- قبل الأفراج على الولد حمزة من سجن الأمن الحوثي (القومي سابقاً!) كنت كثيراً ما أردد على بعض الأصدقاء بأنني بعد الإفراج عنه سوف أغادر اليمن للبحث عن وطن! وكنت أعني ذلك تماماً.. ثم تم الإفراج عن حمزة بعد جهد جهيد ومتابعة مستمرة لأكثر من عام.. ومكلفة نفسياً بصورة غير متوقعة كما عرف ذلك كل من تابع.. وبعد بضعة أيام من الإفراج عنه.. قررنا حمزة وأنا مغادرة تعز إلى عدن.. ومنها اتجهنا إلى(القاهرة) التي غدت بمثابة وطن ثاني لكل يمني.. كما كانت كذلك في الأمس القريب والبعيد.. وكانت وجهتنا الأولى حمزة وذي يزن - الذي تواجد بالقاهرة قبلنا - وأنا.. هو مقر مفوضية اللاجئين التابع للأمم المتحدة.. حيث قدمنا طلباً للجوء.. وأرفقنا بالطلب أهم الأسباب والدوافع لذلك والتي منها.. تعرضنا للسجن والتعذيب والإذلال من قبل الميليشيات الحوثية.. بجانب استمرار مضايقتنا.. مرفقين بملفات تحتوي على وثائق تؤكد دوافع طلبنا بما فيها صورة من الحكم الجائر الذي أصدره الحوثيون ضدي.. وما حدث من ردود أفعال رسمية وشعبية عربية وأجنبية وتعاطف غير مسبوق.. خاصة قيام الحوثيين بسجننا الثلاثة.. إلى غير ذلك مما قدمناه للمكتب المذكور من أجل الحصول على لجوء إنساني بإحدى الدول الغربية والذي قبل ذلك كله.. واعداً بالعمل على تحقيق اللجوء بسبب الدوافع التي أشرت إليها.
- ولكن.. وأثناء انتظار الموافقة التي قد تقصر أو تطول.. وظهور تردد من حمزة مقابل تصميم من ذي يزن في المضي قدماً نحو رغبته باللجوء.. أفقتُ شخصياً وبصورة مفاجئة على تذكير الذات بأمرين اثنين.. مع أنني لم أجهلهما من قبل!
- أحدهما.. أن العمر الافتراضي للإنسان اليمني (مع الإيمان المطلق بأن الأعمار كلها بيد الله) لا يتجاوز الستين عاماً.. وشخصياً قد تجاوزت هذا العمر بخمس سنوات وبضعة أشهر.. بحمد الله وتوفيقه، وهو ما دفعني إلى التساؤل.. ماذا يا ترى سأجني من اللجوء وقد بلغت هذا العمر ؟! (أتحدث هنا عن نفسي فقط)
- والأمر الآخر.. هو أن اللجوء خارج الوطن لأي كان.. إنما يعني حسب تعبير الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل رحمه الله: "خلع جذر الشجرة من موطنها الأصل"، فاللاجئ بوجه عام يصبح مرهوناً لأرض جديدة هو يحتاجها وليست هي التي تحتاجه.. وربما يكون مرحباً به في البداية ولو على مضض.. خاصة إن كان يحمل قلماً أو فكراً أو مهنة علمية قد تكون مقبولة.. أو توجه سياسي محدد.. لكنه في الغالب ومع مرور الوقت.. أو عند تغيير بعض أهداف وتوجهات الدولة المضيفة، قد يصبح عبئاً على أرضه الجديدة، وربما يصبح بمثابة (رهينة) يُوظَّف بكل ما يُمثل لتحقيق بعض أهداف وتوجهات مغايرة لأهدافه وتوجهاته.. وقد يصبح تباعاً لذلك ضد وطنه بكل ما يمثله من قيم ومُثُل وليس فقط