لا هم أنا الشامي ولا احسب عسكره
بعد معارك شرسة استمرت لأكثر ثلاثة أسابع، تمكن الأمير عبدالله الوزير من دخول مدينة البيضاء 5 نوفمبر 1923م، ولولا مُشاركة قبيلة مُراد بقيادة الشيخ ناصر بن مسعد القردعي - والد البطل الثائر علي القردعي - في تلك الحرب، مُساندين لحليفهم السلطان حسين الرصاص في حربه الثأرية، ما انتصر الإماميون، وما رفع الشيخ علي عبدالرب الحميقاني مُؤقتًا راية الاستسلام، وتأكيدًا لما ذهبنا إليه، خاطب الأخير ابن الوزير قائلًا: قال الحميقاني صليب الراس وقرن راسي من حديدي لولا المُرادي ذي له الغلاس ما كان قلت لك سيدي أخذ الأمير عبدالله الوزير من الشيخ علي الحميقاني ومن المشايخ الذين ساندوه رهائن الطاعة، ثم جدد العزم على التوجه جنوبًا، وكانت بلاد عزان والعواذل وجهته التالية، وجاء في رسالته التي بعثها للإمام يحيى، والمُؤرخة بـ 25 جمادى الأولى 1342هـ (2 يناير 1924م) تفاصيل تلك الحملة. فور دخوله مدينة البيضاء، عزم الأمير عبدالله الوزير - كما جاء في رسالته - على توجيه قوات إمامية لإخضاع بلاد عزان، الواقعة جنوب شرق ذات المدينة؛ وذلك بعد أنْ رفض غالبية سكانها الدخول في طاعته، وبعد أنْ استعدوا بمُعاضدة من قبيلة العواذل المُجاورة للهجوم عليه، وإلى منطقة المسحرة أرسل بقريبه محمد بن علي الوزير ومعه مدفع وعدد من المُقاتلين، وعن نتيجة هذه المعركة قال ابن الوزير: «وقد اجتمع المُفسدون من آل عزان جميعًا إلى هنالك، نحو ألف وخمسمائة، فخذلوا، ونصر الله المُجاهدين نصرًا عظيمًا، وأخذوا نحو عشرة محلات في نحو ثلاث ساعات». وإلى مدوقين من دبان، وهي منطقة فاصلة بين آل عزان والعواذل، أرسل الأمير عبدالله الوزير في ذات الوقت بقوات إمامية بقيادة النقيب قايد بن راجح، وسليمان أفندي، والسلطان حسين الرصاص، ثم عززها بقوات أخرى بقيادة النقيب عبدالله بن سعد الجبري، والنقيب صالح بن ناجي الرويشان، وعامل السوادية الشيخ أحمد قايد الجبري. كان أبناء قبيلة العواذل قد استعدوا للمُواجهة، وحشدوا - كما جاء في تلك الرسالة - نحو 2,000 مُقاتل، واستولوا على منطقة دبان، إلا أنَّهم تعرضوا لهزيمة ماحقة، وعن ذلك قال ابن الوزير: «ولم يبقى بعد ذلك غبار للعواذل، وتشتت شملهم من وقته، وباكروا في اليوم الثاني بالوساطة والكتب في طلب الأمان والصلاح وبذل الطاعة، وتعقب ذلك وصول السلاطين آل القاسم علي جميعًا، وتبعتهم مشايخ الطاهر، وتمت طاعتهم، وسلموا الرهائن المُختارة من مشايخ البلاد». وتأكيدًا لما سبق، أفاد عدد من المُؤرخين أنَّ القوات الإمامية تجاوزت مُكيراس وصولًا إلى لودر، وتجاوزت في الجهة الأخرى ردفان وصولًا إلى إمارة العلوي، والأميري، والمسبعي، وعن خُلاصة الجزئية الأولى قال عبدالله الوزير في رسالته: «وبذلك تم صلاح جميع بني أرض، والعواذل، وصلحت الآن جميع الأمور، واستقرت الأحوال». لم يستقر لقوات الإمام يحيى في العواذل وما جاورها من مناطق قرار، ففي مطلع عام 1924م ثار أهل شرجان على الحامية الإمامية المُتمركزة هناك، وكانت