مُنذ القدِم، ونحن اليمنيون نجيد فن الرحيل والترحال، وما من مكان حلَّ فيه الأجداد إلا وتركوا أثرًا خالدًا يَحكي للأجيال المُتلاحقة براعة ما صنعوا، لتبقى هذه الصفة لصيقة بنا كابرًا عن كابر، حتى جاء الأئمة من بيت حميد الدين، وأسلافهم، رفعوا من وتيرتها، وحولوها من سلوك اختياري إلى هروب اضطراري، وأضحت بفعل جبروتهم قضية اجتماعية شائكة، لها حضور لافت في موروثنا - الفني والأدبي - المُثقل بالاغتراب والمُعاناة.
يُحسب للعبسيين: أيوب طارش، ومُحمَّد أحمد عبدالولي براعة حفر أوجاع الغُربة والاغتراب في تراثنا الفني والأدبي، وتطبيب ذلك الجرح النازف بالكثير من الإبداع النبيل، وإنْ كان أيوب غني عن التعريف، فإنَّ صديقه أبا أيوب - ذو السيرة المُوجعة - معني بالتعريف، فهو ابنٌ لأحد الأحرار اليمنيين الأوائل، من أم حبشية، وأصوله ترجع إلى قرية حارات ذات التاريخ النضالي المُشرف. مثـلَّ الأديب مُحمَّد عبدالولي، صاحب: (يَمُوتون غرباء، وصنعاء مدينة مفتوحة، والأرض يا سلمى، وشيء اسمه الحنين، وعمنا صالح، وريحانة)، نقطة أولى وفارقة في تصوير قساوة الغُربة، ومآلات الاغتراب، استحضر بروائعه المُغلفة بالحنين، والمُكتظة بالأنين، والمعجونة بِسُمرة الطين، وعرق الكادحين، استحضر وقائع قاسية لأحوال أبناء بلده، في الوطن وفي المهجر على السواء، فكان بحق تُرجمان مُعبر، ومرآة صادقة للأرض العطشى، للرجل المُكافح، للمرأة الضعيفة القابعة في خانة الاحتياط، والمغلولة بقيد الانتظار. كان عدد سكان المملكة المُتوكلية بعد خروج الأتراك من اليمن لا يتجاوز السبعة ملايين نسمة، وقيل أقل من ذلك، مئات الآلاف منهم قضوا نحبهم بفعل المجاعات والأمراض والحروب التي لم تتوقف، و1,200,000 منهم تفرقوا في أغلب بلدان الله، هروبًا من ذلك الجحيم، وهكذا تناقص سكان اليمن، ووصل عددهم في أواخر أربعينيات القرن المُنصرم إلى حوالي ثلاثة ملايين نسمة. وما يجدر ذكره أنَّ أكثر من قرروا الهروب من جحيم الإمامة والإمام جعلوا من الحبشة محطة مُؤقتة للبقاء والاستقرار، ووصل عددهم فيها إلى حوالي 500,000 نسمة، ولربط أطفالهم بوطنهم الأم؛ أنشأوا في عاصمتها وفي حي ماركاتو تحديدًا مدرسة كبرى 1948م، كان يتم فيها تعليم اللغة العربية ومبادئ التربية الإسلامية، بالإضافة إلى المواد العلمية الأخرى، وقد بلغت طاقتها الاستيعابية حوالي 1200 طالب وطالبة، وتخرج منها آلاف المُستنيرين، كان الأديب مُحمَّد عبدالولي أبرزهم. ولد مُحمَّد عبدالولي في مدينة دبرهان الإثيوبية 12 نوفمبر 1939م، وفي منطقة سدس كيلو تحديدًا، والأخيرة حي صغير من أحياء العاصمة أديس أبابا، أمضى السبع السنوات الأولى من عُمره القصير فيها، ثم كانت عودته الأولى إلى الوطن 1946م، وبمعنى أصح زيارته الأولى، والتي استمرت لعام واحد، تبعتها عودة إلى الحبشة، ليدرس المرحلة الابتدائية والإعدادية في المدرسة المذكورة أنفًا، وكان من طلابها