أثناء سيطرتهم على المناطق الشمالية عمل الأيوبيون ومن بعدهم الرسوليون على تنصيب ولاة من قبلهم على تلك المناطق، كان أغلبهم من الأكراد، وحين ضعفت الدولة الرسولية، استقر غالبية هؤلاء الأمراء ومماليكهم في ذمار، استغلوا الصراع الزيدي - الزيدي، وصاروا صُناع أحداث داخل دولة الإمامة نفسها، في سابقة مُلفتة لم تشهدها تلك الدولة الثيوقراطية من قبل. لم يسيطر الإمام الزيدي المهدي علي بن محمد على مُعظم المناطق الشمالية إلا بمساعدة هؤلاء الأمراء، ومماليكهم، زوج ولده صلاح الدين من فاطمة بنت الأسد الكردي، واستطاع بمساعدة والدها تثبيت أركان دولته، بعد أنْ جعله واليًا على ذمار، وكانت نتيجة تلك المصاهرة حفيده علي، الذي تولى الإمامة يوم دفن والده في صنعاء نوفمبر 1391م، وتلقب بـ (المنصور). كانت علاقة المنصور علي بالرسوليين في أغلب فترة حكمه التي تجاوزت الـ 46 عامًا هادئة إلى حدٍ ما، أرسل بداية عهده بهدايا الصداقة للسلطان الأشرف الثاني إسماعيل، آخر سلاطين بني رسول الأقوياء، استغل الأخير الصراع الزيدي - الزيدي، وحاول أكثر من مرة السيطرة على ذمار، وحين فشل؛ اكتفى بالسيطرة على رداع بواسطة نائبه في تلك الجهة الشيخ طاهر بن عامر (جد الطاهريين)، وما أنْ شاع خبر وفاته نوفمبر 1400م، حتى استعاد الإماميون زمام المبادرة، وقاموا بعدة محاولات لاستعادة السيطرة على تلك المدينة، انتهت بعد ثلاثة أعوام بالصلح. كان عهد السلطان الرسولي الثامن الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل مُستقرًا نوعًا ما، وذكر بعض المُؤرخين أنَّه وجه نشاطه بداية عهده إلى المناطق الجبلية، حيث استولى على حصني إرياب والحقل، وأخرب مدينة يريم إبريل 1404م، كما قام بدعم مُعارضي المنصور علي من الحمزات والإسماعيليين؛ وهو الأمر الذي أغضب الإمام الزيدي، ليبدأ الأخير بشن غاراته على حدود الدولة الرسولية، أخذًا من الطاهريين حصني بلق والقلة، فما كان من الأخيرين إلا أن استنجدوا بالسلطان الرسولي، أنجدهم الأخير بحملة عسكرية إلا أنَّها - أي الحملة - تعرضت لهزيمة كبيرة، وقتل قائدها 1419م. توجه السلطان الرسولي بداية العام التالي إلى رداع بقوات جرارة قادها بنفسه، أوقع بعساكر المنصور علي شرَّ هزيمة، وفتك بالكثير منهم، واستعاد الحصنين، وبلغ عدد الأسرى الإماميين أكثر من 1,600 ما بين فارس وراجل، عفى السلطان عن مُعظمهم، ولم يستبق إلا الأمراء وكبار القادة، أخذهم معه إلى مدينة تعز حاضرة دولته، وأقام هناك احتفالًا كبيرًا بتلك المناسبة فبراير 1419م. واصل المنصور علي تكرار غاراته، مُحاولًا طمس تلك الهزيمة، إلا أنَّه كان في كل مرة يتلقى هزيمة مُشابهة للتي قبلها، حتى إذا ما يئس من تحقيق النصر جنح إلى طلب الصلح، وهو ما حصل بعد عامين. أما الطاهريون فقد أخذوا بعد ذلك في تقوية أنفسهم، في الوقت الذي أخذ فيه الرسوليون يزدادون ضعفًا، خاصة بعد وفاة السلطان الناصر أحمد إبريل 1424م. توفي المنصور علي في صنعاء يوليو 1437م، وهو العام الذي حلَّ فيه وباء الطاعون، ومات بسببه الآلاف من اليمنيين، منهم ولده محمد، الذي حكم لـ 40 يومـًا فقط، لتتحكم زوجة الأخير الأميرة فاطمة بنت الحسن ومملوك زوجها قاسم سنقر بالأمر، وحين