الحصيلة 33 قتيلًا، هم إجمالي عساكر تلك الحامية؛ والسبب - كما أفاد المُؤرخ محمد زبارة - نقل رهائن القبيلة من مدينة البيضاء إلى السوادية، وتوارد الأخبار بأنَّ نقلهم كان إلى شهارة. لم يُرسل الأمير عبدالله الوزير بعساكر إمامية لإخماد ذلك التمرد؛ بل أرسل بمجاميع قبلية من البيضاء المُجاورة 12 يناير 1924م، وعلى دفعتين: 200 مُقاتل بقيادة السلطان حسين الرصاص، و200 مُقاتل بقيادة الشيخ علي الحميقاني، ومع الأخير 14 جندي نظامي، وإكمالًا للمشهد قال المُؤرخ زبارة: «وكانت بينهم وبين البغاة معارك انجلت عن قتل كثير من البغاة، واستيلاء الأجناد الإمامية على كثير من قراهم وأموالهم، وعلى جميع بلادهم، والإحراق لخمسة وثلاثين محلًا من محلاتهم.. بعد أنْ كانوا قد تجمعوا ألوفًا مُؤلفة». وهكذا، اتحد السلطان حسين الرصاص وصهره الشيخ علي الحميقاني لمُحاربة قبيلة مجاورة لهم، تشاركهم المُعاناة والمصير، وتسببا في خلق حرب ثأرية لم يتعافى هما حتى تلك اللحظة من أثارها، وكان المُستفيد الأكبر من كل ذلك دولة الإمامة الكهنوتية، التي لم تحكم وتتحكم وتتوسع على مدى تاريخها إلا بخلق وتوسيع الخلافات بين اليمنيين، وديدنها بذلك ديدن كل المُحتلين على مر العصور. وقبل أنْ أختم هذه الجزئية، وجب التذكير أنَّ السلطان حسين الرصاص والشيخ علي الحميقاني لم يستمرا على ولائهما لدولة الإمامة الزيدية؛ بل قاما بعدة انتفاضات تحررية - سنأتي على تناولها اختزالًا - كلفت الإماميين الكثير، وتعرضا بسببها للحبس والتشريد. أبناء قبيلة العواذل هم الآخرون لم يذعنوا لحكم الإمام يحيى، فيما لم يتوسع مُؤرخو الإمامة في ذكر انتفاضاتهم التحررية، واكتفى المُؤرخ زبارة في ذكر انتفاضة أهل شرجان - سبق أنْ نقلنا تفاصيله - ثم أتبعه بذكر انتفاضة أهل عريب، وهي الانتفاضة التي حدث نهاية ذات العام ديسمبر 1924م، وذلك بعد مرور خمسة أشهر من مُغادرة الأمير عبدالله الوزير مدينة البيضاء، وتعيين عبدالله بن عبدالله إسحاق عاملًا عليها. بتكليف من عامل البيضاء عبدالله إسحاق، توجه عدد من العساكر لإحضار ابن أحمد صالح جعبل، وكان مصير بعضهم القتل على يد أبناء تلك المنطقة، فيما التجأ من نجا منهم إلى بيوت الرماح، فدارت الحرب هناك، وكانت الحصيلة كما أفاد المُؤرخ زبارة 15 قتيلًا و14 جريحًا من القوات الإمامية، و30 قتيلًا من أهل عريب. في تلك الأثناء كانت للقوات الإمامية - كما أفاد المُؤرخ عبدالله الناخبي - محاولة يتيمة لاحتلال يافع السفلى، وقد تصدى لها آل الكسادي بمعاضدة من بني عصر، استمرت تلك المعركة طوال الليل، ولم تُشرق شمس اليوم التالي إلا والنجدات اليافعية تتابع من آل ذي ناخب، وآل يزيد، وآل سعد، وكلد، واليهري، وانتهت تلك المعركة بهزيمة الإماميين، ليغادروا المنطقة بعد أنْ تركوا ورائهم عددًا من القتلى والجرحى والأسرى، وكميات كبيرة من العتاد والأسلحة. لم يكن سقوط بلاد المشرق (البيضاء وما جاورها) بيد القوات الإمامية سهلًا، ولم يكن مكوث تلك القوات في تلك المناطق