من ينتقص ممن هو - كما يعتقد - أدنى منه نسبًا؛ فإنَّه يقبل أنْ يكون عبدًا مطيعًا لمن هو - كما يعتقد أيضاً - أعلى منه نسبًا، عنوان عريض يُقدم خلاصة مأساة اليمنيين المُتجذرة، وهي المأساة التي تجسدت ببروز هذه المُسميات: (أخدام - مزاينة - يهود - قبائل - سادة). كانت غزال بنت أحمد بن علوان الشهيرة بـ (غزال المقدشية) أبرز من حاربت هذه الإشكالية بوصفها تمييز اجتماعي منبوذ، وهي شاعرة شعبية تمردت على المألوف، وتجاوزت الاهتمامات العامة الشائعة إلى مجال القضايا الإنسانية المُعقدة والمحظورة، ولهذا السبب ولغيره اشتهرت وذاع صيتها. ولدت غزال وعاشت في "حورور" من قرى ميفعة عنس، وفي منتصف القرن التاسع عاشر الميلادي كانت وفاتها، وذلك بالتزامن مع أفول الدولة القاسمية، والتي كان لها مع أحد موظفيها حكاية يلخصها قولها: يا رجال البلد قد "المُثمّر" مُخالف جا يطوف الذرة أو جا يطوف المكالف؟! في كتابه (القصر والديوان) قال الباحث عادل الشرجبي أنَّها تنتمي إلى فئة أبناء الخمس؛ مُستدلًا بقولها: قالوا غزال وامها سرعة بنات الخُمس ما بِه خُمس يا عباد الله ما به سدس وأبناء الخمس هؤلاء: فئة اجتماعية تحتل مكانة مُتدنية، وقريبة من المكانة الاجتماعية لفئة المهمشين (الأخدام)، وكما أنَّ الأخيرين من بقايا الجيش الحبشي الذي احتل اليمن واستوطنوا المناطق الجنوبية والغربية، فإنَّ هؤلاء من بقايا الجيش الفارسي الذي احتل اليمن واستوطنوا المناطق الشمالية، وكلاهما في الأصل أسرى حرب، وثمة شواهد تاريخية تؤكد ذلك. ينسب المهمشون - كما تشير بعض المصادر - إلى نصير الدين نجاح الحبشي، أحد عبيد الدولة الزيادية بزبيد، والذي استغل انهيار تلك الدولة، وكون بعد صراعات مريرة دولة تابعة للعباسيين، أطلق عليها - كما أشار المؤرخ الخزرجي - اسم (ملوك الحبشة في اليمن)، واستمرت من العام 1053م حتى العام 1159م. قام نجاح ومن تبعه من الأمراء باستجلاب المزيد من أبناء قومهم، وقاموا باضطهاد السكان الأصليين؛ الأمر الذي جعل التهاميين يُشكلون مجموعات مقاومة بعضها كانت بقيادة علي بن مهدي الحميري، والذي قيل أنَّه أقسم بأنْ يجعل النجاحيين خدمًا للمجتمع اليمني، لتدور وعلى مدى أربع سنوات حروب وخطوب، انتهت بإسقاط تلك الدولة، نفذ ابن مهدي حينها قسمه، وأجبر بقايا النجاحيين على جعل منازلهم في أطراف المدن والقرى، وأطلق عليهم لأول مرة تسمية (أخدام). أما (أبناء الخمس) فسموا بذلك لأنَّ إعاشتهم لا تتم إلا من خُمس غنائم الحروب التي تخوضها القبائل، وهي الحروب - سواءً كانت هجومية أو دفاعية - التي لا يشاركون فيها، مثلهم - هنا - مثل المهمشين واليهود، مع فارق أنَّ الأخيرين يدفعون الجزية، وأصولهم قحطانية! وغير اليهود طال ذلك التمييز بعضًا من سكان البلد الأصليين - من عُرفوا بـ (المزاينة)، وهم في الأصل - وهو الراجح - من أسرى الحروب القبلية. وهناك أيضاً أصحاب المهن، وهم من قال عنهم فرانك ميرميه في دراسة له عن أسواق صنعاء ومجتمعها: «يبدو أنَّ قسمًا كبيرًا من الحرفيين والتجار ينحدرون من الأبناء الساسانيين الذين قَدِموا لمُساعد الملك اليمني سيف بن ذي يزن». كان الأئمة السلاليون - علويون، وأدعياء - المُستفيد الأبرز من ذلك، قدموا إلى بلدٍ طافح بالحروب القبلية، وهي النافذة التي تسللوا - كطرف ثالث غرضه كما يدعي الإصلاح! - منها، وتحكموا لقرون بالمشهد، وتسيدوا - بوصفهم أبناء النبي - على من يمارسون التمييز الاجتماعي في حق أبناء بلدهم، وأنعشوا أسوأ ما فيهم، وجعلوهم يحتقرون الأعمال الزراعية، والمِهن الحرفية، والأشغال التجارية، وصيروهم - تبعًا لذلك - وقوادًا لمعاركهم المقدسة. وبالعودة إلى عنوان التناولة، فالراجح أنَّ غزال المقدشية ليست - كما أفاد الباحث الشرجبي - من بنات الخُمس، ولو تأملنا مضمون البيت الشعري الذي استدل به؛ لوجدنا أنَّ التمييز الاجتماعي طالها لأنَّ أمها - وليس هي - من بنات الخُمس، بدليل اعتدادها بنفسها، وبروزها كشاعرة تنافح عن قبيلتها، وحين زار الأخيرة - مثلًا - أحد مشايخ المناطق المجاورة، وبرفقته خادم له أحسن منه هيئة، كانت أكثر المُستقبلين فطنة، وفرقت - على عكس بني قبيلتها - بين الشيخ والخادم، وحين تهكم الأخير عليها، ردت عليه بنبرة عنصرية. يا مَينَدِي يا مَخَنتسْ من عيال الخُمسْ ذي لحمتكَ لوح في معزاه وإلا عُرُسْ ومجلسك في يسار الباب من جاء دعس وحين قُتل رجل من قومها اسمه (أحمد)، تم الثأر له من رجلٍ قليل الشأن اسمه (روبان)؛ قالت مُتهكمة: أحمد بروبان والله لو قد احنا حِسَهْ مُفارقة صادمة في مسار شاعرة عُرف عنها تبنيها - قبل الجميع - لمبدأ المساواة، ومحاربتها - بعد أنْ منحها الشعر مكانة عالية - لألوان التفرقة القائمة، أليس هي القائلة: سوا سوا يا عباد الله مُتساوية ما حد ولد حر والثاني ولد جارية عيال تسعة وقالوا بعضنا بيت ناس وبعضنا بيت ثاني، عيّنة ثانية!