لم تكن ثورة 23 يوليو 1952م المصرية حَدثًا عابرًا محدود التأثير؛ بل كانت نقطة تحول فارقة في مسار النضال الوطني الشامل، جذبت إليها الأحرار العرب من المُحيط إلى الخليج، وأنعشت إذاعتها إذاعة (صوت العرب) الروح القومية لديهم، وألهبت شعاراتها حماسهم، لتنتعش على وقعها ووقع خطابات الزعيم جمال عبدالناصر رغبات التحرر من الأنظمة الرجعية، والاحتلال الأجنبي، وهو ما كان.
حينما رأى الإمام الناصر أحمد يحيى حميد الدين ذلك المد الثوري الجارف يَتسلل إلى صفوف الشباب اليمنيين المُؤمنين بالحرية والتغيير، حاول أنْ يتماهى معه، وأنْ يقدم نفسه كعروبي أصيل، وشارك - تبعًا لذلك - الزعيم جمال عبدالناصر، والملك سعود بن عبدالعزيز لحظات إشهار ميلاد تَحالف عربي ثلاثي مناوئ لحلف بغداد، من مدينة جدة السعودية 20 أبريل 1956م، وحصل من المملكة العربية السعودية - كما أفاد أوبلانس - على 5,000,000 جنيه استرليني. أراد الإمام أحمد بموقفه ذاك أنْ يضرب عصفوريين بحجر واحد، فقد أراد أولاً أنْ يخرس صوت الأستاذ أحمد محمد نُعمان والقاضي محمد محمود الزبيري اللذان عاودا في مُنتصف العام السابق نشاطها من القاهرة، وحولا الاتحاد اليمني - كيان الأحرار الدستوريين الثالث - بعد سبع سنوات من تأسيسه من إطار جامد إلى جهاز عامل سياسيًا وطلابيًا وإعلاميًا، وأعادا إصدار صحيفة (صوت اليمن)، وألقيا خطاباتهم الحماسية عبر أثير إذاعة (صوت العرب). وأراد الإمام أحمد ثانيًا أنْ يُثبت ولاية العهد لولده محمد البدر، على حساب أخيه الحسن - المُنافس القوي، وصاحب الأنصار الكُثر، والذي سبق أنْ تخلص منه وعينه مندوبًا في الأمم المتحدة، وقد حاول - أي الإمام - أثناء زيارته تلك أنْ يُقنع حكام السعودية بذلك، ولكن دون جدوى. الجدير ذكره أنَّ الدعوة لولاية العهد كانت قد بدأت قبل تلك الأحداث بعامين، تحدث القاضي عبدالرحمن الإرياني في مُذكراته عن ذلك بإسهاب، وقال أنَّ المناضل إبراهيم الحضراني أخبره أنَّ الأحرار اتفقوا على أنْ لا سبيل للعمل الوطني إلا من خلال الأمير محمد البدر، ومن خلال بذر الخلاف بين الأسرة الحاكمة نفسها، وأنَّه على ضوء ذلك وبتكليف من ذات الأمير سارع في كتابة صيغة البيعة 10 مايو 1954م، ودعمها بالأدلة المُبررة للخروج عن المذهب الزيدي الذي لا يجيز ذلك، وأتبع ذلك بأخذ توقيعات عدد من العلماء. سارع الأمير الحسن - حاكم صنعاء حينها - بإرسال رسالة اعتراض لأخيه الإمام، فما كان من الأخير إلا أنْ أوقف العمل بصيغة البيعة، وظل يعمل على تثبيت الأمر لولده، مُمهدًا لذلك بالتخلص من أخيه كما سبق أنْ أشرنا؛ وبذلك تعمق الخلاف داخل الأسرة الحاكمة، وبدأ أنصار الأمير المعزول في إثارة المشاكل، وهو الأمر الذي استفاد منه الأحرار أعظم استفادة. من جهته أتقن الأمير محمد البدر الدور المرسوم له من قبل والده بعناية فائقة، قدم نفسه كشاب مُتحرر، محب للتغيير، وتقرب من الأحرار الأوائل، والضباط الشباب، وزار الاتحاد السوفيتي، وتشيكوسلوفاكيا، وألمانيا الشرقية، والصين يوليو 1956م، ووقع