ضد نظامه! أكان اللجوء سياسي أو إنساني.. وإن كان اللجوء السياسي لدول عربية يعد أصعب بكثير.. بينما اللجوء الإنساني من النادر قبوله بمعظم الدول العربية.. وفي حال قبول دولة من الدول العربية لجوء سياسي ولأهداف وتوجهات تخصها.. فإن اللاجئ بها قد يتم استقباله فيها عند البداية من أعلى سلطة.. لكنه مع مرور الوقت يصبح عبئاً ثقيلاً عليها.. وليصل إلى وضع قد لا يجد من يرد على مكالمة تليفونية عليه.. خاصة إذا رفض الإملاءات التي قد تكون ضد أهداف وتوجهات وثوابت وطنه.. وقد يصل الأمر إلى منعه من الخروج من الدولة المُضيفة له.. وربما قد تتم مقايضته فيتم تسليمه إلى من ينتظر إعدامه أو سجنه!! وهذا هو ما يحدث غالباً في وطننا العربي الكبير كما هو معروف.. حيث الجانب الأخلاقي والإنساني خاصة بما يخص اللجوء يغيبان تماماً.. وما ذلك إلا لأن معظم الأنظمة العربية لا تزال رهن الدكتاتورية والنزعة القبلية. وهذا عكس اللجوء إلى بعض الدول الغربية بما في ذلك اللجوء الإنساني إليها.. فلربما قد يحصل اللاجئ فيها على بعض الفرص المادية أو المعنوية التي تنمي مواهبه وتتيح له حياة جيدة.. وإذا حصل الراغب باللجوء إليها بوقت مبكر من عمره.. فقد يحصل على الجنسية وينخرط بالعمل السياسي وصولاً إلى تقلده لمنصب سياسي بوطنه الجديد.. وذلك ما يصعب بل يستحيل حصوله عند اللجوء إلى دولة عربية.. هذا إن سلم من المضايقات وصولاً إلى الترحيل.. الخ.
- وفي كل الأحوال.. فإن وضع اللاجئ - أكان لجوءاً سياسياً أو إنسانياً. إنما يعني فعلاً الابتعاد عن جذوره وعن حياته الطبيعية والمألوفة التي يظل يتمتع بها داخل وطنه مهما كانت مرارتها وقسوتها!، لذلك.. قررتُ عدم اللجوء ولا التفكير فيه أياً كان حجم المتاعب والمحن داخل الوطن (أكرر هنا أنني أتحدث عن نفسي فحسب)
- ورغم أن مصر العزيزة هي دوماً بمثابة وطن ثاني لكل يمني فعلاً كونه لا يحس بغربة وهو مقيم بها ولا يعد بحكم اللاجئ فيها.. وهي فرادة استثنائية لمصر قيادة وحكومة وشعباً.. إلا أنني شخصياً أَجبرتُ نفسي على فراقها مؤقتاً ولأسباب تخصني، ولا بأس من الإفصاح عن بعضها لقارئ هذه الأحرف -إن وجد-!! والتي منها عدم قدرتي على ممارسة (الكتابة) للتعبير عما في الذات.. أو المساهمة عبر (الكلمة) في مناقشة بعض قضايا وهموم الوطن.. فقد ظللت أحاول أن أكتب خلال ثمانية أشهر قضيتها مؤخراً بالقاهرة دون جدوى.. رغم أن البيئة المصرية خاصة عاصمتها هي الأنسب للكتابة ولغيرها.. وربما قد يرجع ذلك لأسباب وعوامل واجهتها.. ساهمت في عدم الاستقرار النفسي الذي انعكس سلباً على بعض الجوانب المتعلقة بالبقاء.. ومنها عدم القدرة على الكتابة عكس القراءة، فقد قرأت خلال الفترة نفسها ثلاثة عشر كتاباً جديداً بمختلف الفنون.
