أطلقت اسرائيل حملة ضربات جوية وصاروخية غير مسبوقة ضد إيران من حيث الحجم والنطاق، بدأتها بضربة افتتاحية قطعت فيها رؤوس أبرز القيادات العسكرية بالجيش والحرس الثوري الإيراني والعقول النووية والاستراتيجية، وقائدي العمليات الداخلية (الحرس الثوري) ، والخارجية (فيلق القدس) المعول عليهما حماية الثورة وتصديرها في الداخل والخارج. ودمرت العملية في بدايتها بعض البنى العسكرية معلنة انها ضربة افتتاحية ضمن حملة قد تستمر لعدة أيام. أظهرت اسرائيل في العملية هيمنة استخباراتية وجوية واضحة واشتملت العملية على هجمات جوية وتخريبية داخلية وتحريك عملاء داخل إيران.
لماذا هاجمت اسرائيل في هذا التوقيت: بحسب بيان من الجيش الاسرائيلي أوضح فيه أن "المعلومات الاستخباراتية المتراكمة" على مدى الأشهر القليلة الماضية أشارت إلى أن برنامج الأسلحة النووية الإيراني "يقترب من الانتاج الفعلي للسلاح النووي". وان ايران تواصل جهودها "لإنتاج آلاف الكيلوغرامات من اليورانيوم المخصب" وإنشاء "مجمعات تخصيب لامركزية ومحصنة في منشآت تحت الأرض" ترقى إلى مستوى برنامج غير مشروع لتخصيب اليورانيوم إلى مستويات صالحة لصنع الأسلحة. وخلص البيان الإسرائيلي إلى أن إيران قادرة على تحقيق هذا الهدف في غضون "فترة زمنية قصيرة".
ووفقًا لمصادر بحثية غربية فقد "أظهرت معلومات استخباراتية كشفت عنها حديثًا أنه حتى أثناء مفاوضاتها مع الولايات المتحدة، كانت إيران "تُطوّر خطة سرية" لتسريع التقدم التكنولوجي في جميع عناصر برنامجها النووي، حيث يعمل علماء كبار "سرًا على تطوير جميع المكونات للوصول لإنتاج السلاح النووي قبل عقد الاتفاق"، وهو ما يفسر تطويل إيران في الوصول لاتفاق سريع ومحاولة التخلص من أي شروط تمنعها فعليا من إنتاج السلاح النووي.
كما اكدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران تُعاني من "تنصل ذريع" في الوفاء بالتزاماتها لإثبات افتقار برنامجها النووي إلى البعد العسكري. وفي الاسبوع الماضي في فيينا، وجدت 19 دولة أن إيران تُخالف التزاماتها بموجب معاهدة حظر الانتشار النووي - وهو أمر لم يحدث منذ 20 عامًا. ولم تؤيد إيران في هذا التصويت في مجلس محافظي الوكالة سوى روسيا والصين وبوركينا فاسو، صوتوا لصالح ايران من منطلقات سياسية وليست فنية.
صعدت ايران، مُعلنةً أنها ستُركّب أجهزة طرد مركزي متطورة جديدة في منشأة فوردو المدفونة تحت الأرض وبناء منشأة اخرى تحت الارض ايضا، لأغراض تتجاوز الاستخدامات المدنية. ويمكن القول إن إيران أرادت الوصول في برنامجها النووي إلى "نقطة اللاعوده" مما خلق مؤشرات واضحة بفشل الجهود الدبلوماسية لكبح برنامجها.
تبدو أهداف العملية الإسرائيلية واضحة وتتمثل في القضاء على القيادة العليا للقوات المسلحة الإيرانية وبرنامجها النووي؛ وتعطيل دفاعاتها الجوية لإفساح المجال لهجمات لاحقة؛ ومهاجمة مجمعات صواريخ أرض-أرض لعرقلة أي رد فعال؛ والأهم من ذلك، تدمير برنامجها النووي. ويبدو أن الضربات اللاحقة استهدفت ضباطًا عُيّنوا لخلافة من قُتلوا الليلة السابقة. مما يشير إلى أن إسرائيل تسعى إلى منع القيادة العسكرية الإيرانية من التعافي من الصدمة التي أحدثتها الضربات الأولى. كما أنها تُمثل بداية مرحلة جديدة تسعى إلى تحقيق تآزر بين العمل العسكري السري والعمل العسكري العلني المتقطع، بهدف عام يتمثل في تعطيل جهود إعادة بناء البرنامج في الفترة القادمة.
