها الـ 102 بأوامر من الإمام يحيى في ذات المدينة، وأنَّ عامل الأخيرة الشيخ محمد أحمد نعمان وكبار الشخصيات طالبوا قبطانها بالمغادرة؛ خوفًا من ردة فعل القوات الحكومية الرافضة لذلك التواجد. بدأت بعد يومين من إعلان الهدنة جولة أخيرة من المُفاوضات، واستقبلت مدينة الطائف الوفد اليمني المُحتجز برئاسة عبدالله الوزير، في حين رأس الوفد السعودي الأمير خالد بن عبدالعزيز، وتم بعد أربعة أيام، وفي جو ودي، وبحضور وفد المؤتمر الإسلامي التوقيع على اتفاقية الطائف 19 مايو، دون أنْ يتم الإعلان رسميًا عن ذلك؛ لاعتبارات عدة، أهمها: أنَّ الملك عبد العزيز كان - كما أفاد المُؤرخ الخترش - مُرتابًا من نوايا الإمام يحيى. ما بين أبها والطائف خمسة أسابيع من الصراع الدامي، صحيح أنَّ تلك الاتفاقية نَصّت على انتهاء الحرب بمجرد التوقيع عليها، إلا أنَّ الأجواء ظلت خلال الأسبوعيين التاليين مُكفهرة بغيوم الحرب؛ بدليل أنَّ الملك عبدالعزيز أعطى الإمام يحيى مُهلة لتنفيذ شروطه، حددها حتى تاريخ انتهاء الهدنة (21 مايو)، وهدده بأنَّه سيأمر قواته باستئناف الهجوم في حال ماطل بالتنفيذ، رد الأخير عليه ردًا مقتضبًا، وخاطبه بـ «أنَّ مصاير الشعوب لا يبت بها في مثل هذه العجلة»، وأكد على ضرورة تمديد الهدنة للدراسة والبحث الدقيق، فكان بعد تدخل وفد المؤتمر الإسلامي ما أراد الأخير. وعلى الرغم من مُوافقة الملك عبدالعزيز على تمديد الهدنة حتى الـ 29 من ذات الشهر، إلا أنَّ ارتيابه من الإمام يحيى لم يتوقف، على اعتبار أنَّ الأخير قد يستغل التمديد لمآرب عدوانية، ولإرهاب ذات الإمام قامت قواته بعرض عسكري كبير في مدينة الطائف، استمر لساعتين، وفيه لوح بالعودة إلى الحرب؛ في حال لم تُنفذ شروطه، وأتبع ذلك بإقامة مأدبة عشاء لوفد المُؤتمر الإسلامي، أطلعهم فيها على آخر المُستجدات، وبرأ - كما هي عادته - ساحته. كانت الأصابع ما تزال حتى تلك اللحظة على الزناد، وقد حصلت مُواجهات محدودة في منطقة الفرع الواقعة جنوب غربي نجران، وذلك بين قوات الأمير سعود والسيف أحمد، وقد كان الأخير وحزبه من أبرز المُعارضين لاتفاقية الطائف، وقد عزا بعض المُؤرخين مطالب والده بتمديد الهدنة لهذا السبب، وقال آخرون أنَّ الأخير ماطل لأنَّه لم يكن لديه المال الكافي لدفع التعويضات التي فرضها الملك عبدالعزيز عليه، والتي قُدرت بـ 100,000 جنيه من الذهب، وقد نفى المُؤرخ الخترش صحة المعلومة الأخيرة، وأكد أنَّ مُعاهدة الطائف وقعت على أساس لا غالب ولا مغلوب. لم تصل مُوافقة الإمام يحيى النهائية على تنفيذ شروط الملك عبدالعزيز إلا في اليوم الأخير من أيام الهدنة، وقيل في اليوم التالي، وبذلك دخلت مُعاهدة الطائف طور التنفيذ، وتوقفت الحرب، وذلك بعد 54 يومًا من اندلاعها، ولم يبدأ شهر يونيو إلا والقوات الإدريسية - الإمامية قد أتمت عملية إخلائها لجبال عسير تهامة، وأطلقت رهائنها، ليتم في الخامس من ذات الشهر تسليم الحسن الإدريسي و300 من أفراد أسرته للأمير فيصل في مدينة الحديدة، وسارع كل طرف بتسليم الأسرى المُحتجزين لديه، في حين تأخر تسليم عبدالوهاب الإدريسي لأيام معدودة. وفي الـ 19 من يونيو صادق الإمام يحيى رسميًا على مُعاهدة الطائف، وكان الملك عبدالعزيز قد سبقه بالمصادقة عليها بـ 12 يومًا، تلا ذلك نشر نص المعاهدة في وقت واحد، في كلٍ من مكة المكرمة، وصنعاء، والقاهرة، ودمشق، ومع نهاية ذات الشهر بدأت القوات السعودية عملية انسحابها من المناطق التهامية، وفي مُنتصف الشهر التالي أُعلن رسميًا عن ذلك. صحيح أنَّ معاهدة الطائف أوقفت تلك الحرب، إلا أنَّها لم تُنهِ الصراع، وقد كانت بمُجملها استجابة طبيعية للمُتغيرات الميدانية، وتجاوزت كونها وثيقة صُلح، إلى تنظيمها للعلاقات الشائكة بين الدولتين، وأسقطت حقهما بالمُطالبة بأي جزء من بلاد الطرف الآخر، وجاء في جزئية تنازل إمام صنعاء ما نصه: «كما أنَّ جلالة الإمام يحيى يتنازل بهذه المُعاهدة عن أي حق يدعيه باسم الوحدة اليمانية أو غيرها في البلاد التي هي بموجب هذه المُعاهدة تابعة للمملكة العربية السعودية من البلاد التي كانت باسم الأدارسة، وآل عايض، أو في نجران، وبلاد يام». وعلى الرغم من أنَّ تلك المُعاهدة حوت في إحدى بنودها عفوًا عامًا عن كل الأعمال العدوانية السابق حدوثها، وعن كل الأفراد الذين انحازوا خلال الصراع لهذا الطرف أو ذاك، إلا أنَّ الجانب الإمامي لم يلتزم بذلك، وقد كان الشيخ أحمد فتيني جنيد ضحية هذا النكوث، حيث قامت الأيادي الغادرة - كما أفاد المُؤرخ مقشر - باغتياله في مدينة بيت الفقيه عن طريق السم، وبإشراف مُباشر من قبل السيف أحمد. كانت حرب الأسابيع السبعة حدًا فاصلًا بين مرحلتين زمنيتين، ضعفت بسببها قوة الإمام يحيى، وتبددت هيبته، وأخذ الأحرار اليمنيون (الدرادعة) - كما كان يُسميهم - يُفكرون جديًا في كيفية التخلص منه، مُعلنين بدأ العد التنازلي لطي صفحته، وهو ما حدث بعد مخاضات عسيرة يطول الغوص في تفاصيلها.