- ولعل من تلك الأسباب ما حدث في بداية الأسابيع الأولى من الاستقرار المؤقت بالقاهرة. ممثلاً بالموقف السلبي غير المتوقع لسفير (الرئيس السابق) بالقاهرة.. فقد كنا حمزة وذي يزن وأنا تقدمنا بطلب إلى السفير بوساطة المستشار الإعلامي بالسفارة.. وذلك بالسماح لنا بعقد مؤتمر صحفي بقاعة (سبأ) بنفس مبنى السفارة.. بهدف كشف بعض أهم التجاوزات المشينة للمليشيات الحوثية التي تحدث داخل سجونهم ومن واقع التجربة التي مرينا الثلاثة بها.. حيث الحاجة لسرد بعض أهم ما يجب توضيحه لمختلف وسائل الإعلام والمواقع الإخبارية العربية والأجنبية المتواجدة في القاهرة والتي من شأنها أيضاً تعزيز توجهات ومكان ومكانة الشرعية التي يمثلها السفير رسمياً وتفيد الوطن بوجه عام.. إضافة إلى طلب بعض الزملاء وبعض الفضائيات من خلال التواصل الشخصي بنا.. فكان طلبنا من سعادة السفير السماح باستخدام قاعة (سبأ).. نظراً لصعوبة الحصول على قاعة أخرى بسهولة.. بسبب بعض الاجراءات الرسمية وغيرها هناك..
- وظللنا نتابع المستشار الاعلامي الذي فاجأنا بعد جهد بنقل اعتذار السفير ومضمونه، عدم رغبته بالسماح بفتح قاعة سبأ لعقد مؤتمر صحفي بها!! والسبب كما نقله لنا المستشار الإعلامي حسب تعبير السفير له كرد على طلبنا: "حتى لا يفتح المجال لكل من يرغب بما رغبنا به! " رغم الفارق الجلي الذي لا أخال السفير يجهله بين من سُجن وتعايش مع محن وتعرض للتعذيب والإذلال فأراد التعبير عن ذلك لمختلف وسائل الإعلام كما هو حالنا -حمزة وذي يزن وأنا - دفاعاً عن الوطن وشرعيته وفي مقر سفارتهم كوظيفة من وظائفها.. وبين غيرنا!!
- والذي حدث وتفاجأتُ به أكثر من (الاعتذار) حينما وصلتنا دعوة عبر (التليفون) وبعد أقل من أسبوع من اعتذار السفير.. تتضمن دعوتي لحضور محاضرة عن (اليمن الاتحادي) للدكتور حمود العودي.. والعنوان هو بنفس قاعة سبأ بمبنى السفارة.. وبالفعل حضرناها حمزة وأنا وكان السفير هو نفسه الذي قدم المُحاضِر والمحاضَرة.. وتكرر عقد ندوة أو ندوتين بنفس القاعة.. فقد وصلتني دعوة لحضور إحداها من الزميل الدكتور/أحمد الصوفي.. لست أدري عن مدى أهمية ذلك مقابل أهمية كشف بعض الحقائق على الحوثيين وسجونهم.. وإن كنت أميل إلى أهمية الحديث على الحوثيين وتجاوزاتهم في الوقت الراهن -حسب فهمي وليس حسب فهم السفير- مع احترامي وتقديري الجم للدكتور حمود العودي وللزميل الدكتور أحمد الصوفي ولغيرهما ممن يفضل السفير فتح قاعة (سبأ) لهم.. رافضاً فتحها لأمثالنا!!
- مع العلم أن الفائدة المرجوة لقاعة (سبأ) تلك قد تتمثل بفتحها للعزاء عند وفاة بعض علية القوم من اليمنيين ممن يتوفون بالقاهرة أو ممن كان السفير راضٍ عنه قبل وفاته! وهو العزاء الذي يتحول غالباً إلى لقاءات خاصة بما فيها تواجد بعض كبار مسؤولي الشرعية المتواجدين بالقاهرة ليحدث اللقاء معهم أثناء العزاء.. نظراً لصعوبة اللقاء بهم في أوقات أخرى إلا في النادر..
- لقد جاء رفض السفير بفتح قاعة سبأ لنا بالصورة التي أوضحتها آنفاً.. ثم موافقته على فتحها لغيرنا أحد أسباب عدم الاستقرار النفسي الذي مررت به في القاهرة والذي انعكس سلباً على البقاء بوجه عام.. وعلى عدم القدرة على الكتابة بوجه خاص..