اتفاقيات تعاون وتبادل تجاري مع تلك الدول، وعمل - وهو الأهم - على شراء أسلحة حديثة، وهو أمرٌ كان له ما بعده. استغل الأمير الحسن ذلك، وسارع من مقر عمله في نيويورك - وبمعنى أصح منفاه الإجباري - بالاتصال بحكام السعودية، ونجح في كسبهم إلى صفه؛ وهو الأمر الذي أدى إلى توتر جزئي في العلاقات اليمنية السعودية، وجعل الإمام ينظم إلى اتحاد مصر - سوريا الفيدرالي 8 مارس 1958، بعد أنْ راسل الزعيم جمال عبدالناصر قائلًا له أنَّ النجوم أخبرته أنَّ نجمه صاعدًا! وقد ظل ذلك الاتحاد الذي عُرف باسم (اتحاد الدول العربية) حبرًا على ورق، ولم يُعمر طويلًا. وما يجدر ذكره أنَّ العلاقات بين مصر والسعودية كانت قد توترت قبل ذلك، حيث قامت الأخيرة بترحيل العمال المصريين من أرضيها أبريل 1957م، بحجة تآمر الأولى في محاولة اغتيال الملك سعود، ولم يكد يحول الحول حتى اتهمت سوريا المملكة بأنها قامت بتمويل محاولة فاشلة لاغتيال جمال عبدالناصر، والوقوف ضد الاندماج الوحدوي بين مصر وسوريا. بسبب تقاربه مع المعسكر الشرقي؛ أطلق حُكام المملكة على الأمير محمد البدر تسمية (الأمير الأحمر)، وقدم الأمير فيصل بن عبدالعزيز ولي العهد حينها نصيحته للقاضي الإرياني قائلًا: «ونحن ننصح أن يعمل المُخلصون لسيف الإسلام الحسن، أما البدر فهو مصري شيوعي، ونحن نخاف على اليمن من اشتراكية مصر التي نعتبرها لا تختلف عن الشيوعية، فكلاهما حرب على الدين».
توجه بعد ذلك الإمام أحمد إلى روما لغرض الاستشفاء 16 أبريل 1959م، ومعه حشد كبير من الرهائن؛ فقام في منتصف الشهر التالي بعض الشباب المُتحمس بإحراق مَنازل المسؤولين في صنعاء وتعز، واغتيال بعضهم، بإيعاز وتحريض من قبل أخيه الأمير الحسن، المُبعد في نيويورك، والغاضب لحظة ذاك من حرمانه من ولاية العهد. استنجد الأمير محمد البدر بمشايخ قبيلتي حاشد وبكيل، وتداعوا بالفعل لنصرته، واستغل معظمهم رعاياهم ضعفه الشديد، وطلبوا الأموال الطائلة نظير مُساندتهم له، وقيل أنَّهم وفي ذروة حماسهم، وأثناء دخولهم مدينة صنعاء، رددوا هذا الزامل: ســــلام يــــا حاشد ويا صُبة بكيل مــن بعــد هـــذا تسمعون أخبارها إمامنا النـــــاصر ومن بعده حميد سبـــحان مــــن رد العوايد لأهلها وحميد هنا، هو الشيخ الثائر حميد بن حسين الأحمر، سبق أنْ تَعرض للاحتجاز في مدينة حجة كرهينة، وهو لم يتجاوز مرحلة الطفولة بعد، ومع مُرور الوقت تعرف هناك على عدد من الأحرار الأوائل، كان الأستاذ أحمد محمد نعمان أبرزهم، وقد عده الأخير واحدًا من أولاده، وعمل على تعليمه أبجديات العلم والعمل الوطني، وإقناعه بالنضال من أجل القضية، وتقرب منة أكثر بأنْ عرض عليه تزويجه من إحدى قريباته، إلا أنَّ الشاب الثائر اعتذر بأدب، لأنَّه كان - كما أفاد العميد محمد علي الأكوع - شديد الغرام بالتوجه الوطني، والانشغال بتحرير الوطن من القداسة الوثنية البشرية، والظلم والتعالي والتخلف، وقد بقي حتى استشهاده كالرمح المشرع في نحر الطغيان، بعيدًا عن الترهل البدني، وخور العزيمة، ووهن الطموح.
