انتهت الدولة الصليحية بوفاة الملكة سيدة بنت أحمد 532هـ / 1138م، فاستعادت الإمامة الزيدية بذلك جزءًا من عافيتها، جدد حضورها الشاب الطامح أحمد بن سليمان، أعلن الأخير في ذات العام من الجوف نفسه إمامًا، وتلقب بـ (المُتوكل)، وأجابته بعد تلكؤ قبائل الجوف، وصعدة، ونجران، وبلاد الظاهر، ووداعة، وعيان. ظلت في المُقابل الإسماعيلية كدعوة حاضرةً في كثير من المناطق، وكان لها دولتان، آل زريع في عدن، وإلى حدٍ ما آل اليامي في صنعاء، أجمعت في الأخيرة قبائل همدان على اختيار حاتم بن أحمد بن عمران اليامي سلطانًا عليهم، بدلًا عن حمّاس بن القبيب الذي اختلف أخوته بعد وفاته، ليعاود ابنه محمد فيما بعد الظهور بدعم قبلي، ولكنه كان ظهورًا خافتًا سريعًا ما تلاشى. وفي عدن، وفي ذات العام أيضاً، تفرَّد سبأ بن أبي السعود بن زريع بالحكم، وبدأت بذلك مرحلة حكم الأسرة الواحدة، اسرة (بني زريع)، وهي التسمية التي شملت الحكام السابقين أيضاً، وكان هذا الملك قد تولى من قبل أمر الدعوة الإسماعيلية الحافظية - نسبة إلى الحافظ عبدالمجيد الفاطمي الخليفة الجديد - مُعارضًا للملكة سيدة التي انفصلت بعد مقتل الآمر بأحكام الله عن الدولة الفاطمية 524هـ، وتبنت الدعوة الطيبية - نسبة إلى الطيب ابن الخليفة القتيل، الذي تم التنكيل بأنصاره، واختفى صغيرًا - وهكذا صار للفاطميين خليفتان: مستور، وظاهر، وتوزع الإسماعيليون في اليمن تبعًا لذلك بين الجانبين. كانت الدعوة الحافظية بادئ الأمر هي الأكثر حضورًا، تجاوزت الجغرافيا الزريعية إلى حراز، وصولًا إلى نجران، وحين توفي داعيها الأول سبأ بن أبي السعود، وذلك بعد مرور سبعة أشهر من تفرده بالحكم، آل الأمر لولداه الأعز، ثم محمد 534هـ، والأخير أشهر سلاطين بني زريع، وهو من تولى أمر تلك الدعوة أيضاً، ونُعت بـ (المُعظم المتوج المكين)، وقد امتد نفوذه - كما سيأتي - إلى المناطق الوسطى. وبخصوص الدعوة الطيبية، فسبق أنْ عينت الملكة سيدة الذؤيب بن موسى الوادعي داعيًا مطلقًا لها - أي لتلك الدعوة التي لا تزال قائمة حتى اللحظة - وللإمام المستور بمعنى أدق، وهو - أي الوادعي - أول الدعاة في هذا المسار الأكثر غموضًا، ليخلفه بعد وفاته إبراهيم بن الحسين الهمداني 536هـ، استقر هذا الداعي في صنعاء، تحت حماية السلطان حاتم اليامي، وقد كان الأخير - بشهادة بعض المُؤرخين - ذا نزعة تحررية من جميع المذاهب؛ بل وبعيد كل البعد عن أي ارتباطات خارجية؛ ولهذا لم يتدخل الداعي الإسماعيلي الجديد في شؤون حكمه بتاتًا. وبالعودة إلى أخبار الإمام الزيدي أحمد بن سليمان، فقد ظل بداية عهده مُتنقلًا ما بين الجوف ونجران وصعدة، لم يحظ بتأييد بني عمومته؛ الأمر الذي قاده بعد عشر سنوات من الصراع إلى التنحي. عقد العلويون مُؤتمرًا كَبيرًا في منطقة مدر بالبون، حضره 1,800 منهم، وكبار أنصارهم صفر 545هـ، وناقشوا فيه أسباب خمول دعوتهم، وانكماشة دولتهم، وبتحشيد من الشيخ محمد بن عليان الخولاني اختاروا ابن سليمان إمامًا مرة أخرى. تلافيًا لانتكاسات دعوته الأولى، قرر أحمد بن سليمان التوجه جنوبًا، ولم يعدم المُبررات المُحفزة لذلك؛ التي كان أهمها طلبه الثأر لدم صاحبه محمد بن عليان شيخ الزّيدِيّة في تلك الفترة، الذي لقي مصرعه في سوق سهمان بنهم على يد رجل من قبيلة يام الشمالية، واتهم السلطان حاتم اليامي بضلوعه في ذلك، توجه - أي الإمام - في البدء صوب عمران، ومنها إلى الجوف، جمع الحشود، وسار بهم أواخر العام 545هـ إلى بيت