سادية مُتوحشة طبائع المُستبد لا ترحم من يَـتعـدى على خصوصياتها، والمُقدم يحيى إسماعيل الردمي، الضابط الساذج، لم يُـدرك ذلك إلا مُتأخرًا، وبالأخص بعد سقوط مدينة بيت الفقيه بأسابيع معدودة، وعودة القوات الإمامية الغازية إلى مدينة الحديدة، اعتقد المسكين أنَّه بخطته السابق ذكرها تَجمَلْ عند سيده (السيف أحمد)، فإذا به يدخل بوابه الجحود والنكران من أوسع أبوابه، والقائد الأعلى أبى إلا أنْ يدخل بوابة التاريخ وحيدًا، مُنفردًا، وتلقب بـ (أحمد يا جناه) الذي لا يُقهـر. جزاء سنمار كان نصيب الضابط الردمي المخدوع، الذي تجسدت مُكافأة نهاية خدمته باتهامه بمُعاقرة الخَمر، جيء به وجراحه لم تكـد تندمل، وطُلي جسده بالزيت والقطران المَغلي، وربط فـوق إحدى المدافع، وقناني الخمر الفارغة تتدلى من فوق عُنقه، ولإكمال فصول تلك المسرحية، تم جلده مئة جلدة أمام جماهير مدينة الحديدة الغفيرة، ثم تُرك مَصلـوبًـا لعدة أيـام، تحت هجير أشعة الشمس الحارقة. سادية مُتوحشة، أفرزتها عُقـدة انتقامية لطاغية مُستبد، ماضيه أسـود حتى في قتل أقرب الناس إليه، فكيف بغريب ساذج، أتى يُنافسه لذة القيادة، وزهـو الانتصار، وفي المُقابـل كانت إفرازات تلك العُقـدة مُقززة وأكثر نتـانـة ضد أولئك الذين جابهوا طغيانه، وأذلـوا كبريـائـه. كان نَصيب أبناء قبيلة الزرانيق الأحرار من ذلك الظلم السادي ما يفـوق حد الوصف، ولكي يضمن أحمد ياجناه عدم تَمَـردهم على حقه وحق سلالته الإلهي مـرةً أخـرى؛ أدخل المئات منهم مَذلة الأسر، وأرسل الأقل خَطرًا منهم، وصغار السن إلى سجون الحديدة، وأبقى في القبيلة كبار السن والنساء، وأرسل 800 من مُقاتليهم الأشـداء (أبطال تلك الملحمة الخالدة) إلى سُجون حجة المُوحشة، التي لا تُطـاق. حجة سجنٌ، وسجانٌ، وعذابٌ مُقيم، (شاري البَرق من تهامة) ما زال يُولد الحنين للحرية والانعتاق، و(طائر أمغرب ذي وجهت سنا أم تهايم) مِرسال شوق لا يُصغي للأنين والصراخ، و(نسأل الله عودنا من تهامة) أمنية عاشق لا مُتفيد، نريدها أنْ تكون، و(كل أم غُنى وأم فل من تهامة) تعريف جامع لبيئة سهلة، أبهرت الخير بالخير التزاما، وقهرت الموت للموت اقتحاما. في لحظة صمت كئيبة، يتذكر أبطال الزرانيق تفاصيل أكثر من 40 معركة حربية خاضوها ببسالة، ضد القوات الإمامية الغازية، وكيف جيء بهم إلى هذا الـمَنفى المُوحش، في رحلة استمرت ثمانية أيام، تحت هجير الظهيرة، وبرد الشتاء القارس، الذي لم يَرحم صُدورهم العارية، فيما المَغالق الخشبية تُكبل أيديهم، وتجعل سيرهم ثقيلًا، فوق أرض وعرة، وجبال خشنة لم يألفوهـا، وفـوق رقابهم تتلوي حِبالٌ غليظة، رفعت من حشرجات صدورهم، وكادت تقطع أنفاسهم المكبوتة أصلًا. كانت الرحلة طويلة وشاقة، وكان سجن نافع - الذي بناه الأتراك - ضارًا، وأكثـر وحشة، وأعظم قسوة، وما يزال تاريخه الغابر حافل بالكثير من القصص المأساوية المُتصلة، إلا أنَّ مُعاناة أولئك الأبطال لا تُضاهيها أي مُعاناة. لم يحنوا سجن حجة الضار على أبطال الزرانيق قَـط، والذين كان أشهرهم البطل الثائر الشيخ محمد سعيد المقبولي، والشيخ وهيب علي محبوب، والشيخ الخادم جعبوس مجملي، والشيخ طشان بن محمد شايع، وسلمان خادم شرم، ومحمد إبراهيم الكعبي، وعبدالله علي مزربي، والشاعر محمد أحمد الطيب. كأوراق الخريف تَساقطـ أولئك الأبطال في سجن نافع، الـواحد تلو الآخر، وذلك بعد أنْ تم - كما أشارت بعض المصادر - تسميمهم تدريجيًا، وقيل نجا من ذلك الموت المُحقق 13 شخصًا، وقيل نجا شخصًا واحد اسمه الشيخ سالم درويش، التقى الأخير ثوار حركة 1948م، ونثر لهم تفاصيل مُعاناته، ومعانات أصحابه، وقيل لم ينجوا أحد، وخلاصة تلك المأساة: لم يجد أولئك الأبطال سوى أديم حجة المتماسك كي يدفنوا به أوجاعهم وإلى الأبد.
حجة، أرادها الطُغاة سجنًا، فحولها الأحرار إلى مُتنفس للحرية، من خلفِ أسوارها تسللت أفكـارهم، ومن تحت ثَراها أزهرت أماني من قضـوا نحبهم، جيء بهم مـن كُـل اليمن، فصاروا أخوة في التُراب والمـَصيـر.. زرانيق تهامة كـانوا الأكثر عـددًا وتضحية، وفي مقبرة ما زالت تَحْمل اسمهم، ترقد أروح 800 من أبطالهم بسـلام، وفي حجة كمـا في تهامة أذلـوا سجانيهم، وقاتليهم، وعلمـونـا مَعنى أنْ يكـون المـَـرء سَيـد نَـفسـه. ذهب أبطال الزرانيق شامخين، وتركوا لعُشاق الحرية قصص بطولية نادرة، حق أنْ تُحفظ وتُدون بماء الذهب، فالتاريخ الحقيقي لا يكتبه المُنتصرون بالسيف والطغيان؛ بل يدونه المُنتصرين للكرامة والإنسان.