رأت الأميرة عدم رضا العامة عنها، أجمعت ومساندوها على اختيار صلاح بن علي إمامًا وزوجًا، تلقب الأخير بـ (المهدي)، وعزم بعد عدة أيام على التخلص من المملوك سنقر، إلا أنَّ الأخير أحبط مُحاولته، وزج به في السجن، لتنجح زوجته بإخراجه، أخذته معها إلى صعدة، وهناك كان لها الأمر والنهي دون منازع. نَصَّب المملوك سنقر في صنعاء الناصر بن محمد إمامًا، ودعى الناس إلى بيعته، وصك العملة باسمه، تلقب هذا الإمام بـ (المنصور)، تيمنًا بالمنصور علي جده لأمه مريم، لتنجح الأخيرة بتهريبه؛ وذلك حين وقع الخلاف بينه وبين ذلك المملوك المُتسلط، طلت وجهه باللون الأسود، وألبسته لبس الجواري، فتوجه من فوره مع سبع إماء إلى حصن هران في ذمار، واتخذه مقرًا له، وانضم إليه غالبية مماليك وعبيد جده. الحمزات من جهتهم استغلوا ذلك الصراع، وأعلن المُطهَّر بن محمد الحمزي من الأهجر نفسه إمامًا، مُتلقبًا بـ (المُتوكل)، استدعاه المملوك سنقر إلى صنعاء، وأعلن تأييده له، ليخرجا معًا وقبل أنْ ينتهي ذلك العام لمُحاربة المنصور الناصر، وفي قرية قريس بجهران كانت المواجهة. استعان الإمام الناصر بالطاهريين، وبهم انتصر، أسر مُعارضه الإمام المُطهَّر، وأمر بحبسه، كما أمر بخنق سنقر، ليدخل بداية العام التالي صنعاء دخول الفاتحين، وذلك بعد أن انتصر بالخديعة على زيد ابن المملوك الصريع، وذلك بالتزامن مع هروب المُتوكل المُطهَّر من سجنه في حصن الربعة بذمار. تقوى بعد ذلك أمر الإمام المُطهَّر، توجه شمالًا، وحظي بمساندة بني عمومته الحمزات، وكانت أغلب حروبه مع المهدي صلاح، أخذ عليه صعدة، بعد أن ناصره سكانها، وإلى الإمامين أرسل الشاعر أحمد الشامي بقصيدة طويلة مُنتقدًا ومُحرضًا إياهما على التوجه جنوبًا، نقتطف منها: هلا سـألت مطـهــرًا وصـلاحا هلا حصل للمسلمين صلاحا أم جهــــزا جيشًا لبلــدة طاهر يروي التراب بها دمًا سفاحا ويذيق ساكنها الحِمام وتمتلئ تلك النواحي والحصون نواحا أو ليس أملاك المتوج طاهر ملكوا رداع وهـيوة وصباحا تلك التي كانت لآل محمد صدقًا وهـم فيها مسًا وصـباحا فسطا عليهم شافعي سالك في مذهـب لكـنَّ فيـه فساح سبق أنْ أشرنا إلى استعانة المنصور الناصر بداية عهده بالطاهريين، إلا أنَّ المودة لم تدم بينهم طويلًا، توجه لمحاربتهم، وعن ذلك قال صاحب (روضة الأخبار): «خرج الناصر إلى ذمار، فجمع أحزابه، وعب كالسيل عبابه، وخرج على غفلة إلى بني طاهر، فدخل مدينة دمت عنوة، ولم يكن لمن فيها وقعة قوة، ونهب وأخرب، والتجأ أهلها إلى الحصن.. وعاد فقصد حصن هيوة، فغشي من فيها الجبن، فسلموا إليه الحصن، وهو من الحصون الرفيعة، والمعاقل المنيعة». كانت الحرب بينهما بعد ذلك سِجالًا، تخللتها بعضٌ من محطات الصلح المؤقت، كما كانت للمنصور الناصر حروب مع المُتوكل المُطهَّر، الذي تحالف هو الآخر مع الطاهريين، والإسماعيليين، وكانت - أي تلك الحرب - هي الأخرى سِجالًا. بانتهاء الدولة الرسولية يوليو 1454م، ابتدأ عهد أصهارهم بني طاهر، وذلك بقيادة الأخوين المُجاهد علي بن طاهر، والظافر عامر الأول، سيطرا بصعوبة على المناطق الوسطى، والجنوبية، والغربية، واتخذا من مدينة رداع عاصمة لدولتهما. رغم كونه الأصغر، استأثر الظافر عامر الأول