ومن شيمة المنصور قتل رجالهم!!
رغم أنَّ الإسماعيلية من فرق الشيعة، وتُؤمن بالإمامة، وتحصرها في أحفاد إسماعيل بن جعفر الصادق، إلا أنَّها عكس أقرانها، وبالأخص الفرقة الزيدية الهادوية، فهي - أي الإسماعيلية - في تعاملها مع الآخر ذات نزعة سلمية، ولم يُسجل المُؤرخون وجود أعمال مُشينة خلال تَاريخها الطويل، والغامض، الذي للأسف الشديد لم يَصلنا منه إلا النزر اليسير. انكمشت الإسماعيلية في مُنتصف القرن السادس الهجري كدولة؛ وظلت في المُقابل حاضرةً كدعوة، لم تتجاوز دعاتها المُلمين بعلومها، ومُريديهم الثقاة؛ وحصل أنْ عاش هؤلاء مُتسترين في مُجتمعات مُخالفة لهم مذهبيًا، ولم يُثيروا بلبلةً ولا ضجيجًا. بعيدًا عن التأويلات الجانبية المُستفزة، فإنَّ هذه السلسلة ماهي إلا مُحاولة مُتواضعة للغوص في تاريخ الإسماعيليين السياسي لا الديني، والتركيز أكثر على الجرائم المُروعة التي مارسها الأئمة السلاليون خلال القرون الفائتة في حقهم، من استباحة الأنفس، ونهب الأموال، ونفي من رفع راية الاستسلام، والمُفارقة الصادمة أنَّهم - أي الإسماعيليين - حظوا خلال تلك المدة الطويلة - باستثناء فترات محدودة - بحماية الأيوبيين، والرسوليين، والطاهريين، والعُثمانيين (جميعهم سنيون)! وهو ما سنكشفه بالأدلة الدامغة في هذه الحلقة والحلقات التالية. قبل التعمق أكثر في تفاصيل ذلك الصراع المرير، سأعطي لمحة مُوجزة عن طبيعة دولة بني حاتم المذهبية، فهناك من المُؤرخين - كإسماعيل الأكوع، وحسين فيض الله الهمداني - من قال أنَّها كانت مُتحررة مذهبيًا، وهناك - وهم كُثر - من قال أنَّها كانت إسماعيلية المذهب، وبما أنَّ تاريخ الإسماعيليين في اليمن وغيرها مليء بالغموض، فإني أرجح القول الأخير؛ لاعتبارات عدة، أهمها: أنَّ آل عمران اليامي أسرة إسماعيلية عريقة ناصرت الصليحيين بادئ الأمر، وأنَّ الإسماعيليين بعد انتهاء تلك الدولة دخلوا طور الستر، وأنَّ سلاطين بني حاتم أنفسهم تكفلوا - في إطار دولتهم - بحماية مُعتنقي ذلك المذهب، ودعاة الدعوة الطيبية على وجه الخصوص، ومن هذا المُنطلق سألصق تسمية (الإسماعيلية) بدولتهم، وأتبعها بمفردة (إلى حدٍ ما) إزالة لأي التباس. توفي السلطان حاتم اليامي رمضان 556هـ / سبتمبر 1161م، وخلفه في الحكم ولده علي، وفي عهد هذا الأخير هدأت التوترات، وتحسنت العلاقات بين دولتي آل اليامي الإسماعيلية (إلى حدٍ ما) والإمامة الزيدية، وصار بين حاكميها مُراسلات، وتحالفات، وهدايا أيضاً، وحين جدد سكان مدينة صعدة - عامذاك - تمردهم على الإمام أحمد بن سليمان، أرسل الأخير ولده المـُطهَّر إلى سلطان همدان الجديد طالبًا نجدته. بعد عدة أيام من وصوله صنعاء، توفي الأمير المُطهَّر، فتوجه علي بن حاتم لتعزية أحمد بن سليمان ونجدته، اجتاح الأخير مدينة صعدة جمادي الآخر 557هـ، وعاث فيها نهبًا وخرابًا، وعن ذلك قال كاتب سيرته: «وأقام الناس يخربون المدينة ثلاثة أيام، وينقلون خشبها وأبوابها». بعد 21 عامًا من تربعه على رئاسة الدعوة الإسماعيلية الطيبية في اليمن، توفي في ذات العام الداعي إبراهيم بن الحسين الهمداني، فخلفه ابنه حاتم، أراد الأخير أنْ يحمي الدعوة بالدولة، واختلف لأجل ذلك مع السلطان علي بن حاتم اليامي 561هـ، انقسم الهمدانيون بينهما، واستمر الصراع لثلاثة أعوام، جنح في آخره الداعي الإسماعيلي للسلم، وآثر التوجه إلى حراز، جاعلًا من حصن الحُطيب مقرًا له، استولى على بعض الحصون المُجاورة، وأدخل سكان تلك الناحية في دعوته، وأتى إليه الأتباع من باقي المناطق، ومن السند والهند أيضاً. بالتزامن