ثورة شاملة.. هجوم شامل
تهامـة البسيطة المُتواضعة، أنجبت أبطال الزرانيق الأفذاذ، كانت قبيلتهم تُسمى في الجاهلية بـ (أزد شنوءة)، وكان رجالها يُنعتون بـ (عمالقة الصحراء)، ولم تُعرف باسمها الخالد (الزرانيق) إلا في القرن السابع الهجري، نسبة لزرنيق بن الوليد بن زكريا، الذي يصل نسبه إلى عك بن عدنان القحطاني، وتنقسم إلى قسمين: زرانيق الشام، وهي المناطق المُمتدة من شمال بيت الفقيه، مُرورًا بالمنصورية، وصولًا إلى تخوم ريمة، وزرانيق اليمن، وهي المناطق المُمتدة من جنوب بيت الفقيه، مرورًا بالحسينية، وصولًا إلى منطقة القصرة. وجود القوات الإمامية في تهامة مَثَل شوكة في خاصرة قبيلة الزرانيق، القبيلة التي استعصت على الإماميين وغيرهم طيلة العقود والقرون الفائتة، ولأنَّ أبنائها شرفاء ألفوا الحُرية، أعزاء لا يرضون الذُل، استعدوا لـمَعركة تحرير مُحيطهم التهامي جيدًا، وحين صاروا قادرين على المُواجهة؛ وبعد أنْ بلغت قواتهم المُدربة حوالي 10,000 مُقاتل، ما يقارب 10% من إجمالي سكان القبيلة آنذاك، أعلنوها ثورة شاملة. وقبل الغوص في تفاصيل تلك الثورة التي اشتعلت شرارتها بداية العـام 1928م، وجب التذكير أنَّ قبيلة الزرانيق حافظت بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى على استقلالها، ولم تتبع حاكم عسير تهامة محمد بن علي الإدريسي، المُسيطر على مدينتي الحديدة، وباجل، ولا إمام صنعاء يحيى حميد الدين، المُسيطر على مدينة زبيد، وضواحيها، وهو الأمر الذي دفع الرحالة أمين الريحاني إلى القول: «وعندي أنَّ من يستطيع من الإمامين، إمام صنعاء، وإمام صبيا، وجيزان، أنْ يغلب الزرانيق، ويؤدبهم، ويدخلهم في حكمه، يستحق أنْ يكون حاكم الحديدة». عمل الإمام يحيى قبل وبعد سيطرته على مدينة الحديدة على استمالة قبيلة الزرانيق سلمًا إلى صفه، بعد أنْ أدرك أنَّها استعصت على من قبله من الأئمة، وأنَّها لم تخضع قبل ثلاثة قرون للإمام المُطهر شرف الدين إلا باتفاقية صلح، وبعد أنْ حاربها لأربع سنوات، وأنَّ الأتراك أنفسهم لم يستطيعوا إخضاعها، وأنَّهم كانوا يغضون الطرف عنها، ويُصبغون على كبرائها بهدايا الصداقة، فكيف بجيشه المُنهك الحافي؟! والأكثر أهمية أنَّها - أي قبيلة الزرانيق - كانت ملجئًا لأحرار تهامة الذين واجهوا القوات الإمامية في لحظات هجومها الأولى، ومن زبيد، وفي مطلع عشرينيات ذات القرن، لجأ إليها الثائران على طاهر، وعوض علي زربه، شيخا قبيلتي المعاصلة، والركب، وفي منتصف ذات العقد لجأ إليها ثوار قبيلتي العبسية، والرامية، وكان ثوار القبيلتين قد طلبوا أثناء انتفاضتهم على القوات الإمامية المُساندة من الشيخ الزرنوقي أحمد فتيني جنيد، وقد أمدهم الأخير بالعدة والعتاد، وبعض الأفراد. بعد أنْ فشلت جميع مُحاولاته في السيطرة على قبيلة الزرانيق سلمًا، لجأ الإمام يحيى إلى القوة، وأصدر أوامره للأمير عبدالله بن أحمد الوزير بتولي هذه المهمة، فأرسل الأخير ابن عمه محمد بن علي الوزير إلى تلك الناحية بقوات جمة سبتمبر 1925م، وهي الحملة التي تفرَّد المُؤرخ التهامي إسماعيل الوشلي بذكر تحركاتها، وكان انطلاقها - كما أفاد - من منطقة الزيدية، لافتًا أنَّها انتصرت قبل وصولها إلى منطقة المنصورية، وأجبرت أبناء الزرانيق على الخروج من قُراهم شاردين. من جهته نفى سكرتير الإمام أحمد عبدالوهاب شيبان في