بالخطبة والسكة لنفسه، ليتنازل بعد ستة أعوام لأخيه الأكبر؛ خوفًا وحذرًا من مصير الدولة الرسولية، تحاشى المُجاهد علي بداية عهده الدخول في صراع مع دولة الإمامة، وحينما حاول المنصور الناصر غزو رداع 1460م، وعاث فيها وفي ضواحيها نهبًا وخرابًا، تلافى التصادم معه، وسعى بكل الوسائل لمصالحته، ولكن دون جدوى. عاود المنصور الناصر بداية العام التالي الهجوم على رداع، تصدى له المُجاهد علي ببسالة، صد زحفه، وأخذ عليه مدينة ذمار وضوحيها لعدة أشهر بغير قتال إبريل 1461م، وفي مدينة صنعاء وقف ذات الإمام خطيبًا مُحرضًا الناس على الجهاد، وقال فيهم: «هذا مذهب يريد أن يبطل مذهبنا، ويسعى في أرضنا بالفساد». جمع المنصور الناصر جموعه الغفيرة، وسار بهم إلى ذمار، استردها بسهولة، وحينما علم بعزم الطاهريين على مُلاقاته، هاله ما معهم من قوة وعتاد، غادر قصره العتيق، وولى هاربًا إلى حصن هران، ليسيطر الطاهريون بكل سهولة على تلك المدينة للمرة الثانية إبريل 1462م. كانت الإمامة الزّيدِيّة حينها في غاية الضعف، وكان الصراع بين الإمام الهادوي الناصر، والإمام الحمزي المُطهَّر على أوجه، عاود أنصار الأخير بتحريض طاهري غاراتهم الجنونية على صنعاء، فيما قام أهالي عرقب في منطقة الحدا بأسر المنصور الناصر فور مُغادرته حصن هران، تدخل حينها بعض فقهاء الزّيدِيّة، وخاطبوهم بالقول: «لا تخرموا المذهب، وتسلموا الناصر إلى عامر؛ بل سلموه إلى الإمام المُطهر، ولكم بذلك الأجر الوافر». خلف المنصور الناصر عام أسره ولده محمد، تلقب بـ (المُؤيد)، وظلت صنعاء تحت حكمه، ليتحقق للطاهريين السيطرة عليها بطلب منه، نكاية بالإمام الحمزي، وليمنع وقوعها بيد الأخير يوليو 1462م، مُقابل 50,000 دينار سُلمت له على أن يبقى مُعتزلًا في قصره، وقد استطاع بعد مرور ثلاثة أعوام التخلص من سيطرتهم بالخديعة، عمل الظافر عامر على استعادتها، ولقي مصرعه على أبوابها. انفرد المُجاهد علي بعد ذلك بحكم الدولة الطاهرية، ليؤول الأمر بعد وفاته لابن أخيه عبدالوهاب بن داؤود يونيو 1478م، سيطر الأخير على ذمار لبعض الوقت، وتوفي في جبن إبريل 1489م، فكتب حينها الشاعر محمد الزحيف قصيدة طويلة حرض فيها المُؤيد محمد وأنصار الإمامة على استغلال تلك الحادثة، والقيام بغزو المناطق الجنوبية، والغربية، نذكر منها: هـذه الأقطار شـاغـرة وحمـاها انهّـد وانــقصـفا فاشرعوا في عـود أرضكم واستعيـدوا ذلك الطـرفا إنْ تراخيتم بها زمنًا قـدر شهـر فـارقبوا التلفا تحقق حدس الشاعر الزحيف، وجاء دولة الإمامة الزّيدِيّة التلف من حيث ما توقع، خاصة بعد أن تولى زمام الدولة الطاهرية السلطان الأشهر الظافر عامر بن عبدالوهاب، كان هذا السلطان قوي العزيمة، شديد البأس، لا يكل ولا يمل عن مقارعة خصومة، استعاد في أواخر العام التالي السيطرة على ذمار، وقام بالتنكيل بأنصار الإمامة فيها، وجعل عليها من يثق به، ثم بدأ بعد ذلك بتوجيه غاراته شمالًا، وطرق أبواب صنعاء. وفي منتصف عام 1495م أعلن محمد الوشلي من منطقة القابل في وادي ظهر نفسه إمامًا، تلقب بـ (المنصور)، وسيطر على عدد من المناطق والحصون، وحاول بعد أربعة أعوام استعادة ذمار، إلا أنَّه مني بهزيمة نكراء، نجا من تلك المعركة