آفاق الدبلوماسية وتداعيات الهجمات يلوح في الأفق سؤالان مهمان: هل تُمهّد هذه الضربات الطريق لاستئناف الدبلوماسية النووية مع إيران بشروط أكثر ملاءمة؟. وإذا رفضت طهران عروض استئناف الدبلوماسية، فهل ستنتقل إسرائيل (ربما بتشجيع من الولايات المتحدة) إلى شنّ هجمات على قيادة النظام والبنية التحتية الاقتصادية للبلاد، لتسهيل تحرك الشعب الإيراني للإطاحة بالنظام الثيوقراطي الحاكم في إيران؟.
في اعقاب الهجمات مباشرة أعلنت طهران تعليق المحادثات التي كان من المقرر أن عقد جولتها السادسة في سلطنة عمان في 15 يونيو، ورغم رغبة طهران الشديدة في التوصل إلى اتفاق، إلا أنه من الصعب عليها أن تشرح للجمهور في الداخل والخارج سبب استمرارها في المفاوضات. حتى وزير الخارجية عباس عراقجي ابرز المتحمسين لاستمرار المفاوضات، حمّل الولايات المتحدة مسؤولية الهجمات. لكن سيناريو استئناف المفاوضات بعد حدوث التهدئة لا يزال هو السيناريو الأقوى ما لم تتهور إيران وتهاجم اصولا أمريكية او دول أخرى في المنطقة وهو ما يبدو أن إيران تعمل على تجنبه. وستستثمر الولايات المتحدة نتائج الهجمات لتحسين شروط الاتفاق التي من ضمنها إجراء عمليات تخصيب اليورانيوم خارج إيران لضمان عدم رفع معدل التخصيب عن معدلات الاغراض السلمية، وهو ما كانت إيران تراوغ فيه من قبل. وقد دعت الصين إلى وقف الهجمات واستئناف المحادثات، فالصين وروسيا يرى كل منهما ان في الحفاظ على النظام في ايران مصلحة لهما باعتباره يشكل عامل قلق لأمريكا لاعتبارات جيوسياسية بحته. في هذا الصدد قال الرئيس الامريكي دونالد ترامب عقب الهجمات ان "إيران يجب أن تتوصل إلى اتفاق قبل أن لا يتبقى شيئا"، وأضاف أن "اليوم هو الحادي والستين"، في إشارة إلى إنذاره النهائي الذي مدته ستون يومًا فقط.
ولكن المتأمل للطموح الإيراني الساعي في الحصول على الردع النووي لفرض خياراته بالمنطقة سيجد أنه من غير المرجح أن تنطفئ طموحات النظام النووية ويأمل النظام الايراني ان لا تقضي الهجمات على جميع قدراته التقنية ذات الصلة، وهو ما يعني استمرار الهجمات حتى اخضاع ايران على الرضوخ لاتفاق بشروط جديدة، وستواصل الولايات المتحدة امداد اسرائيل بالمعدات اللازمة والضغط على ايران بوضع سقف محدد لردود افعالها لتحاشي الاصطدام بالولايات المتحدة بشكل مباشر، وتحاشي تصعيد الضربات لتدمير المنشئات الاقتصادية ومنشئات البنية التحتية بشكل عام ورموزه المختلفة، وهو ما يخشى النظام في ايران من عواقبه التي قد تؤدي الى سقوطه.
موقف الدول العربية بحسب مصادر غربية، سبق أن طلبت دول الخليج بما فيها السعودية أثناء زيارة ترامب لها عدم ضرب إيران وحثه للضغط بهدف الوصول لاتفاق سلمي، وادانت الضربات الإسرائيلية على إيران كما ادانتها دول عربية أخرى، ويرجع سبب موقف الدول العربية إلى نهج ثابت بضرورة تخفيض مستويات التصعيد في المنطقة والسيطرة على الصراعات المسلحة فيها، وهذا النهج يصطدم باستراتيجية إيران نفسها بالدرجة الأولى مع الأسف.