المُتفوقين. وعنه تحدثت والدته بفخر مائز: «كان ذكي في دراسته، وكان من أوائل الطلبة في المدرسة على مستوى الجالية العربية كلها، وكانت الجالية اليمنية تُفاخر به، وتقوم بتكريمه سنويًا، كما كان سريع البديهة، واسع الخيال، نشيط في القراءة والكتابة، وتدوين الأحداث في أوقاتها». يمم مُحمَّد عبدالولي بعد ذلك خُطاه صوب قاهرة المُعز 1955م، العاصمة المصرية التي كانت تعيش حينها حراكًا قوميًا فاعلًا، وذلك بعد أنْ حصل ومجموعة من الطلاب اليمنيين النابهين - مثل: عمر الجاوي، وأبو بكر السقاف، وأبو بكر باذيب، وخالد فضل منصور - على منحة دراسية من قبل "الاتحاد اليمني" كيان الأحرار اليمنيين الثالث، وذلك للدراسة في إحدى المعاهد الأزهرية، وقد كانت إقامته تبعًا لذلك في مدينة البعوث الإسلامية. هناك في المُقابل رواية أخرى غير أكيدة، مفادها أنَّه - أي محمد عبدالولي- انتقل للدراسة في مدرسة المعادي، وأنَّه درس في الأخيرة الثانوية العامة، والأكيد أنَّه حاول الانتقال إلى تلك المدرسة النظامية، مثله مثل غيره من الطلاب اليمنيين، وما هو مُؤكد أنَّه شارك في تأسيس أول رابطة للطلبة اليمنيين التي انعقد مُؤتمرها التأسيسي في العام 1956م، ليتم في مُنتصف عام 1959م طرده مع 24 طالبًا من مصر بتهمة الانتماء إلى الشيوعية. كان من المُتوقع - كما أفاد علي محمد زيد - أنْ يتأثر الطالب المُراهق محمد عبدالولي بالتيار الإسلامي بفعل دراسته بالأزهر، أو بالحركة الناصرية التي كانت حينها في أوج صعودها، لكنه - أي محمد عبدالولي - فاجأ الجميع بانتمائه لليسار، واقترابه من الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني في مصر، المعروفة اختصارًا بـ (حدتو)، وهي حركة يسارية سرية شارك ضباط منتمون لها في تنظيم الضباط الأحرار، وكانت مُساندة للرئيس محمد نجيب، وضد حل الأحزاب، وفرض الحكم العسكري. والحق يُقال أنَّ انتماء محمد عبدالولي لليسار قد أتاح له الانفتاح على الثقافة الحديثة، حيث اكتسب في القاهرة معارف عديدة، وصار تكوينه السياسي والثقافي متينًا، وكانت موسكو تبعًا لذلك وجهته التالية، وفيها حصل على منحة ثانية لدراسة الهندسة المدنية، إلا أنَّ ميوله الأدبية حفزته للدراسة في معهد مكسيم جوركي للآداب. لم يدم بقاء محمد عبدالولي في عاصمة الاتحاد السوفيتي طويلًا، درس فيها لمدة عامين، ليعود قبل أنْ يُكمل دراسته، وبعد قيام الثورة السبتمبرية المُباركة إلى أرض الوطن، وكله أمل في انتصار الثورة، ونجاحها في كل المستويات، وفي قريته تزوج من إحدى قريباته، وأنجب منها ابنته بلقيس، ثم ابنه أيوب. عمل مُحمَّد عبدالولي بعد ذلك مديرًا عامًا للطيران اليمني، ثم مديرًا عامًا لمكتب رئاسة الجمهورية، ثم قائمًا بأعمال السفارة اليمنية في موسكو، وبرلين، ومقديشو، ليتفرغ قبل رحيله المأساوي لتأسيس دارًا للنشر في مدينة تعز، سنأتي على ذكر اسمه وإصداراته في السطور الآتية.