بوس، وهناك انضمت لمُناصرته قبائل بني شهاب، وحضور، وجنب، وعنس. كان الشيخ القتيل واحدًا من كبار علماء المُطرَّفية، وتبعًا لذلك فقد ساندت تلك الجماعة أحمد بن سليمان بـ 1,400 مُقاتل، وكانوا - حسب شهادة كثير من المُؤرخين - دعامة دعوته الثانية، وكان زعيمهم محمد بن عبدالله الشهير بـ (العفيف) من أبرز أنصاره، ولولاهم ما توغل جنوبًا، وقد اختلفوا فيما بعد، ورد لهم الجميل بأنْ كفرهم، وقال عنهم: «المُطرَّفية جمع أخبث الخصال مُخالفين للبرية.. خرجوا من جملة المسلمين، وفارقوا أهل ملة الإسلام، فلا يحل مناكحتهم ولا ذبائحهم..». استاء السلطان حاتم اليامي من التوغل الإمامي، جمع همدان وسنحان ونهد وغيرهم، وخرج بهم إلى سفوح بيت بوس، وهناك دارت أولى المُواجهات، توسع بفعلها الصراع، وزاد من تعميقه أكثر خلاف اليامي وابن سليمان المذهبي، وطموحاتهم التوسعية في ميراث أراضي الدولة الصليحية. صحيح أنَّ دولة الإمامة لم يكن لها حدود ثابتة حينها، إلا أنَّ عددًا من المُؤرخين أكدوا أنَّ بركة الجوب بقاع البون كانت الحد الفاصل بين دولة الإمامة الزّيدِيّة ودوله آل اليامي الإسماعيلية المُمتدة إلى منطقة الحدا جنوبًا، وفي ذلك إشارة عابرة إلى أنَّ ابن سليمان هو البادئ في التوسع، ثم الاعتداء. حاصر أحمد بن سليمان مدينة صنعاء، ومن بيت بوس أرسل إليها بأحد جواسيسه لمعرفة أحوالها، ولتحريض الزّيدِيّة فيها، مُتذرعًا بشراء بعض الصابون والورق، إلا أنَّ حاتم اليامي فضح أمر الجاسوس، وصفح عنه، وأرسل معه شعرًا، خاطب فيه مُرسله قائلًا: أبالـورق الطلحي تأخذ أرضنا ولم تشتجر تحت العجاج رماح وتأخذ صنعاء وهي كُرسي مُلكنا ونحـن بأطـراف البــلاد شحاح خذلت همدان سلطانها، وخذلته أيضاً الزّيدِيّة من سكان المدينة المُحاصرة، فتمت لابن سليمان السيطرة عليها، وعاث فيها نهبًا وخرابًا، وقال حاتم اليامي في هزيمته شعرًا نقتطف منه: غلبنا بني حـواء بأسًا ونجدة ولكنا لم نستـطع غـلب الدهر فلا لوم فيما لا يطاق وإنما يلام الفتى فيما يطاق من الأمر بعد أن رفع راية استسلامه، توجه حاتم اليامي شمالًا إلى الروضة، فنسبت إليه، ليتمكّن في العام التالي - وبعد مُحاولتين فاشلتين - من استعادة صنعاء، وذلك بعد أن طلب الدعم من آل زريع في عدن، ومدوه بكثير من الأموال، اشترى ولاء بعض القبائل، وحقق بعض الانتصارات، وأجبر أحمد بن سليمان على العودة إلى الجوف، وانشغل بالعمران، وأعاد بناء قصر غمدان الذي لم يكن له شبيه في البلاد. وبالعودة إلى أخبار سبأ بن أبي السعود بن زريع، فقد امتد نفوذه هو الآخر إلى مخلاف جعفر، وذلك بعد أن اشترى 28 حصنًا ومدينة من منصور بن المُفضل بن أبي البركات وريث الدولة الصليحية 547هـ، ليستقر في العام التالي بمدينة جبلة، وبعد عامين كانت وفاته، وخلفه بالملك والدعوة ولده عمران. وفي الجانب الآخر، ظل جزء من محيط مدينة صنعاء بيد بعض القبائل الموالية لأحمد بن سليمان، وظل الجزء الآخر بيد حاتم اليامي؛ وتبعًا لذلك فقد استمرت المُناوشات بين الجانبين، التقيا في بلاد الخشب بأرحب، واتفقا بمساعٍ من القاضي نشوان الحميري على إنهاء الحرب رجب 548هـ، وترك الحُرية المذهبية لسكان المدينة المنكوبة. وفي منتصف عام 549هـ، توجه أحمد بن سليمان لحرب قبيلة يام الهمدانية الإسماعيلية، وعنها قال كاتب سيرته مُفتريًا: «وكان من أمرهم وما فعلوه من المُنكرات، وإطراح المشروعات، أنَّه ما بقي منهم من يصوم رمضان، وارتكبوا الفواحش، وجعلوا لهم ليلة سموها ليلة الإفاضة، فيرتكبون فيها الأخوات والأمهات والبنات، ويفضي بعضهم إلى بعض، فلا يبقون شيئًا من المُنكر إلا يفعلونه، ويشربون الخمر، ويدمنون على شربها..»