خيارات ايران: رغم ان ايران لا تزال لديها خيارات للرد، صواريخ، ومسيرات، ووكلاء في دول عربية الا ان المتأمل يجد أن هذه الخيارات اصبحت محدودة، لماذا؟. ايران ليست دولة وطنية طبيعية مثل بقية دول العالم، يمكن ان تحشد شعبها خلفها في المعركة، وتحصل على تضامن جاد وحقيقي من أشقائها العرب والمسلمين، بل حكومة خاضعة لنظام ثوري سعى لفرض نموذجه الثيوقراطي الخميني داخل ايران بالدم والارهاب الامني والفكري والنفسي عبر ثورة من طبقات متعددة اجتماعية وسياسية ودينية وثقافية…الخ، وقدم متطلبات الثورة على واجبات الدولة، وقدم الولاء للثورة على الولاء الوطني للشعب والدولة. وسعى لتصدير النظام الثوري الخميني لتعميمه في العالم الإسلامي، والمنطقة العربية على وجه الخصوص، باعتبار أن السيطرة على العرب يعني السيطرة على العالم الإسلامي وفي المقدمة المملكة العربية السعودية التي تمثل الثقل الأكبر والقيادة المعنوية للعالم الاسلامي. وبالتالي فالنظام يدرك انه يواجه جبهات متعددة بطبقات مختلفة من العداء: ١: يواجه رفضا واسعا من الشعب الإيراني الناقم على نموذج الولي الفقيه، ويتعمق شعورا مستمرا ومتزايدا لدى الشعب الإيراني أن النظام لا يمثل طموحات الشعب ولا يسخر موارده الهائله لصالح الشعب، ويتناقض بشكل فج بين الشعارات التي يرفعها والواقع الذي يفرضه ويسير فيه، ويواجه النظام هذه المعضلة إلى جانب القمع، بالتوسع بشكل اكبر في خطابه الشعبوي، وحتى ادواته في إدارة الصراع مع اسرائيل شعبوية أكثر منها حقيقية فاعلة، وهو ما يؤدي إلى خيبة أمل حقيقية في نهاية المطاف في الجبهة الداخلية التي اخضعها بالدم والعنف، واسكت فيها كل صوت عدا الصوت الطائفي الثوري للولي الفقيه، وانشأ لحماية النظام المسمى الثورة الإسلامية جيش اسماه "الحرس الثوري". ٢/اما الجبهة الخارجية فهو يديرها استراتيجيا وفق نظرية اسماها "ام القرى" وتدرس في الجامعات والاكاديميات العسكرية الإيرانية تحت مسمى "مقولات في الاستراتيجية الوطنية"، وتتمثل هذه الاستراتيجيات في ادارة صراع جيوسياسي وطائفي يتصادم وجوديا مع البعض كالدول العربية وعموم المسلمين أو ما يحلو للبعض أن يسميهم السنة، ويتصادم جيوسياسيا مع البعض الآخر كالولايات المتحدة واسرائيل، مما جعل النظام يبدو غريبا وعدوانيا تصادميا ومعزولا في كل المستويات. أنشأ النظام لتصدير النموذج الخميني وادارة الصراع فيها فيلق ضمن الحرس الثوري اسماه فيلق القدس بحيث ينشئ اذرع مسلحة تتولى التصدي لهذه الجبهة وفق نظرية ام القرى المتمثلة في تصدير الثورة الخمينية، وتجييش المسلمين وفق الخطاب الثوري الشعبوي الخميني ضد أي استهداف عسكري خارجي لإيران، فيدفع الخارج بالخارج وتتفرغ الجمهورية الاسلامية لإدارة الصراع وهو ما فشل لسببين : ١/ غلوه الثوري الطائفي واستعجاله، واستخدام اذرعه للارهاب المفرط ضد العديد الشعوب لإخضاعها من خلال السعي إلى تطبيق نموذج ثورة الخميني الذي طبقه في ايران مطلع الثمانينيات، مما ادى الى ردود افعال كبيرة ضد هذه الاذرع المتمثلة في حزب الله بنسخه المتعددة والحوثيين والاذرع العراقية واذرع في دول اخرى لم تنخرط في الصراع بعد، واصطدامها بالقوى الإسلامية العربية الحية وفي مقدمتها انظمة عربية كانت في مقدمة المستهدفين. ٢/ اصطدام الاذرع بأسرائيل ومن خلفها الغرب وخصوصا امريكا، واعتبرت ايران السابع من اكتوبر تاريخا للاعلان عن المضي في صراعها الجيوسياسي، ووضع فاعلية نظرية ام القرى على المحك بتدشين الصراع الاقوى والاهم بالنسبة لإيران، وكان تدشينا خاطئا في توقيته، لأنه تم في الوقت الذي فقدت اذرعها اطمنئنان الانظمة العربية لها، كما فقدت تأييد الحاضنة الشعبية المطلوبة وثقتها فيها، مما سهل انكشافها، وبالتالي ضربها وتدمير قدراتها بسهولة نتيجة فقدانها لزخم التأييد والمناصرة المتوقعة. هذه النتيجة اوصلت نيران الصراع الجيوسياسي مع اسرائيل الى داخل طهران وقم واصفهان وغيرها، بدل اقتصارها على مناطق وعواصم عربية نيابة عن ايران كما كان متوقع بحسب فلسفة وخطة استراتيجية ام القرى الثورية الخمينية.