كان التوجه حينها أنْ يكون أحد المشايخ المُستنيرين رئيسًا للجمهورية الوليدة، وينوبه أحد الأحرار، وقد نقل لنا الأستاذ محمد أحمد نعمان جانبًا من أراء الأحرار الأوائل حول هذه الجزئية، في كتابه (من وراء الأسوار)، أسوار سجن نافع في حجة، حيث رأى المُناضل عبدالرحمن الإرياني أنَّ حركة الأحرار لا يمكن أنْ تنجح في المناطق الشمالية إلا على أساس حطم صنمًا وانصب صنمًا آخر، من نوع الأصنام التي ألفوا عبادتها، ودعا إلى أنْ يُركز الاحرار جهودهم في العمل على اتخاذ المناطق الأخرى مَركزًا لحركتهم ودولتهم الجديدة، ولا ضير أنْ يتولى قيادتها مناضل زيدي - قحطاني.
شاركه الرأي المُناضل محمد عبدالله الفسيل الذي ختم مُداخلته بالقول: «فإذا تكونت حكومة الأحرار وأصبحت حقيقة واقعية في المنطقة الشافعية أمكن اكتساح المنطقة الزيدية، وإعادة اليمن إلى وحدتها».
ولم تكن دعوة الاتحاد اليمني لإقامة نظام جمهوري فيما بعد (أكتوبر 1957م)؛ إلا امتداد لهذا التوجه، وقد رشح معظم قادة وأعضاء ذلك الاتحاد الشيخ حميد بن حسين الأحمر أنْ يكون أول رئيس للجمهورية الوليدة، حسب وثائق الأستاذ الشهيد محمد أحمد نعمان، التي قال العميد الأكوع أنَّه اطلع عليها.
وبالعودة إلى موضوعنا، فقد كان للشيخ حميد الأحمر أثناء مكوثه في مدينة صنعاء تواصلات مع عدد من المشايخ والأعيان، وقام بالفعل بإقناعهم بضرورة التغيير، واستغلال غياب الإمام أحمد لهذا الغرض، وحين سمع الأخير بذلك، وبصورة مُبالغ فيها، آثر العودة من فوره أغسطس 1959م، وما أنْ وصل من روما بحرًا إلى ميناء الحديدة حتى أطلق خطاب مُجلجل بثته الإذاعة، أسماه (الصرخة الكبرى)، قال فيه: «لن يخيفني أخضر ولا أحمر، وهذا الفرس وهذا الميدان، ومن كذَّب جَرَّب»، واستشهد ببيت شعري نُسب له، مضمونه: مـاذا يـــريدونها لا درَّ درُّهمُ إنَّ الإمامة لا يطوى لها علمُ هرب بعد ذلك أبناء القبائل من صنعاء مَفزوعين مَذعورين، وسلموا ما أخذوه من الأمير محمد البدر، وفوقها رهائن جديدة لتأكيد الطاعة، وذلك بعد أنْ مَارس الإمام أحمد في حَقهم جَرائم حرب شنيعة، وقد نال قبيلة حاشد النصيب الأكبر من تلك الجرائم، وكم من مَنازل دُمرت، ومزارع أتلفت، وأسر هُجرت، ولولا خذلان أبناء تلك القبيلة لشيخهم حسين الأحمر، وولده، ما تقدمت القوات الإمامية صوب مضارب قبيلتهم قيد أنملة. أمام ذلك الوضع المُربك قرر الشيخ حميد بن حسين الأحمر التوجه جَنوبًا، صوب بيحان، إلا أنَّ أبناء القبائل المُجاورة حالوا بينه وبين هدفه ذاك، تقطعوا له، وسلموه لقوات الإمام أحمد، وذلك بعد أنْ نهبوا أمواله، وجنبيته، وكان مصيره الإعدام بحد السيف 13 يناير 1960م، وعمره لم يتجاوز الـ 30 عامًا، وحين اطمئن الإمام الطاغية لعدم وجود أي ردة فعل انتقامية؛ ألحق به والده، وذلك قبل أنْ ينتهي ذلك الشهر بيوم واحد.