- وهناك أسباب أخرى قد تكون أقل أهمية.. فقد كنت أتصور وجود لقاءات عامة بين بعض قيادات (الشرعية) المتواجدة بالقاهرة وبين بعض اليمنيين بمن فيهم بعض الزملاء الإعلاميين بالذات لمناقشة أهم ما يستجد على الساحة اليمنية وتبادل بعض الآراء ومعرفة بعض ما يتطلع إلى معرفته البعض على الوطن وغير ذلك.. وفي الحدود المسموح بها رسمياً! لكن ذلك لا يحدث حسب علمي.. باستثناء بعض اللقاءات شبه الخاصة ببعض (مقاهي) القاهرة!!، وربما يرجع ذلك لانشغال البعض بمهام غير المهام الرسمية التي يمثلها.. وربما لبعد معظمهم في السكن بأماكن بعيدة عن مقر تواجد وسكن غالبية اليمنيين المتواجدين بالقاهرة!! باستثناء مقر الشيخ سلطان سعيد البركاني -رئيس مجلس النواب- الذي فضل السكن بوسط (القاهرة) ليسهل وصول بعض اليمنيين إليه.. وهو ما يحدث فعلاً.. إذ بات مقر سكنه لا يخلو من زيارة بعض الشخصيات السياسية والثقافية والإعلامية والاجتماعية بين آنٍ وآخر -قبل مهامه الرسمية وبعدها- وهو عكس معظم قيادات الشرعية التي تسكن بأمكنة بعيدة قد لا يعرف مقرها معظم اليمنيين حسب علمي، ثم.. وجود (اختراق حوثي كبير) بين أوساط قيادات الشرعية وغيرها من اليمنيين بما فيهم بين زملاء إعلاميين ونشطاء سياسيين من المتواجدين بالقاهرة.. ولا أخال البعض بمن فيهم السفير يجهل ذلك الاختراق.. والذي قد يكون برضى وتواطؤ البعض حسب ما قيل!! مع أنني شخصياً لم أهتم بهذا الجانب كثيراً والذي لم تعد تخلو منه أية محافظة ولا مدينة محررة - ومنها التي عدتُ إليها وأكتب هذه الأحرف فيها.
- كذلك.. ليس هناك ما يستدعي بقاء أمثالي بمصر العزيزة طالما ولست مرتبطاً بمهام رسمية ولا خاصة كما هو حال بعض من يمارسون مهام تجارية أو خدمية أو غيرهما.. وكما هو حال بعض زملاء المهنة ممن يديرون بعض القنوات الفضائية سواء اليمنية أو المحسوبة على اليمن والتي تُبث من القاهرة.. أو إدارة بعض المواقع الإخبارية أو غيرها.. ولم أحظ كذلك باستضافة بعض الفضائيات اليمنية وغيرها -باستثناء مرة واحدة- كحال سهولة استضافة بعض الزملاء من قبل بعض الفضائيات العربية بالذات.. والتي غالباً لا تستضيف إلا من يقبل بالحديث بها بحسب توجهاتها وأهدافها، حتى بات بعض الزملاء يُستضاف بصورة شبه منتظمة ليصبح تباعاً لذلك بمثابة عمل شبه وظيفي لهم.. أكان ما يقوله ويدلي به يتوافق مع قناعاته أو لا يتوافق.. طالما والعائد المادي والحاجة إليه رغم ضآلته لدى البعض تدفعه لذلك.
- فأنا لست من هؤلاء المدفوعين بالبقاء بمصر العزيزة وإن كان ذلك لا يجب أن ينطبق على استمرار تواجد بعض قيادات (الشرعية) خاصة المئات من وكلاء الوزارات وبعض المستشارين ومن في حكمهم.. إضافة إلى أعضاء مجلسي النواب والشورى ممن يخشون العودة إلى الوطن أو لا يرغبون بذلك وهو الغالب.. مع أن كل المحافظات والمدن المحررة ليست مغلقة أمامهم.. ومن الأحرى العودة إليها طالما وهم موظفون رسميون.. فحب الوطن وصدق الانتماء إليه لا بد ان يسمو فوق الخوف وتقبل البقاء بالوطن أياً كانت الأوضاع القائمة حالياً فيه.. على الأقل يعودون إلى الوطن أسوة بالأخ رئيس مجلس القيادة وبعض نوابه وبالأخ رئيس الوزراء وبعض وزرائه.. رغم معاناتهم من بعض القيود التي تفرض عليهم صعوبة التحرك بالعاصمة عدن كما يجب -وإن لم يفصحوا عن ذلك علناً- والتي أرجو وأتطلع أن تنتهي تلك المعاناة عاجلاً وليس آجلاً، مع الاعتراف برغبة بعض قيادات بالشرعية بالعودة إلى الوطن وهي لا تتجاوز أصابع اليد لولا ظروف وأسباب قد تكون خارجة عن إرادتهم هم والقلة ممن هم بالخارج.
- وقد يكتفي بعض مسؤولي الشرعية من المتواجدين خارج الوطن بنشر ما يرغب بنشره في (وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة) مع أن تحقيق النصر على الميليشيات الحوثية وتحرير اليمن كل اليمن منها إنما يأتي من خلال التواجد داخل الوطن بجانب الجيش الوطني والمقاومة الشعبية والزيارات الميدانية بما فيها زيارة الجبهات لرفع المعنويات وليس من خلال الاكتفاء بالنشر عبر "فيسبوك" و "تويتر" و "واتس آب" و"ماسنجر" و "يوتيوب" وغيرها والتي لا يمكن التقليل من أهميتها في عالم اليوم لكنها قد لا تكون كذلك في وضع كوضع اليمن حالياً.. لتظل كما قال الشاعر:
" نبني من الأقوال قصراً شامخاً
والفعل دون الشامخات رُكامُ"
- ثم.. معايشتي أثناء الإقامة بالقاهرة مع ما يشعرني شخصياً بألم كبير حينما أقابل أو أشاهد بعض (الجرحى) و(المعاقين) ممن ينشدون العلاج وإلى درجة تسوله أو معايشة بعض من يعيشون حياة استثنائية بعرضها وجوهرها مقابل من ينشدون الحصول على بعض الضروريات الممكنة.. وبعضهم ممن قدموا تضحيات مشهودة ضد الاحتلال الحوثي أو خسروا ما كانوا يملكونه داخل الوطن.. ليجدوا أنفسهم شبه منسيين أحياناً.. أتعايش مع ذلك دون القدرة على تقديم يد المساعدة.. ومن الأفضل مفارقتهم والعودة إلى الوطن.. وهكذا.
- لهذه الأسباب المذكورة ولغيرها مما لم أفصح عنها.. فضلت مفارقة القاهرة مؤقتاً.. أجل (مؤقتاً) إذ يصعب - إن لم يستحيل- على أمثالي الاستغناء عنها طالما وفي الحياة بقية..
- لقد كانت تجربة (السجن) من أغنى التجارب التي مررت بها بحياتي.. كما أن ذكريات السجن ستظل تقتحم حياتي كل يوم.. بل كل ساعة منذ اختطاف حمزة من أحد شوارع صنعاء، ثم اقتيادي من مقر سكني بالعاصمة المحتلة مع ذي يزن وبقوة عسكرية وهجوم همجي غير متوقع ولا مسبوق.. فقد ظللت وأنا مع اثنين من أبنائي بسجن الأمن الحوثي (القومي سابقاً) أشعر بكل لحظة بدافع قوي بأنه في حال خروجي من السجن حياً لا بد أن أسرد للأجيال كتابة بعض ما حدث لي ولأبنائي ثم لزملائي ممن تعايشنا معهم داخل السجن.. براءة للذمة، وصوناً للمستقبل، ثم عظة وعبرة للتاريخ.
- وحينما عجزت على الكتابة (بالقاهرة) وبالصورة التي شرحتها بكل إيجاز هنا.. رغم أنها موطن العطاء الفكري والإبداع العربي.. ورغم أنني كنت قد اصطحبت بعض أهم الأوراق والمراجع المساعدة.. إضافة إلى أسباب ذكرت بعضها.. فضلت العودة إلى الوطن سواء لكتابة الكتاب الخاص بالحوثيين وسجونهم، أو لكتابة بعض أهم ما يستجد في الوطن بوجه عام.. خاصة وأن الكتابة داخل الوطن ومعايشة الأحداث عن قرب لا بد أن تعطي مصداقية أفضل من الكتابة خارجه.
