هجر الأمة للقرآن حقيقة قرآنية، أكدها الله قرآناً يُتلى، وأكدها قول رسوله، بأن أمته اتخذت نور الله وهديه ونوره وصراطه المستقيم مهجوراً، كشأن كل من سبقهم من أهل الكتب السابقة، التي أضاعت كتبها، وبدلتها، وحرّفتها، وبالرغم من تولي الله حفظ ذكره دون تحريف، إلا إن أمة الرسالة المحمدية الخاتم، هجرت كتاب الله وهو في أيديهم محفوظ محافظ عليه، وتمسكت بأقوال بشر، تخالف كتاب الله ودينه، وصراطه المستقيم، وبلاغ رسوله الكريم، فدخلت الأمة دورة الضياع، والصراع والشقاق والحروب، بسبب هذا الهجر، والتبديل، والتحريف، والتزوير، فتحول الدين من دين الله الواحد لأديان المذاهب، والمذهب تحول من رأي بشري في نص ديني، لدين يتم التعبد فيه، والقتال في سبيله، فانقسمت الأمة الواحدة، ذات الدين الواحد، والكتاب الواحد، والرسول الواحد، والقبلة الواحدة، لسنة وشيعة، وانقسم السنة لمذاهب ، والشيعة لمذاهب ، وهجروا كتاب الله ودينه المؤلف بين قلوبهم، والذي جعلهم، أمة واحدة، لهم رب واحد، ورسول واحد، وصلاة واحدة، لقبلة واحدة.
يقول سبحانه يصف هجر أمة الرسالة للقرآن (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) الفرقان ٣٠.
ومن هذا الهجر والتحريف والتبديل، المفرق والممزق للأمة، نشأت آراء فقهية، تخالف قول الله، وتعمد مناصروها، إلى تأويل آيات الله، بتعسف خارج مدلول الآيات، لإسناد آرائهم الفقهية والسياسية والعنصرية في الحكم، بشرعية دينية، ورافق هذا الأمر تصارع قريش ببطونها الهاشمية بفرعيها "الطالبي" نسبة الى علي ابن أبي طالب والعباسي نسبة الى "العباس" "والأموي" نسبة لأبي سفيان، على من يحكم دولة المدينة، وكانت بوابة الدعوة للوصول الى مركز السلطة، عبر الحصول على شرعية دينية لتؤكد أحقية أحدهم دون الأخرين، واضفاء صفة الشرعية على هذه الدعوى يستند على آيات الرسالة وعلى أحاديث النبوة، لإيجاد غطاء ديني يعطي الحاكم صفة الشرعية.
من هنا بدأ تأويل الآيات والأحاديث لإخراجها عن مقاصدها، وبترها عن سياقها الذي قيلت فيه، ونناقش نموذجه في هذه المقالة، وبدأ التحريف والتزوير ووضع الأحاديث، التي أنتجت لنا معاناة الأمة طوال تاريخها فكما يقول الشهرستاني (ما سل سيف ولا سفك دم في مسألة دينية كالإمامة).
وهذا الفقه المغلوط يؤكد الدور الذي لعبته العصبية والصراع على الحكم وتغطيته شرعياً، في تأثيراتها على الفقه المغلوط، بتأويل آيات كتاب الله، والتقول على رسول الله (ص) ومنها تأويل مفهوم "أجر المودة في القربى" لخلق هالة من القداسة والتقديس، للعنصرية ولتميز من يدعون القرابة للرسول (ص)، وشرعنة حكمهم، وفي سبيل ذلك تم تحريف وتبديل، دلالة وحقيقة "أجر مودة القُربى" القرآنية، إلى دلالة مزيفة ومغايرة لمقصد الله وكتابه ورسوله، وتندرج ضمن الدعاوى الكاذبة الأخرى أمثال " الولاية – والإمامة- والوصية وأهل البيت- وآل محمد" وكلها عناوين فقهية، تؤسس لسلطة العنصرية الهاشمية وهيمنتها، هذه العنصرية التي جعلت دين الله، ديناً عنصرياً قبلياً قرشياً هاشمياً، وأنزلته من عالميته وإنسانيته، إلى محلية أهل البيت، وآل محمد، وقرابة الرسول من بني هاشم، وحصر الأمر(الإمامة) في البطنين (الحسن والحسين) رضي الله عنهم وحصر الحصر في الحسين وبنيه رضي الله عنهم، وأدت هذه الأسباب مجتمعة لتمزيق الأمة المؤمنة، وقيام الحروب والكراهية، بين شعوبها ودولها.
إن حقيقة أجر "المودة في القربى" في كتاب الله، مغايرة تماما ولا علاقة لها بما يقوله الفقه المغلوط، بأن مودة قرابته عليه الصلاة والسلام، وأنها من أصول الدين وواجباته وأوامره، وعلى المؤمنين تكليف شرعي ملزم، لمودتهم وحبهم وتقديسهم، للقرابة المزعومة، لأنه أجر طلبه الرسول منهم، مقابل تبليغه دين الله لهم، وليس أجره على الله كما نصت عليه العديد من الآيات.