مع إصابته بالعمى، عادت التمردات على أحمد بن سليمان لسابق عهدها، كان أخواله آل العياني أبرز الناكثين لبيعته، انضم حولهم معارضوه، فحفزوا الأمير فليته بن قاسم العياني للنهوض، دارت حروب وخطوب، وعلى تخوم خمر نجح أنصار الأخير في أسر الإمام الأعمى، وسجنه بقلعتها 565هـ، ومن سجنه استنهض الأخير سلطان صنعاء علي بن حاتم بعدة قصائد؛ بل عدَّه واحدًا من أولاده، جاء في إحداها: لا تنسيـن أباك يعثر بينهم أعمى يدب على اليدين وينكب ويجر للحبس الشديد وبعده يؤذى بكـل كـريهة ويعـذب كما استنجد أولاد أحمد بن سليمان بـذات السلطان لذات الغرض، توسط الأخير لأبيهم عند خاطفيه، فأفرجوا عنه، ليتوجه الإمام الأعمى بعد خروجه من السجن إلى صنعاء، مُقدمًا شكره وعظيم امتنانه لأعداء الأمس، طالبًا دعمهم لمُحاربة آل العياني، والتنكيل بهم، وهو ما كان. وهذا وإنْ دل فإنما يدل على أن سلاطين بني حاتم كانوا سباقين في الجنوح إلى السلم، مع خصم مُتعصب طالما حاربهم، واعتدى عليهم في عقر دارهم أكثر من مرة. في كتابه (تاريخ اليمن الفكري) اعتبر أحمد الشامي تلك الأحداث بالمثال البشع الذي تخزي له وجوه الطامعين، مُؤكدًا أنَّ الأسى جراء ذلك لسع الإمام أحمد بن سليمان، وأنَّ الأخير مات بمدينة حوث كمدًا ربيع الآخر 566هـ، وذلك بالتزامن مع نهاية الدولة الفاطمية في مصر، وقبل التواجد الأيوبي في اليمن بثلاث سنوات. وفي المُقابل ظلت الدعوة الإسماعيلية الحافظية محصورة في الأراضي التابعة للدولة الزريعية، بدأت الأخيرة في عهد السلطان عمران بن سبأ الزريعي تترنح؛ وذلك بفعل توسعات دولة علي بن مهدي في تهامة، التي وصلت حينها إلى المناطق الوسطى. توفي السلطان عمران 560هـ، فآل الأمر لبعض مُعاونيه، لم تتوقف تحرشات آل مهدي؛ فخرج السلطان علي بن حاتم من صنعاء لنصرة آل زريع صفر 569هـ، أتى الأيوبيون أواخر ذات العام، وقضوا على الجميع. قَدِم الأيوبيون (أنصار السنة) - كما أسماهم بعض المُؤرخين - إلى اليمن، بِقيادة الأخ الأكبر لصلاح الدين الأيوبي شمس الدولة توران شاه بن أيوب، وبطلب من قاسم بن غانم بن وهاس حاكم المخلاف السليماني (جيزان)، المهزوم حينها من قبل عبدالنبي بن علي بن مهدي. قضى توران شاه - حربًا وسلمًا - في أقل من عام على جميع الدويلات اليمنية المُتصارعة، بنو مهدي في زبيد وتعز وإب (خوارج)، وبنو زريع في عدن (إسماعيليون)، وصالح بني حاتم في صنعاء (إسماعيليون إلى حدٍ ما)، واستبقى آل وهاس (سُنيون) على إقليمهم الشمالي، وجعل من مدينة تعز عاصمة لدولته. بعد عامين من مقدمه، قرر توران شاه العودة إلى بلاد الشام، وأناب عنه أربعة من رجالاته، استمروا يبعثون له الأموال حتى وفاته 576هـ، اختلفوا بعد ذلك، واستقل كل نائب بما لديه من أعمال، وحاولوا الخروج عن طاعة الدولة الأيوبية، ولم تعد اليمن لأحضان تلك الدولة إلا بِمقدم الشخصية الأيوبية الأقوى الأخ الأصغر لصلاح الدين سيف الإسلام طغتكين رمضان 579هـ. ابتنى طغتكين مدينتي تعز والجند، واتخذهما مقرًا لحكمه، لينجح بعد سبع سنوات من مقدمه في توحيد اليمن للمرة الثالثة في تاريخها، بعد حروب وخطوب مع مُعارضيه يطول شرحها، وبعد أنْ صالح كسلفه بني حاتم، واستبقاهم على بعض الحصون، وكان للانتصارات المُتسارعة التي حققها صلاح الدين على الصليبيين، وتحرير بيت المقدس 583هـ الأثر الأكبر في ذلك. توفي الملك طغتكين في الجند شوال 593هـ، ليُعلن في الشهر التالي عبدالله بن حمزة من دار معين في صعدة نفسه إمامًا، مُتلقبًا بـ (المنصور)، كان السلطان علي بن حاتم اليامي بادئ الأمر من أبرز مُناصريه؛ والسبب مُصاهرة بينهما، وقيل أنَّه - أي اليامي - أول من حفز ذلك الطامح ليُعلن نفسه إمامًا، وأنْ يتصدر مشهد مُحاربة الأيوبيين، وأعطاه لأجل ذلك بعض الحصون، إلا أنَّ ذلك التحالف لم يستمر طويلًا. ساهمت الخلافات الأيوبية - الأيوبية بداية العام 595هـ في تمدد عبدالله بن حمزة حتى صنعاء وذمار، بمساعدة بعض القادة الأيوبيين المُتمردين، وهي سيطرة لم تدم سوى بضعة أشهر؛ وكانت سببًا لأنْ يُوحد الأيوبيون صفوفهم تحت راية أسوأ ملوكهم إسماعيل بن طغتكين، الذي استقل بحكم اليمن، وتلقب بـ (المُعز لدين الله). رفض عبدالله بن حمزة تسليم صنعاء للسلطان علي اليامي، وذلك قبل أنْ يُخرجه المُعز الأيوبي منها؛ فاعتزل اليامي الحرب، واستقر في حصنه ذي ذمرمر (الغراس)، وفيه كانت وفاته 597هـ، وذلك بعد عامٍ واحد من مقدم الداعي حاتم بن إبراهيم الهمداني إليه، ووفاته - أي الداعي الإسماعيلي - في مدينة صنعاء الخاضعة عامذاك للأيوبيين، صالح بشر بن حاتم - سلطان بني حاتم الجديد - الأيوبيين، وأعاد المياه لمجاريها. اغتيل المعز إسماعيل بن طغتكين رجب 598هـ، فاضطربت أمور البلاد على الأيوبيين، وتقوى في المقابل أمر عبدالله بن حمزة، سيطر الأخير بسرعة خاطفة على أغلب المناطق الشمالية، وما هي إلا فترة وجيزة حتى استجمع الأيوبيون قواهم، استعادوا في ذات العام ذمار، ثم صنعاء، وصولًا إلى البون الأعلى، صالحوا بني حاتم، واعترفوا بسلطات الإمام الحمزي - بعد معارك محدودة - على الظاهران، والجوف، وصعدة؛ وعقد الصلح بينهما على ذلك، إلا أنَّه لم يستمر طويلًا. قال المُؤرخ الإسماعيلي إدريس عماد الدين: «وكان الغز - أي الأيوبيين - إذا ملكوا صنعاء شملوا أهل الدعوة - أي الإسماعيليين - بالأمان، وكان لهم لديهم المرتبة والمكان»؛ وتبعًا لذلك فقد أقام الداعي إبراهيم بن الحسين ومن تبعه من دعاة - سنأتي على ذكرهم - في مدينة صنعاء، تحت حماية الأيوبيين، وتحت حماية سلاطين بني حاتم أيضاً. وفي المُقابل كان عبدالله بن حمزة جريئًا في استباحة دماء وأموال مُخالفيه، وقد نال الإسماعيليين من أذاه الكثير، خاصة أولئك القابعين في المناطق الخاضعة لحكمه، وهي الجرائم التي خلَّدها الشاعر أحمد بن قاسم الشامي مُتباهيًا بقوله: ومن شيمة المنصور قـتل رجالهم وملك النساء للعالـمين بلا مهر كما اجتثهم بالسيف من أرض صعدة وفي الجوف والبونين قتـلًا وفي نجر تنفس الأيوبيون بعد وفاة عبدالله بن حمزة الصعداء 614هـ، انقضوا بسرعة خاطفة على أغلب مدن وحصون المناطق الشمالية، ساهمت الخلافات الزّيدِيّة - الزّيدِيّة في تمددهم، فيما بقي الحمزات مُسيطرين على بعض الحصون، ليقود بعد تسع سنوات من الانكماش محمد بن عبدالله بن حمزة 1,700 من مُقاتليه - وقيل أكثر - لاجتياح صنعاء، وفي عَصر هزمه الأيوبيون هزيمة نكراء، لم يسمع بمثلها فيما مضى حد توصيف المُؤرخ الأمير محمد بن حاتم اليامي، وقد وقف بنو عمومة الأخير إلى جانب الأيوبيين. وبالعودة إلى أخبار الدعوة الإسماعيلية الطيبية، فقد آل أمرها بعد وفاة الداعي حاتم بن إبراهيم لولده علي، استقر الداعي الجديد ومن أتى بعده في صنعاء، وفيها كانت وفاته ذي القعدة 506هـ، وقيل أنَّه مات مسمومًا، آل الأمر من بعده لعلي بن محمد بن الوليد الأنف، حظي الأخير بتأييد سلاطين بني حاتم، وظل يتردد إليهم في حصني ذي مرمر والعروس، وفي شعبان من العام 612هـ كانت وفاته، قام بعده حنظله بن أبي سالم المحفوظي الوادعي، توفي هذا الداعي في ربيع الأول 626هـ، وذلك قبل شهر واحد من قيام الدولة الرسولية. .. يتبع