فعلى مستوى الجبهة الداخلية تجد المؤسسة الدينية نفسها (قيادة النظام الثوري الخميني) الآن في موقف دفاعي، ليس فقط لفشلها في حماية المدنيين وكبار قادة الجمهورية الإسلامية من الهجمات الإسرائيلية، بل عليها أيضًا أن تتحمل مسؤولية العواقب الأوسع للسياسات التي عزلت البلاد عن المجتمع الإقليمي والدولي الأوسع الذي يرغب الكثير من الإيرانيين بالاندماج والتعايش معه، واهدار موارد الشعب الايراني في خطط ثورية اقليمية وصلت للفشل، بحيث أدت الضربات إلى تفاقم التوترات المتصاعدة أصلًا، ويرغب الكثير من الإيرانيين بحسب مؤسسات بحثية متخصصة؛ إلى رؤية نظام سياسي جديد بدل النظام الثوري الخميني القائم المسمى بنظام الجمهورية الإسلامية، وهو ما يعمق الخشية لدى نظام الولي الفقية ويسبب ارتباك وتناقض في ادارته للصراع مع اسرائيل، ويتجنب نتيجة ذلك ادارة ردع فعال ضد اسرائيل خوفا من ردود افعال امريكية تؤدي الى تدمير بنية النظام، مما يمكن معه تشجيع حراك شعبي يؤدي للثورة عليه، خصوصا مع وجود فجوة كبيرة في الثقة بين النظام والشعب تتسع باستمرار. فالخيارات الإيرانية ستظل محكومة بخيار استراتيجي واضح يتمثل في الحفاظ على نظام الثورة الخمينية قائما، فهو في نظر قيادة النظام هدف الأهداف كلها وستتحدد خياراتها بناء على هذه الاستراتيجية. فمهما بدى للبعض أن النظام في إيران الثورة عقائدي لا يهمه التضحيات مهما عظمت باعتبارها مكسب أخروي، الا ان هذه النظرة في رأيي سطحية فالنظام في الحقيقة براجماتي يوظف العقيدة والدين وكل المقدسات لخدمة النظام نفسه، وغير مستعد ان يضحي بالنظام من أجل اي مقدسات حقيقية فهو اقدس المقدسات، وقد ادركت اسرائيل نقطة الضعف هذه ووظفتها توظيفا دقيقا، وضمنها رئيس وزراء اسرائيل في كلمته بعد الهجمة الأولى بغرض بث الرعب والقلق لدى النظام، ودفعه لتقديم التنازلات مقابل بقاء نظام الثورة الخمينية حاكما في طهران وعدم المساس به.
ماذا تريد إيران من برنامجها النووي: تريد إيران من برنامجها النووي امتلاك سلاح الردع النووي لحماية الثورة الإيرانية ومنع اي هجوم ضدها، بحيث يقتصر اي هجوم خارجي محتمل على وكلائها العرب فقط، ولا يتجاوزهم إلى إيران نفسها (أم القرى) وبالتالي امتلاك القدرة على التوازن مع اسرائيل ، مع التفوق عليها في الجغرافيا والسكان وشرعية الولاية على العرب؛ باعتبارها جمهورية إسلامية؛ فهي اولى بهم من غيرها وحتى من انفسهم باعتبار قائد الثورة يمثل نفس شخص النبي صلى الله عليه وسلم، واحتكار تمثيلها للمصالح الغربية والامريكية في المنطقة، وامتلاك القدرة على المضي في اسقاط الانظمة العربية والسيطرة على العالم الإسلامي من خلال الاذرع بأمان تام بالنسبة للجمهورية الإسلامية بعد أن استطاعت تأمين نفسها بامتلاكها سلاح الردع النووي الذي من شأنه قطع التفكير في شن اي عدوان عليها من الخارج بينما هي تعبث بالجميع.
انهيار استراتيجية أم القرى: في كل الأحوال فإن ما يهم إيران بالدرجة الأولى هو بقاء نظام الثورة الخمينية واستقراره وحمايته من السقوط الذي يواجهه حاليا من الجبهتين الداخلية والخارجية، والذي كانت تعتقد انها قد تجاوزت خطر الجبهة الخارجية إلى أماكن أخرى استثمرت أموال ومقدرات هائلة في نقل الصراع اليها منذ توقف الحرب العراقية الإيرانية في أغسطس ١٩٨٨م إلى اليوم، وفق استرايجية أم القرى، والتي يمكن الجزم اليوم بانهيار هذه النظرية وفشل استراتيجيتها، بعد ان وصلت النيران الى قلب ام القرى نفسها(ايران)، دون أن تملك اذرعها اي قدرة على الدفاع عنها، فقد سقط النظام في سوريا وتحطم حزب الله في لبنان والعراق وضعف في البحرين، ويلتف حبل المشنقة على الحوثيين في اليمن، وسيف ترامب موضوع على اعناق اذرع إيران في العراق، بينما البقية لا يستطيع أحد منهم رفع رأسه بشئ.