وتؤكد الآيات في كتاب الله معنى "أجر المودة في القربى"، بأنه مختلف تماماً عن هذه الدلالة المغلوطة، التي تبنتها سلطة الحكم الهاشمية والقرشية، لشرعيتها الدينية في الحكم.
ولكي نتبين هذا الخلط والتحريف علينا ما يلي:
أولا: ترتيل آيات الله التي تتحدث عن "أجر الرسول".
وهي حوالي ١٣ آية والتي تنفي بالمطلق، أنه سأل أجراً له، أو لقرابته، أو مودتهم من المؤمنين، وعلينا ثانيا: استخراج المعنى المقصود قرآنياً لمصطلح "أجر المودة في القربى" الذي ذكره الله في سورة الشورى آية ٢٣ والذي تم تأويله تأويلاً مغلوطا.
أولاً: ترتيل الآيات القرآنية التي تؤكد النفي المطلق بأن الرسول (ص) سأل الأجر له أو لقرابته:
١- "ما سألتكم عليه من أجر إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ" تكررت ٣ مرات كما يلي:
(فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) يونس ٧٢.
(وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۚ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ إِنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَٰكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ) هود ٢٩.
(قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) سبأ ٤٧.
٢- "وما أسألكم عليه من أجر إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ" تكررت ٥ مرات كما يلي:
(وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الشعراء ١٠٩.
(وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الشعراء ١٢٧.
(وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الشعراء ١٤٥.
(وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الشعراء ١٦٤.
(وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الشعراء ١٨٠.
٣- "لا أسألكم عليه أجراً إن أجري على الذي فطرني" تكررت مرة واحدة كما يلي:
(يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) هود ٥١.
٤- "لا أسألكم عليه أجراً" تكررت مرة واحدة كما يلي:
(أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ) الأنعام ٩٠.
٥- "ما أسألكم عليه من أجر" تكررت مرتان كما يلي:
(قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا) الفرقان ٥٧.
(قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) ص ٨٦.
مما سبق نجد ١٢ آية كلها تنفي نفياً قاطعاً أن رسول الله يطلب أجراً مقابل تبليغه ودعوته لدين الله.
٦-" أجر المودة في القربى" تكررت مرة واحدة كما يلي:
(ذَٰلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۗ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ۗ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) الشورى ٢٣.
ثانيا: معرفة المعنى الحقيقي لأجر المودة في القربى.
وهو الذي ورد في آية الشورى كما ذكره الله، والذي نجد تفصيله بترتيل آيات "ما أسألكم من أجر" "لا أسألكم من أجر" حيث نجد الآيات التي تؤكد نفي الأجر من الناس بالمطلق، تكررت اثنا عشر مرة، كما هو واضح في الآيات السابقة، وآية واحدة فقط تسأل أجر المودة في القربى، هي آية الشورى، وقطعاً المعنى الذي ذهب إليه الفقه المغلوط بمودة قرابته (ص) لا يمكنه أن يلغي عدد ١٢ آية نافية للأجر من المؤمنين، ومؤكدة أن أجره على الله، وعلى رب العالمين، وهذا يلغي وينفي ويخالف، المعنى الشائع عند الناس من الفقه المغلوط، بأن على المؤمنين مودة ومحبة قرابة الرسول محمد (ص) مقابل دعوته لهم، وحقيقة المعنى المتسق مع الدين والآيات، أنه عليه الصلاة والسلام، يسأل قومه أن يودوا قرابته هو ، ويتركوه ينشر الدعوة ولا يمنعوه، بحق هذه القرابة، وذهبت أقوال الكثيرين من المفسرين لهذا المعنى ونستشهد هنا بقولين للدلالة:
١- قال ابن عاشور رحمه الله: (معنى الآية على ما يقتضيه نظمها: لا أسألكم على القرآن جزاءً إلا أن تودوني، أي: أن تعاملوني معاملة الود؛ أي: غير معاملة العداوة؛ لأجل القرابة التي بيننا في النسب القرشي.. وما فسَّر به بعض المفسرين أن المعنى: إلا أن تودوا أقاربي، فهمٍ غير منظورٍ فيه إلى الأسلوب العربي، وإنما سألهم المودة، لأن معاملتهم إياه معاملة المودة معينة على نشر دعوة الإسلام، إذ تلين بتلك المعاملة شكيمتُهم، فيتركون مقاومته، فيتمكن من َتبليغ دعوة الإسلام على وجه أكمل.
٤- وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾، قال: (كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة في جميع قريش، فلما كذبوه وأبوْا أن يبايعوه قال: ((يا قوم، إذا أبيتُم أن تبايعوني، فاحفظوا قرابتي فيكم، لا يكن غيرُكم من العرب أَولَى بحفظي ونُصرتي منكم).
من كل ما سبق لا صحة لمودة اهل البيت وقرابة الرسول(ص) كما يزعمون ويكذبون.