بصعوبة، ووقع كثير من أصحابه بين قتيل وجريح وأسير، ليسيطر السلطان عامر على حصن هداد في بلاد الحدا، وما جاوره من مناطق وحصون. نجح السلطان عامر ومعه آلاف المُقاتلين بدخول مدينة صنعاء 12 مارس 1505م، وذلك بعد نشوب عدد من المعارك أجبرت سكانها على طلب الأمان، ونجح في آخرها - أي المعارك - في أسر الإمام محمد الوشلي، ليموت الأخير نهاية ذات العام في السجن، عن 65 عامًا، وقيل أنَّه - أي السلطان - دس له السم ليتخلص من طموحاته الإمامية وإلى الأبد. بقتلهم للسلطان عامر بن عبدالوهاب على تخوم مدينة صنعاء 13 مايو 1517م، أنهى المماليك بدعم إمامي حقبة الدولة الطاهرية، وذلك بعد 63 عامًا من الصراعات والإنجازات المهولة، وبخروجهم أواخر ذات العام من ذات المدينة، دانت الأخيرة والمناطق المجاورة للمُتوكل يحيى شرف الدين، الذي تصدر حينها المشهد. ظل بقايا الطاهريين مُسيطرين على مُعظم المناطق الوسطى، وبدأوا في عام 1518م شن غاراتهم على ذمار ورداع، إلا أنَّ الأمير المُطهَّر شرف الدين كبح جماحهم، استغل الأمير عامر بن داؤود - الطامح حينها لاستعادة دولة آبائه - توجه الإمام يحيى شرف الدين شمالًا، وأرسل جنوده مرة أخرى للهجوم على الأطراف الجنوبية لدولة الإمامة. استفاد الأمير عامر من انضمام الأمير يحيى السراجي إلى صفه، وصيَّره قائدًا لإحدى حملاته، سيطر الأخير على رداع، ثم موكل، وفي الأخيرة باغته الأمير المُطهَّر بجيش جرار أكتوبر 1534م، هزمه شرَّ هزيمة، وقتل 300 جندي من أصحابه، واقتاده و2,300 أسيرًا إلى ساحة الإعدام. بعد أنْ دانت معظم المناطق الشمالية لوالده، وبعد موقعة موكل بأسابيع معدودة، توجه الأمير المُطهَّر صوب المناطق الوسطى، مُكررًا غاراته إلى تلك الجهة، مُتذرعًا بملاحقة الأمير عامر، وقد تمت له بالفعل السيطرة على إب ثم تعز فبراير 1535م، لينهي الأتراك (العثمانيون) تلك السيطرة بعد مرور 11 عامًا. بخروج الأتراك من اليمن - مُنتصف القرن الحادي عشر الهجري - صار اليمن - كل اليمن - مِيراثًا سهلًا للدولة القاسمية، لتدخل الزّيدِيّة - دولةً ومذهبًا - مَرحلة اختبار حقيقي في كيفية تعاملها مع الآخر، ظلت فتاوى الفقهاء حول ذلك تراوح مَكانها، حتى تولى الإمامة الفقيه المُتعصب المُتوكل إسماعيل بن القاسم سبتمبر 1644م، الذي صنع بفتاويه أعداء وهميين، احتوى أقاربه الطامحين، وجيَّش القبائل المُتعطشة للفيد جنوبًا وغربًا وشرقًا، مُؤسسًا بذلك أسوأ احتلال عرفته تلك المناطق على مدى تاريخها. بعد أنْ دانت له عدن وأبين، حشد المُتوكل إسماعيل بن القاسم أكثر من 10,000 مقاتل بقيادة الأمير أحمد بن الحسن، ووجههم لاجتياح باقي المناطق الجنوبية حتى حضرموت، ومهد لذلك بمراسلة المشايخ والسلاطين، وحثهم على الانضمام إلى دولته سلمًا. تولى شيخ البيضاء - وبتوصيف أصح شيخ بني أرض - حسين بن أحمد الرصاص قيادة المقاومة، وتنظيم حشودها التي وصلت قرابة 2,000 مقاتل، ليخذله مع أول مواجهة أغلب سلاطين ومشايخ الجنوب، نجح الإماميون في تطويقه بنجد السلف من أكثر من اتجاه، فما كان منه إلا أنْ قاومهم حتى لقي حتفه، مثَّلوا بجثته، ثم حزوا رأسه، وأرسلوه هدية للحضرة الإمامية، حلَّ شقيقه صالح مكانه، وقد انحاز الأخير بأهله