! وعلى ذات المنوال التحريضي، ذكر المُؤرخ يحيى بن الحسين أنَّ إحدى الأمهات أتت إلى الإمام أحمد بن سليمان تشتكي ولدها الذي وطئها في ليلة من ليالي الإفاضة السابق ذكرها، وهي - أي ليلة الإفاضة - لا أساس لها من الصحة، ولم تكن سوى تلفيقات إمامية مُقززة، تكررت كثيرًا في كتب مُؤرخيهم، وما تزال ألسن العوام - للأسف الشديد - تتحدث بها إلى اليوم. أحمد بن سليمان نفسه لجأ إلى ذلك الأسلوب الدعائي الرخيص، مُكررًا سلوك من سبقه من أئمة، وقال مُهددًا: لست ابن أحمد إن تركت زعانفًا يتبخترون وينـكحـون سفاحا يتــواعــدون لكل ليـلة جمعة فإذا تلاقوا أطفـأوا المصبـاحا بالمشـرفية والمثقـفة الظـما والأعوجيـة أبتـغى الأرباحا لا بالسـلو مـع القيان وقـــوله هاك اضربي دفًا وهاتي راحا وهكذا، وبعد أنْ أوجد المُبرر الديني المُحفز لحروبه العبثية، استنهض أحمد بن سليمان القبائل الشمالية، وتوجه بها إلى غيل جلاجل؛ نكل بالإسماعيليين شرَّ تنكيل، قتل من قتل، ونهب أموالهم، وأجلى من نجا منهم إلى نجران، وظل عساكره يهدمون منازلهم لثلاثة أيام، وقال عن ذلك مُتباهيًا: الله أكبـر أي نصــر عاجـل من ذي الجلال بفتح غيل جلاجل فاستعجـلوا حتى تنازع جـذبهم ووقفت في أعـقـابهم للحابل فتمكّنـوا من أرضـهم ومتـاعهم مـن بعـد قـتـل ثــم هـدم منازل أجليتـهم مـن أرضهم وبلادهم ولعـــلها تـأتي ثـلاث مـراحل استعر الخلاف بعد ذلك بين الـمُتوكل أحمد بن سليمان وسكان مدينة صعدة 551هـ، حاصرهم، ثم جنح بعد سبعة أشهر لمصالحتهم، بعد أن علم بمحاربة حاتم اليامي لعماله في بلاد همدان، وكان الأخير قد استغل أحداث صعدة، وقام بتوسعاته تلك؛ لتتجدد بذلك الحرب بين الجانبين. اتجه أحمد بن سليمان صوب ذمار، أقام فيها تسعة أشهر، حتى اجتمع له منها 1,800 مُقاتل، وقيل أكثر من ذلك، جلهم من قبيلة جنب التي انقسمت حينها بينه وبين حاتم اليامي، استعد الأخير للمواجهة، وفي منطقة شرزة بسنحان دارت معركة كبرى شعبان 552هـ، انتصر فيها الإمام الزيدي، اجتاح صنعاء، وأمر بِهدم قصر غمدان حديث البنيان، وفي ذلك قال محمد بن عبدالله الحميري: وسرنا لغمــــدان المنيف فأصبحت ذوائبــــه في التـــــرب ثاو مشيدها وأضحى ابن عمران المتوج حـاتم يقـــــول ألا عفـــوًا فلست أعودها رغم انتصاره، لم تستمر سيطرة أحمد بن سليمان على صنعاء كثيرًا، لتتجدد في مطلع العام التالي المُصالحة بينه وبين حاتم اليامي على نفس شروط المصالحة الأولى، التقيا في وادي عجيب بريدة، بعد عدة مراسلات، كان فيها كثير من الاستهجان والمنافرة، قال ابن سليمان في إحداها: إذا كنت لا تدري بما فيك من جهل فذاك إذًا جهل مضاف إلى جهلِ ومن جحد الرحمن والرسل لم يـكن بمعتـرف يـومـًا بحق بني الرسلِ فرد حاتم اليامي عليه: لنا النهي فيـما حـرَّم الله والزجر وليس لكم نـهـــي هنـاك ولا أمر فلا زال ذا فينا وذلك فيـكم مدى الدهر حتى يأتي الحشر والنشر ومن أقوال أحمد بن سليمان التي تؤكد منهجه، وشدة عداوته لحاتم اليامي، قوله: «فلذتي في الدنيا قتاله وقتال أمثاله من أعداء الله تعالى، وقد نغصت عليه وعلى غيره من أهل الدنيا دنياهم في كل ناحية، ولي اليوم نيف وعشرون سنة، كلما فرغت من حرب قوم من الظالمين، قمت بحرب آخرين من أعداء رب العالمين، وإني لا أبرح كذلك حتى أموت»