الثائرة سهلًا أيضاً؛ خاصة بعد أنْ كثر تعدي تلك القوات على المواطنين وأملاكهم، الأمر الذي جعل من ساندوها وأذعنوا لها يعضون أصابع الندم، ويستعدون للتمرد والثورة، وقد تولى الشيخ علي عبدالرب الحميقاني قيادة غالبية المجاميع القبلية الثائرة، وتوجه بها لمُحاصرة القوات الإمامية في مدينة البيضاء فبراير 1924م. ما أنْ شعر الأمير عبدالله الوزير بالهلاك، حتى سارع بطلب النجدة من الإمام يحيى، وبالفعل توجهت مطلع الشهر التالي قوات إمامية من ذمار ويريم وإب والحدا لإنقاذه، بقيادة عامل الأخيرة محمد بن علي الشامي، وعن هذه الحملة الكبيرة قال الشاعر الإمامي ابن جحاف مُتباهيًا: يا درب ذي ناعم ويا حيد السما بتخبرك كم جت من القبلة زيود خمسه وسبعين ألف ذي عديت نا من عسكر الشامي توطي يالحيود فما كان من الشيخ علي الحميقاني إلا أنْ رد عليه قائلًا: لا هم أنا الشامي ولا احسب عسكره وعادني باسي من ام زيدي جلود بدحق بها بالشوك ولا بالرثى لا ما يبان اللحم من بين اللحود وحسب الذاكرة الشفهية أنَّ القبائل المُجاورة لم تفِ بالتزاماتها تجاه القبائل المُقاومة، وأنَّ قِوى بعض أفراد قبائل البيضاء خارت بِمُجرد سماعها بأخبار تلك الحملة، وسارع مشايخها بعقد تحالفات سرية مع الأمير المُحاصر عبدالله الوزير؛ وهو الأمر الذي أربك المشهد، ومهد لفك الحصار عن الأخير. صحيح أنَّ الشيخ علي الحميقاني ومجاميع من قبيلته، ومعهم أفراد من قبيلة دبان وال وهاش وال عزان وال مظفر السفلان في القاع، قد تصدوا جميعًا لتلك الحملة، إلا أنَّ صمودهم لم يستمر طويلًا، فالقوات الإمامية بقيادة العامل محمد الشامي تمكنت من فك الحصار عن الأمير عبدالله الوزير، وذلك بعد معارك كثيرة سقط فيها كثير من القتلى من الجانبين. وهكذا، وبعد ثلاثة أيام من القتال الشديد، انسحب آل حميقان ومن ساندهم إلى الزاهر، واتخذوا من حصون وجبال ممدود والعادية مقرًا جديدًا لهم، لتشهد الأخيرة آخر معاركهم مع القوات الإمامية، وتمكنوا من قتل العشرات، وصلبوهم - كما أفادت الذاكرة الشفهية - على جدران الحصون، وجذوع الأشجار، وخسروا الشيخ صالح محمد طاهر الحميقاني أحد أبرز قادتهم. لم يستقر للقوات الإمامية في منطقة البيضاء قرار؛ بدليل أنَّ الإمام يحيى بعث في 16 مايو 1924م رسالة لأبنائها، ذَكَّرهم فيها بالأحداث السابقة، بصورة تُوحي بأنَّه جاء مُنقذًا لا غازيًا، وأنَّ قواته توجهت إلى تلك الجهة لإصلاحها، وإيقاف الحرب الدائرة بين آل الرصاص وآل الحميقاني، وحقن الدماء المسفوكة في غير مرضاة رب العالمين! وعن انتفاضة أبناء البيضاء الأخيرة، قال مُتحاملًا: «فلما حصل ذلك البغي والغدر والعدوان، ونقض العهود والعقود، واتباع الشيطان، والإحاطة بالولد عبدالله الوزير ومن معه؛ عظم لدينا الأمر، وجل استنكاره، ولم يسعنا غير إرسال بعض الجند المنصور، وكان ما كان مما جنته أيدي الغرور، وساءنا كل ما كان من سفك الدماء، وذهاب الأموال». لم يفِ الإمام يحيى بوعده بتعيين السلطان حسين الرصاص عاملًا على البيضاء؛ بل عين