في الباص الذي كنا نستقله دار حوار افتتحته أنا مع بعض الركاب الذين بجانبي، بكل عفوية عن تجارة النفط المنظمة، التي تعكس أحد اوجه الفساد المستشري في البلد، والتي يطلق عليها البعض مجازاً "السوق السوداء" في حين يعلم الجميع أنها غسيل أموال وتتم بإشراف من يتربع على كرسي السلطة في صنعاء، لكون العملية تتم أمام انظار الناس وبأسعار مضاعفة، بينما السوق السوداء تتم في الخفاء بعيداً عن أنظار الناس، دون إشهار لنوع السلعة أو سعرها، وهذا هو الفرق. ثم توغلت في الحديث عن الفساد عموما، وعن العبث الذي تمارسه سلطات صنعاء في كافة مرافق الدولة، من نهب لإيرادات الأوقاف والضرائب والجمارك، التي يتم تقنين جبايتها بأسعار مضاعفة بالمخالفة. وفوق هذا لم ينعكس ذلك الارتفاع على أوضاع المواطنين من حيث مستوى الخدمات، من تعليم وصحة وكهرباء وماء وغيرها. كما تطرقت لموضوع المرتّبات المصادرة منذ سنوات و "التهمّج الوظيفي"، بالإضافة إلى عدة جوانب أخرى تُظهر تسلط المجلس السياسي وتصدّر المشرفين لعملية العبث الحاصل، ودور الاإعلام في تبرير كل تلك التجاوزات. واذا بأحد الركاب يصف كلامي لآخر من الجالسين معنا في الكرسي ذاته بـ"الحرب الناعمة "، يقولها بالفم المليان وكله ثقة، بينما يصرخ احد الجالسين أمامنا، موجها كلامه إلي، بعلو صوته يقول: أنت تثبّط المعنويات، مهدّدا بأنه.. سيقوم بسجني لولا أنه يخاف الله! ثم يقول، في سياق كلامه، الذي سمعه كل من في الشارع إضافة إلى من كانوا معنا في الباص، إنهم قدّموا شهداء، وإن جميع الأموال تذهب إلى الجبهات، وفي الوقت نفسه يريني إصابة سطحية اعتلت ظاهر يده.. وأظن أنه كان يريد أن يريني ما يطلق عليه أعضاء الجماعة "الرقم الجهـادي"، وهو ذلك السوار الذي يوضع حول المعصم يتوسطة رقم منحوت على قطعة معدنية. والطريف أنه مع كل كلمة أو جملة كان يقولها كان صوته يعلو أكثر وأكثر.. لم يكُن مني إلا أن جادلته بأسلوبه، وبصوت مرتفع، ينمّ عن الغضب العارم الذي اعتراني وقتئذ، ليس عن فساد الرأي بل بالأحرى عن الموقف ممّا يجري، مخبراً إياه بأننا جميعاً قدّمنا شهداء، في سبيل الوطن وليس في سبيل التقرّب من حزب أو جماعة، وبأن هناك آلاف الضحايا والجرحى من المواطنين، وطلبت منه حينئذ أن يناقش بمنطق، لا بتهديد ووعيد، وإلا فعليه بالصمت، طالما لا يوجد لديه كلام منطقي ومفيد يطرحه. في نهاية المشوار، وبعد وصولنا إلى نقطتنا الأخيرة سألته: من أين أنت؟ فلم يُجبْ عن سؤالي! ثم سألته ما اسمك؟ ولم يُجبني أيضاً! ثم قلت له أنا اسمي فضل الكهالي، من المناطق الوسطى، وتحديداً من أب، موظف مع وقف التنفيذ في احدى المرافق الرقابية، تلك المرافق التي لم تعد رقيبة على أحد، فمن يراقب من!؟.. لم يقول حينئذ سوى بضعة كليمات لم أفهم منها أي شيء. قبل أن أنصرف أعطيت سائق الباص أجرته. وأخبرني بأن مناقشة أمثال هؤلاء مضيعة للوقت.. كان غاضباً -هو أيضا- من الأسلوب المتخلف لأولئك الشباب، فأجبته بأني اعطيت الراكب الذي يريد أن يتقمص دور السجان معلوماتي كاملة، وليفعل ما بوسعه...