وعشيرته وأنصاره إلى منطقة البيضاء، مُفسحًا الطريق للعساكر الإمامية. كانت يافع العليا الوجهة التالية، رفض شيخها عبدالله هررة الخضوع للدولة القاسمية، واحتمى ومن معه بالشواهق العالية، وتحفظ الذاكرة اليافعية عددًا من الأهازيج التي تؤرخ لتلك الفترة، وحين قال الشاعر الإمامي: يا واد ذي نــاعم توسع لاجاك سيدي والمـدافع هذي السنة حسبة الله نأخذ عدن وأبين ويافــع رد عليه الشاعر اليافعي: يا مطرح الزاهر توسع عـادها با تقبلك يفاعة با تقبلك تسعـة مكاتب با تأخذ الزيدي بساعة نجح القاسميون في اقتحام جبل العُر، بعد أكثر من محاولة فاشلة، فيما فشل أبناء يافع في استعادته؛ بسبب كثرة بنادق الطرف الآخر، ورصاصها الذائبة، دخل بعد ذلك جميع سلاطين ومشايخ الجنوب مذلة الخضوع للدولة القاسمية، ألغوا الدعاء في الخطبة للدولة العثمانية، وسلموا رهائن الطاعة، وألزموا بدفع ديات القتلى، وحق فيهم المثل القائل: «أكلت يوم أكل الثور الأبيض». بعد 28 عامًا من سيطرة الدولة القاسمية على يافع، ثار اليوافع، وأعلنوا استقلالهم 1684م، بعد أنَّ نصبوا شيخ يافع العليا صالح هرهرة سلطانًا عليهم، بمعاونة ورضا سلاطين الجنوب: شيخ يافع السفلى معوضة بن عفيف، وأحمد بن علي الرصاص، وصالح العولقي، وأحمد شعفل، أناطوا به جميعًا مهمة قيادتهم وإنقاذهم من حكم الأئمة، وهو ما كان. عمل الإمام صاحب المواهب محمد بن أحمد على استمالة السلطان عبدالله الفضلي، والسلطان أحمد الرصاص إلى صفه، فنجح مع الأول، وفشل مع الأخير، ليتوجه فور علمه بوفاة السلطان معوضة بن عفيف مايو 1693م بجيشه الجرار إلى الزهراء في البيضاء، وكلف أخاه المحسن بمصادمة الثوار. جدد سلاطين الجنوب حينها حلفهم للمرة الثانية، اتحدوا، وتعاهدوا بأنْ يدافعوا عن مناطقهم، ثم توجهوا بقواتهم لملاقاة الإماميين، هزموهم في معركة الدرب بالقرب من الزهراء، ولحقوا بالفارين إلى نجد السلف، وهناك كانت معركة ثانية أشد ضراوة. أجبر الثوار القوات الإمامية على الاستسلام، أخذوا ما بحوزتهم من سلاح، ثم أذنوا لهم بالرحيل، وحين علموا بوجود صاحب المواهب على مقربة منهم، طاردوه إلى نجد الجاح، وقيل أنَّهم حاصروه، وأجبروه هو الآخر على الاستسلام، وأنَّه - أي الإمام - افتدى نفسه منهم بمال عظيم. في العام 1697م أرسل صاحب المواهب جماعة من خلص عساكره إلى البيضاء، لقوا حتفهم جميعًا، فما كان منه إلا أنْ كلف ابن أخيه القاسم بن الحسين بالانتقام، حقق الأخير انتصارًا خاطفًا على قوات السلطان أحمد الرصاص، وعاد أدراجه مُتباهيًا، وذكر المُؤرخ أبو طالب أنَّ الحملات العسكرية التي وجهها صاحب المواهب صوب يافع تجاوز عددها حتى ذلك العام الـ 40 حملة. بعد أنْ استعصت عليه يافع، وقهرت جحافله القبلية والنظامية، لجأ صاحب المواهب إلى سياسة المُسالمة، وعمل جاهدًا على استرضاء سلاطين الجنوب بالمصاهرة وبالأموال والهدايا، صحيح أنَّ مُعظم مُحاولاته كُتب لها النجاح، إلا أنَّ الاستقرار النسبي بفعلها لم يدم طويلًا، تجددت المواجهات، وكان النصر في النهاية حليف أبناء الأرض، ولم تعد البيضاء (بني أرض) لحكم دولة الإمامة الزيدية إلا أواخر عام 1923م، وهي سيطرة هدَّ وجودها عدد من الانتفاضات التحررية، وللقصة بقية.