في حياة الأمة الإسلامية حدثان فارقان، الأول: انها تحمل الشهادة على الناس، بحملها وتبليغها رسالة الدين الخاتم بكتاب وحي الله، الذي به أكمل الله دينه وأتمه، وحفظه من كل تحريف، والثاني الأخوة الإيمانية، التي مثلتها هجرة الرسول (ص) وتأسيس دولة المدينة، ومثل التاريخ الهجري، عنوان الحدثين الفارقين.
تعاقبت على الأمة اعوام عديدة ودخلت عامها الجديد عام ١٤٤٥ هـ فما هو واقع الأمة التي عاشته وتعيشه. رسول الله أسوة حسنة في فهم دين الله، وكانت قراءته وتفاعله مع وحي الله الصالح لكل زمان ومكان، أول تطبيق عملي لدين الله في حياة الأمة، وفق مراد دين الله وتشريعه، فأنتجت هذه القراءة الأسوة الحسنة، أول نظام لدولة مدنية في تاريخ الإنسان، دولة تؤسس لحاكمية الإنسان والاستخلاف، وفق منهج الرسالة الخاتم، دولة تقوم على المواطنة، التي أساسها مبدأين الأخوة الإيمانية ( إنما المؤمنون إخوة) والأخوة الإنسانية (خلقكم من نفس واحدة) دولة تقوم على التعارف لا التباغض والكراهية، وتحول اسم القرية (يثرب) إلى إسم جديد (المدينة) تأكيداً لهذا التوجه، ولمدنية الإنسان وعالميته، ومدنية دولته، التي هي دولة ووطن لكل المواطنين، من مختلف الملل والنحل، المؤمنين والمشركين والمنافقين، تأكيداً للأخوة الايمانية والإنسانية للناس كافة، فتسمى رأس الدولة (أمير المؤمنين) كونهم أغلبية المجتمع، وتسمت مالية الدولة وخزينتها (بيت مال المسلمين) فهي لجميع ملل المسلمين وغيرهم، جميعهم لهم نفس الحقوق كمواطنين في دولة المدينة.
ووضع هذا الدين ودولته المدنية أسس وأنظمة جديدة، تمت صياغتها بميثاق المدينة، كتجربة أولى لدستور مدني، يربط الناس ببعضهم، ويحدد صِلاتهم وعلاقاتهم، وهي صلات جديدة، مغايرة ومخالفة لصلات مجتمعات العصبيات القبلية، فتحولت كل مسميات العصبيات القبلية القرشية، وقبائل مكة، لمسمى جديد، يوافق قيم ونُظم الدين الجديد (المهاجرين)، وكذلك تحولت كل مسميات العصبيات لقبائل المدينة إلى مسمى جديد هو الأنصار، ملغية بهذه التسميات عصر العصبيات، فاتحة أفاق التعارف والأخوتين الإيمانية والإنسانية.
إنه الدين الكامل التام الذي حفظه الله في كتاب وحيه، محددا فيه صراطه المستقيم وسبيله، واعدا المؤمنين إن اتبعوه، النصر والاستخلاف، والدور والريادة، وأنه سبحانه لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا. فما هو حالنا ونحن نودع عاماً هجرياً مضى، ونستقبل عاماً جديداً أتى، حالنا معيشة ضنكا، لا نصر، ولا ريادة، ولادور، ولا استخلاف للمؤمنين، سُبل الكافرين محيطة بنا من كل جانب، تنهب ثرواتنا وتمزق أوطاننا وشعوبنا، استبدلنا سبيل صراط الله المستقيم، بِسُبل الفقه المغلوط ومذاهبه، فتفرقت بنا السبل، واستبدلنا الأخوة الإيمانية، بالكراهية المذهبية، والأخوة الإنسانية بالعنصرية السلالية، هجرنا القرآن، فهجرتنا الحياة الكريمة، والعزة والسيادة، هجرنا هجرة الرسول، وأسوته الحسنة ودولة المدينة، وعدنا إلى عصبياتنا القبلية والمذهبية والعنصرية.
لم يعد لنا من العام الهجري غير التسمية، فلم يعد لهجرة الرسول، ودولته، دلالة ولا مدلول، ولم يعد للقرآن في حياتنا وجود، فَقَدْنَا بذلك الهداية والنور، وضِعْنَا في ضلام جهلنا بديننا وقرآننا، فحاقت بنا عصبياتنا وسبل الكافرين، وصرنا نقتل بعضنا، ويكفر كل منا الأخر، نمارس الإرهاب والتطرف، بهما ندمر اخوتنا الإيمانية مع بعضنا، وأخوتنا الإنسانية مع الأخر.
تتسارع الأعوام الهجرية، نستقبلها ونودعها، وحالنا كما هو، عام هجري آت والأمة هاجرة للقرآن، وهجرة الرسول، تدمرها العصبيات، وتعصف بها سُبل الكافرين. نسأل الله أن يكون عامنا هذا، عاماً تعود به الأمة لصوابها، وقرآنها، ودينها، وأسوة الرسول الحسنة، وهجرته، ودولته المدنية والإنسانية، وكل عام وانتم بخير د عبده سعيد المغلس ٣٠ ذي الحجة ١٣٤٤ هـ