مُذكراته الجزئية الأخيرة من قول المُؤرخ الوشلي، وقال أنَّ محمد الوزير لم يُحقق انتصارًا يُذكر، وأنَّ أبناء الزرانيق أجبروه على مُغادرة أطراف قبيلتهم، بعد معركة دموية جعلت إمام صنعاء يُصدر أوامره لأمير الحديدة بعدم التعرض لهم. المُؤرخ حسن الإرياني ولكي يُعظم دور سيده السيف أحمد بن الإمام يحيى - الآتي ذكره، نفى في كتابه (صادق التحاقيق بما حدث في قبيلتي حاشد والزرانيق) الحادثة برمتها، وقال: «وفي أيام استفاضة الجيش المُتوكلي على تهامة بقيادة عبدالله بن أحمد الوزير تَركهم لصعوبة أرضهم، وشدة توحشهم، ولم يوجه مولانا الإمام إليهم نظره؛ حبًا أنْ يدخلوا في الطاعة حينما يتيسر لهم المقصود، ويعرفون المُعاملة الحسنة للبلايد التي دخلت في سلك الطاعة»! وهو ما أكده أيضًا الرحالة نزيه مؤيد العظم بقوله: «ولما استولى جلالة الإمام على تهامة، والحديدة، ترك هذه القبيلة وشأنها، ولم يتعرض لها بخير أو شر، وهي بدورها حافظت عدة سنوات على السكينة التامة». وما غفل مُؤرخو الإمامة عن ذكره أنَّ الإمام يحيى المشغول حينها بتثبيت دعائم حكمه، أجل السيطرة على الزرانيق إلى حين تتهيأ له الظروف غير المُكلفة، وأنَّه قد مهد لذلك بتحريض القبائل المُجاورة الخاضعة لحكمه للقيام ببعض التحرشات الاستنزافية في حق أبناء تلك القبيلة، لإنهاكهم، وجعلهم لقمة سائغة لقواته المُتحفزة، إلا أنَّ ظهور الشيخ أحمد فتيني جنيد كشخصية كاريزمية جامعة، إلى جانب باقي مشايخ تهامة، أفشل - كما أفاد الـمؤرخ عبدالودود مقشر - ذلك المُخطط. بعد مرور شهرين من تلك المعركة، قامت القوات الإمامية بميناء الصليف بالقرصنة على أحد المراكب الشراعية الزرنوقية، واختطفت طاقمه، وأودعتهم السجن، وقام الشيخ أحمد فتيني جنيد إثر ذلك بكتابة رسالة لحسن كانجوني الكاتب السياسي الإنجليزي في مدينة الحديدة 28 نوفمبر 1925م، أبلغه فيها نيته اللجوء لفعل مضاد، إلا أنَّ المُفوض العام لجزيرة كمران حذره من ذلك، وأوصل تهديده في المقابل إلى نائب الإمام في الحديدة، ولم تحصل خلال العامين التاليين حوادث مُتصله، حتى قام أبناء الزرانيق بثورتهم التالي نقل تفاصيلها. في بداية ثورتهم، قام ثوار الزرانيق بعدة عمليات هجومية على الثكنات العسكرية القريبة من مناطقهم، نهبوا عتاد عسكري ومؤن تكفيهم لمدة أطول، وقطعـوا الطرق، وخطوط التليغراف، وعن تلك الثورة وقائدها قال المُؤرخ الإرياني: «فنتج منهم كثرة التعدي، وإخافة الطرق برًا وبحرًا، وخرجوا إلى طول العدوان الرذيل، وصار الشيخ أحمد فتيني مُهيجًا لهم، ومأوى ودلّس ولبّس عليهم أنَّه في ذلك القطر مستعد بمدافعه النارية وآلاته لمنع كل من يحاول الاستيلاء عليهم، ولم يزل الرجل المذكور يرتفع شأنه، وتنمو أمواله، حتى طلب ما ليس له، وتابعته معظم القبائل المحاددة لبلاد الزرانيق، وبعضها كانت قد دخلت في الطاعة كقبيلة الجحبى». وكان ذات المُؤرخ قد قال في إطار استعراضه التمهيدي لقبائل الزرانيق عن قائد تلك الثورة: «والجم المُغفر من الزرانيق ينقادون للطاغية الأكبر أحمد فتيني جنيد»، وأضاف مُتحاملًا، ومُشنعًا: «وكان في ابتداء أمره لصًا من اللصوص، باشر تلك الوظيفة القبيحة حتى بلغ به الحال إلى سفك الدماء، والشغب». ما أنْ وصلت أيادي ثوار الزرانيق إلى الحديدة، وتمكنوا من إبادة حامية عسكرية بكاملها، وذلك في القرب من قرية المنظر