- ورغم استمرار الحرب وما تخلفه من خراب ودمار في البنيان وفي النفوس والعقول.. وهو ما شاهدته من جديد بصورة أشد قتامة بعد عودتي الأخيرة إلى الوطن بما في ذلك استمرار حصار تعز وغير تعز وقطع الطرق وما يعانيه المواطن من غلاء في المواد الأساسية وارتفاع نسبة الفقر وغير ذلك من الكوارث والمحن التي عمت اليمن وشعبه لأسباب محلية.. ثم إقليمية ودولية.. إلا أنني رغم ذلك كله وبالثقة بالله أولاً والتي تؤكد لي أكثر من أي وقت مضى أن اليمن لا بد أن يتعافى منها إن عاجلاً أو آجلاً.. وإذا سقطت الدولة يوم انقلاب 21سبتمبر 2014م المشؤوم وسقطت تباعاً لذلك قوتها وعنفوانها.. فإن ذلك لا يعني أن كل سقوط نهاية، بل العكس.. قد يكون ذلك السقوط بداية لنهضة جديدة تعم اليمن كل اليمن خاصة وأن اليمن وشعبه قد مرا بمحن عديدة ومصاعب جمة، والشعب اليمني متعود على التحمل وبصورة يصعب بل يستحيل على شعب آخر أن يتحملها!! ويكفي أنه رغم استمرار (خرق) العدوان الحوثي للهدن المزعومة والمكررة وقيامه بضرب تعز ومأرب وغيرهما فإن ذلك لا يوقف الحياة بقدر ما يزيد من قبول التحديات والمضي قدماً نحو البناء والتعمير وبقدر المتاح!
كما أن (الميليشيات الحوثية) التي هي السبب الأول لكل ما بات يعانيه اليمنيون اليوم لابد أن تنتهي.. كونها ظلت منذ انقلابها على الدولة ولا تزال تمارس الجرائم البشعة ضد اليمنيين الواقعين في مناطق سيطرتها بما فيهم ضد بعض من أخلصوا لها في البداية بجانب قيامها بالاستيلاء على الممتلكات الخاصة والعامة من خلال استخدام القوة تحت حجج واهية.. ثم وهو الأهم فرضت قيماً وتوجهات وآراء غير مألوفة وغير مقبولة لدى الشعب اليمني لتظهر تباعاً لذلك المذهبية والمناطقية بأبشع صورهما وحرصت ولا تزال على تحطيم التجانس الاجتماعي بين أبناء الشعب اليمني الواحد من خلال الواقع المر الذي أوجدته، وهو ما أدى ولا يزال إلى كراهية ظاهرة ومستترة ضدها.. ثم.. لكونها مجرد (أقلية) لا تصل مع كل أتباعها -ومعظمهم مجبرون أو أميون- إلى 5% من مجموع سكان اليمن.. ومن النادر استمرار حكم الأقلية كثيراً في كل زمان ومكان.
كل هذه الجوانب التي هي بمثابة عوامل هدم وفناء والتي رافقت ظهور هذه الميليشيات من البداية لابد أن تكون سبب نهايتها مهما ظلت بعض المنظمات وبعض الدول الغربية وإيران (الفارسية) تساندها وتسلحها !!
كذلك.. مهما حاول بعض (الأشقاء)! استغلال بعض ما يواجهه الوطن اليوم.. فيتطلع إلى إخراج جزء يسير من أرض اليمن أو من مياهه أو جزره.. والعمل على تغيير بعض جغرافيته وحقائق تاريخه.. فإن ذلك لم ولن ينجح.. حتى ولو تحقق جزء ضئيل من رغباته.. فهو مؤقت حتما.. وما ذلك إلا لأن خريطة اليمن هي خريطة واحدة بشماله وجنوبه وشرقه وغربه كونها من أقدم الخرائط الموثقة والتي لا يجهلها أحد.. مهما حاول بعض من يدعون نصرتها ظاهرياً اليوم الحصول على موطئ قدم بصورة ثابتة!
كما ان الإنسان اليمني كما هو معروف عنه في كل زمان ومكان ينتفض بشدة أذا مُس متر واحد من أرضه أو سمائه أو جرى العبث بمياهه وببعض جزره.. وإن وجدت حفنة ضئيلة من بعض المحسوبين على الوطن من المصابين بمرض نقص المناعة الوطنية ممن باتوا اليوم يسهلون ما يضر الوطن وشعبه.. لابد أن يأتي الوقت الذي يدفعهم للإفاقة والندم!