عبدالله إسحاق بدلًا عنه، وهو أمرٌ كان له ما بعده، ترك الأمير عبدالله الوزير أمر الناحية للعامل الجديد، وعاد لمقر عمله في مدينة ذمار 29 يونيو 1924م، وكان العامل محمد الشامي قد سبقه بالعودة بعدة أيام إلى مقر عمله في الحدا، وقد كان للأخير عودة أخرى إلى مدينة البيضاء، وذلك لإنقاذ العامل ابن إسحاق من تمرد عاصف - سنأتي على تناوله - كاد أن يطوي صفحته وللأبد. صادر الأمير عبدالله الوزير قبل مغادرته البيضاء نحو خمسين ألف طلقة رصاص، كانت كما أفاد المُؤرخ زبارة بـ «أيدي مشايخ المشرق من النصارى»! واصطحب معه إلى ذمار نحو سبعين رهينة، كان الشيخ عبدالقوي الحميقاني وابن أخيه أبرزهم، وهما - كما أفاد ذات المُؤرخ - من أبرز من تصدوا للقوات الإمامية على الرغم من الخلاف الدائر بينهما. أما الشيخ علي عبدالرب الحميقاني من وصفه المُؤرخ زبارة بـ (صاحب بلاد البيضاء)، فإنَّه وبعد أنْ دارت الدائرة عليه، يمم خطاه صوب صنعاء 3 سبتمبر 1924م، ومعه الشيخ الرماح والشيخ العزاني، وهناك التقى الإمام يحيى، وعن طبيعة تلك الزيارة قال المُؤرخ زبارة أنَّها كانت «للمراجعة فيما به الصلاح التام لبلادهم بعد المعارك العظيمة التي كانت في العام الماضي - يقصد العام 1342هـ - فيما بينهم وبين جند الإمام». وفي موضوع مُتصل، وحسب الذاكرة الشفهية أنَّ الاتفاق بين السلطان حسين الرصاص والإمام يحيى - سبق أنْ تحدثنا عنه في الحلقة السابقة - قضى بأنْ يسحب الأخير قواته فور هزيمة الشيخ علي الحميقاني، وهو مالم يكن، عاثت القوات الإمامية في البيضاء فسادًا؛ الأمر الذي حفز السلطان الرصاص على تصدر المشهد مرة أخرى، خاصة وأنَّ قبائل البيضاء تعاضدت معه هذه المرة، وذلك بعد أنْ أنكرت عليه فعلته السابقة، ويُؤكد ذلك قوله: يا قلعة ام بيضاء سلامــي جبنا ام مرادي لبنِ مره من بعد خي صالح بن أحمد ما جرت الدنيا تجـــره والمُرادي المذكور في الشعر هو الشيخ ناصر القردعي. وهكذا، تجددت الحرب بين قبائل البيضاء بقيادة السلطان حسين الرصاص، وبين القوات الإمامية بقيادة عبدالله إسحاق، فالتجأ العامل بعد أنْ تم طرده من مدينة البيضاء إلى الشيخ علي عبدالرب الحميقاني، فاشترط الأخير عليه تقسيم الخراج بين قبيلته ودولة الإمامة. صحيح أنَّ الشيخ علي الحميقاني ساعد العامل عبدالله إسحاق في السيطرة على مدينة البيضاء، إلا أنَّه - أي الحميقاني - كان - كما أفادت الذاكرة الشفهية - حاكم البيضاء الفعلي، وهو الوضع الذي لم يستمر طويلًا، فقد أراد ابن إسحاق الزواج من إحدى بنات الشيخ الرماح عنوة، الأمر الذي دفع الأخير على الالتجاء بالشيخ الحميقاني. ثارت ثائرة الشيخ علي الحميقاني، وقام - كما أفادت الذاكرة الشفهية - بطرد العامل عبدالله إسحاق من مدينة البيضاء، فما كان من الإمام يحيى إلا أنْ أرسل حملة عسكرية بقيادة محمد الشامي، وقد نجح عامل الحدا بالقبض على الشيخ الحميقاني، وإرساله إلى صنعاء، وفي سجن القلعة تعرف الأخير على الشيخ علي بن ناصر القردعي، وهو أمرٌ كان له ما بعده. .. يتبع