المُجاورة لذات المدينة أبريل 1928م، حتى أدرك السيف محمد بن الإمام يحيى - الذي عين قبل شهرين أميرًا للحديدة - خطورتهم، وقوة بأسهم، فقام أولًا بجس نبضهم، وذلك بتوجيه بعض الحملات العسكرية لأطراف قبيلتهم، واستمالة بعض عشائرهم، وقد دخلت بالفعل قبيلة الجحبى مُؤقتًا في سلك طاعته. ولتعزيز حضور دولة والده في مناطق الأطراف الزرنوقية، عين السيف محمد هاشم المحويتي عاملًا على الدريهمي، المنطقة التي تقع قبيلة الجحبى في إطارها، وحين أحس أبناء الأخيرة بوطأة ذلك العامل وعساكره؛ ثاروا بتأييد كامل من قبل الشيخ أحمد فتيني، وهجموا على مقر ذلك العامل، وأجبروه على المُغادرة. ما أنْ عاد هاشم المحويتي إلى السيف محمد طريدًا، حتى كلفه بالعودة إلى مقر عمله مرة أخرى، وعززه بقوات كثيرة، وفي قرية قضبة الساحلية، الواقعة بين الدريهمي، والحديدة، حدثت المواجهة، وتمكن ثوار الزرانيق من أبناء قبيلة الجحبى، والمساعيد، وغيرهم، من التصدي لتلك الحملة، وقتلوا أكثر من 400 من أفرادها، ومعهم قائدها، وأسروا كثيرين، فيما تجاوزت خسارتهم الـ 100 قتيل. شاركت في المقابل قبائل تهامية إلى جانب القوات الإمامية في تلك الحملة، كقبيلة الجمادي التابعة لقبيلة القحري، وحين احتدمت المواجهات، انضمت للطرف الزرنوقي؛ فما كان من الإماميين إلا أنْ نكلوا بها شرَّ تنكيل، وقتلوا - كما أفاد الرحالة نزيه مؤيد العظم - كبيرها الشيخ إسماعيل البغوي شرَّ قتلة. توافد بعد تلك المعركة أبناء الزرانيق من الدريهمي إلى الحسينية، وأجمعوا - كما أفاد المُؤرخ محمد الأهدل - على أنْ يكون الشيخ أحمد فتيني جنيد قائدًا لهم، وكان الأخير بحق قائدًا مُحنكًا للثورة الزرنوقية، ولم يرضخ حينها وخلال السنوات الماضية للإغراءات الإمامية، ورفض قرار تعيينه حاكمًا لقبيلته باسم تلك الدولة الغاشمة. بدأت أمام ذلك الوضع المُربك المفاوضات بين الجانبين، وقد تم التمهيد لذلك - كما أفادت وثائق وزارة الخارجية السوفيتية - بتوقيع اتفاق سلام (ربما المقصود هدنة) 15 يونيو 1928م، ليقوم الإمام يحيى بإرسال وفده المفاوض برئاسة القاضي محمد بن أحمد الحجري، وقد باءت جهود الأخير بالفشل، وعاد بأوامر من الإمام إلى الحديدة خائبًا 31 أغسطس 1928م. وفي ذات السياق التفاوضي، ذكر المُؤرخ عبدالودود مقشر نقلًا عن أحد الرواة أنَّ أبناء الزرانيق صارحوا لجنة الوساطة بموافقتهم على تسليم الزكاة والأعشار لدولة الإمامة، واشترطوا عدم دخول قوات تلك الدولة بلادهم. وذكرت إحدى الوثائق الإنجليزية أنَّ الشيخ أحمد فتيني أرسل مع لجنة الوساطة الإمامية بردٍ قاسٍ، مليء بالتهكم والسخرية، وأنه أتبع ذلك بالهجوم على الثكنات الإمامية في المنصورية. وبين هذا القول وذاك، تبقى الحقيقة المُؤكدة أنَّ المُفاوضات فشلت، وأنَّ الإمام يحيى أصدر أوامره لولده محمد (أمير الحديدة)، ولعامله على زبيد محمد بن عبدالله الشامي، وعامله على وصاب سعيد أبوبكر معوضة، وعامله على ريمة عبدالله بن حسين الديلمي بالهجوم الشامل على الزرانيق، في وقت واحد، ومن أكثر من اتجاه. وفي الوقت الذي تحركت فيه قوات إمامية من جهة زبيد صوب الحسينية، تحركت قوات أخرى من جهة ريمة صوب الصعيد، ومن جهة الحديدة تحركت قوتان، قوة بقيادة إسماعيل المروني صوب الدريهمي، وأخرى بقيادة القاضي أحمد بن حسن بن قيس الأهنومي، والأخير استدعاه أمير