فاليمن ظلت ولا تزال وستظل عصية على أعدائها، قوية أمام خصومها.. وما تعانيه اليوم هي مجرد أمراض وعلل سرعان ما ستزول بعون الله - وستتغلب حتماً بقدرة الله على القدر الجغرافي الذي وجدت نفسها فيه !!
ولا جديد إن كررت هنا بأنني ولا فخر لو لم أكن يمنياً لتمنيت أن أكون كذلك.. شأني بذلك شأن معظم اليمنيين.. فأنا يمني التوجه، وطني الفكر والأداء ولا فخر بذلك، وما ذلك إلا لأن اليمن كما أفهم ليس مجرد وطن نعيش فيه بقدر ما هو وطن يعيش فينا!
إنه مع عشقي لمصر وشغفي لتاريخها وحضارتها وعنفوانها وللهوى الإنساني اللامحدود بها.. ثم للألفة والمحبة وسرعة التأقلم والتآلف بين الشعبين الشقيقين اليمني والمصري.. إلا أنني رغم ذلك أكرهت نفسي على فراقها (مؤقتاً) كوطن ثاني للعودة إلى وطن أول.. وإن كنت أعرف مسبقاً ما يعانيه الوطن اليوم وما تعانيه بعض المحافظات والمدن المحررة من مصاعب عديدة والتي منها افتقارها لبعض الضروريات ولمعظم الكماليات وصعوبة التمتع بمجمل وسائل التواصل الاجتماعي بكل يسر.. إضافة إلى ما باتت تعانيه بعض المدن الرئيسية بما فيها أهم مدينتين عرفتا بالتمدن ونبذ العنف -أعني (عدن وتعز) - من انتشار للسلاح وحمله وبصورة غير مسبوقة.. مع وجود الاختراقات الحوثية التي باتت لا تخلو منها مدينة ولا منطقة محررة مع الفارق!
ومع ذلك كله.. كان لابد أن أعود إلى الوطن.. بل ودون مبالغة إن قلت هنا، بأنني حينما أتجول ببعض شوارع وأزقة عدن وتعز أشعر بحرية مطلقة وأحس بأمان استثنائي قد لا يكون مصدق لدى البعض رغم كل ما ومن فيهما!
وفي كل الأحوال.. قد لا أتحمل شخصياً فراق الوطن كثيراً أياً كانت المحاذير.. فأنا لست أفضل ممن يعيش داخل الوطن رغم ما بات يعانيه فيه.. بل لست بأفضل من الجندي المتواجد بالجبهات والذي رغم دوره العظيم يعاني الحرمان من بعض الضروريات الممكنة له ولمن يعول.. بجانب افتقاره إلى السلاح الذي يتطلع لاقتنائه من أجل قيامه في الدفاع عن الوطن بصورة أفضل وأشمل ..
ثم.. رغبتي من العودة أولاً وأخيراً لأهمية مشاركتي للعامة الأفراح والأتراح والتي هي لَعَمري الحياة الحقة والانتماء الصادق للوطن.
لقد خسرت جزء من عمري في الدراسة والتحصيل العلمي خارج الوطن وفضلت العودة إليه رغم الفرص المتاحة حينها.. حباً وانتماءً وإيثاراً وحرصاً على خدمته دون منٍ ولا أذى.. فذلك هو من أوجب الواجبات.. ولأن الوطن ظل في بعض فتراته بل ولا يزال يضيق بالأحرار ويعج بالفَسَدة والخانعين.. فلا غرابة أن أجد نفسي في وطني مقابل ما قدمته وفي آخر العمر، بدهاليز السجون والتخوين والحرمان.. ومع ذلك. أتطلع على الأقل ألا أخسر قبراً على ثراه.. وقد يكون هذا من بعض -إن لم يكن- من أهم أسباب العودة إلى الوطن.. فعدتُ إليه. والعَودُ أحمد.
_______________
يحيى عبد الرقيب الجبيحي
تعز.