الحديدة من المحابشة، وكانت وجهته مدينة بيت الفقيه، إلا أنَّه لقي - كما سيأتي - حتفه، وذلك قبل أنْ يكمل مهمته. كان هجوم إسماعيل المروني الأول على منطقة المكيمنية، ومنها توجه جنوبًا، وهجم على منطقة الدريهمي، وتمت له السيطرة عليها دون قتال، وإليه قدمت قوات إمامية أخرى، ليصل عدد قواته إجمالًا - كما أفاد المُؤرخ الأهدل مُبالغًا - إلى الـ 14,000 مقاتل. أما الشيخ أحمد فتيني جنيد فقد استقر بعد سقوط الدريهمي في مدينة الطائف، وجعلها مَقرًا له. وفي الجهة المقابلة، كان قوام جيش القاضي أحمد بن قيس 5,000 مُقاتل، وقيل 2,000 مُقاتل، وكان خروجه أولًا إلى منطقة المحوى (القاهرة) من بلد الوعارية العليا، ومنها كان هجومه على قرية الجنبعية الواقعة في الشمال الشرقي لمدينة بيت الفقيه، صحيح أنَّه كُسر في الهجوم الأول، إلا أنَّه عاود الكرة، وسيطر على تلك القرية، بعد معركة أكبر من الأولى، قُتل وجرح فيها عدد غير يسير من الطرفين. دخلت بعد ذلك قبيلتي المجاملة، والجربشية في طاعة دولة الإمامة مُؤقتًا؛ وهو الأمر الذي حفز القاضي أحمد بن قيس على التوغل بقواته جنوبًا 9 سبتمبر 1928م، بات وقواته ليلتهم في سائلة الجلة، القريبة من بيت الفقيه، وفي شعب كدف المقلوب تحديدًا، ولم يأتِ عليهم صباح اليوم التالي إلا وأبطال الزرانيق فوق رؤوسهم، هزموهم شرَّ هزيمة، وقتلوا قائدهم، وعدد من المشايخ، وأجبروا من نجى منهم على الفرار، بعد أنْ غنموا من عدتهم وعتادهم الشيء الكثير، وكانت خسارتهم - كما أفاد المُؤرخ محمد عمر شبيلي - ما يزيد عن 70 قتيلًا، وخسارة القوات الإمامية - كما أفاد المُؤرخ البحر - 1,000 قتيل، وقيل أكثر من ذلك. يتهم المُؤرخون الإماميون شيخ قبيلة الجربشية، وزرانيق الشام يحيى منصر معروف بشكل خاص، وأبناء قبيلتي المجاملة، والجربشية بشكل عام، بأنَّهم استدرجوا تلك الحملة إلى أدغال قبيلة الزرانيق، بعد أنْ رحبوا بأفرادها، وأوهموا قائدها بإظهار الطاعة، وهي رواية مشكوك إلى حدٍ ما في صحتها، وعلى وجه الخصوص في جزئيتها الأولى، خاصة وأنَّ الشيخ المتهم كان صديقًا مقربًا للقاضي أحمد بن قيس، وكان له - كما سيأتي - دور في سقوط مدينة بيت الفقية بيد قوات السيف أحمد، وهو الدور الذي كان كالقشة التي قصمت ظهر البعير. وكانت خلاصة هذه الجولة التي استمرت لعدة أيام، إحكام حصار الزرانيق من الشمال، ومن الشرق، ومن الجنوب، والسيطرة على الدريهمي، والحسينية، بالإضافة إلى عدد من القرى المُتناثرة، وهو ما أكده مُراسل جريدة (المقطم) بقوله: «كان المجاهدون قد احتلوا الدريهمي وقرى كثيرة بالقرب من مركز بيت الفقيه، والحسينية المُجاورة لأراضي تلك القبيلة». وعن تلك الخلاصة قال المُؤرخ الإرياني: «وجرت حروب شهيرة نتيجتها الاستحكام على بعض البلاد، كالدريهمي وغيرها، بعد أنْ حل القتل الذريع بالمُخالفين، وطردهم إلى الشعاب، وعرضت بعد ذلك حوادث وكوارث ثبطت القواد عن المعركة». والحوادث والكوارث التي عناها المُؤرخ الإرياني، والتي ثبطت القادة الإماميين عن إكمال مهماتهم، تمثلت في مضمونها الأشمل بمعركة سائلة الجلة السابق ذكرها، وهي المعركة التي أجبرت الإمام يحيى على الاستنجاد بولده السيف أحمد (أمير حجة)، وإرساله لإخمـاد الثـورة الزرنوقية، وتأديب من أشعلـوا فتيلها، خاصة وأنَّ الحملات السابقة فشلت، ولم تؤتِ أكلها.
... يتبع