مُحمَّد عبدالولي سيرة طافحة بالمُعاناة، ومسيرة حافلة بالتميز، شغلت كتاباته السردية الساحة اليمنية في حياته، وبعد مماته، وما يزال صداها حتى اللحظة، ربط حياته كلها بكتابة الأعمال السردية، فاستحق بجدارة أنْ يكون رائد القصة اليمنية الحديثة. لم تكن هذه الصفة التي تلحق باسمه دائمًا اعتباطية، أو من باب إضفاء الألقاب على من لا يستحقها، وإنَّما كانت - كما أفاد الدكتور عبدالعزيز المقالح - تقريرًا عن حقيقة يعترف بها الجميع، فهو الذي وضع الأسس الحديثة في هذه البلاد لكتابة قصة ذات أفق جديد في أسلوب القص، وفي التقاط مُعطيات الواقع من خلال رؤية فنية ولغوية توحي أكثر مما تخبر، وتتعامل مع الرمز من أرقى مُستوياته. بلا تنظيرات زائفة، بلا تحيزات مُستفزة، بلا بُكائيات مُقرفة، بلا بهرجات لفظية، بلا فسيفسات شكلية، بلا رومانتيكية حالمة، صنع مُحمَّد عبدالولي عالمه الروائي الخاص، المُنتمي للأرض، للإنسان، والممزوج بحسرة الشوق، وبعثرة الغياب، وألفة الأمكنة، وغيم الصمت، ورذاذ الحزن، وهذيان الحواس، والمسكون قبل هذا وذاك بأوجاعه، وبالكثير من تعب العمر. ورغم أنَّه يساري الفكر، ليبرالي النزعة، غابت في أعماله الإملاءات الايدلوجية، وحضرت الهوية الوطنية الصادقة، والذات اليمنية الخالصة، وشيء من ماضٍ جميل. قَدَّم محمد عبدالولي كل ذلك باعتزاز بالغ، ولهجة أنيقة، وهذا الأستاذ بطل قصته (الدرس الأخير)، لم يُحدث طلابه عن الأشياء التي كُتبت في الكتب المدرسية، وإنَّما قال لهم أشياء جديدة عن حضارات قديمة، عن أصالة شعب صنع حضارات، وبنى سدودًا، وأقام في بلاده جنة صغيرة، صنع اليمن السعيد. ومن التاريخ القديم، عاد ذلك الأستاذ إلى الحاضر، وبهدوء تحدث أكثر فأكثر عن بلاده المُقسمة إلى شمال وجنوب، لتتكرر نفس المُقارنة المُؤلمة في قصة (شيء اسمه الحنين)، حيث قال على لسان أحد بطليها: «المناطق عالية فوق جبال حراز، من هنا انطلق يومًا الصليحيون، وأصبحت اليمن واحة خضراء، ولكنها عادت من جديد إلى الجدب، ولم يعد هنا صليحيون آخرون». اتخذت الغُربة في أعمال مُحمَّد عبدالولي - كما أشار عُمر الجاوي - طابعًا فلسفيًا ونضاليًا من أجل الثورة، واستطاع بأسلوبه الروائي البديع أنْ يصور أي موقف من مواقفها المؤلمة، وينقلها - كما ذهب وهب رومية - من دائرة الرؤية الفردية المعزولة المُغلقة، إلى رحاب الجماعة، وذلك بتوجيهها إلى الحس الاجتماعي، ومُخاطبته في آن. إنَّه عالم المهزومين الذين يحملون بذور تدميرهم في أنفسهم، والذي يزداد اتساعًا ساعة بعد ساعة، دون أنْ يعمل أبطاله على ردم تلك الفجوة، هكذا أراد مُحمَّد عبدالولي أنْ يُعرف الغربة في أعماله، انتقدها كسلوك؛ على اعتبار «أنّها حياة لا تستحق أنْ تُعاش»، وأدان بعض أبطالها بشدة، وهذا عبده سعيد بطل روايته (يموتون غُرباء)، مُجرد كائن بلا معنى، لم يترك شيئًا طيبًا في حياته، ولم يقدم لبلده شيء، سوى امرأة وحيدة، ليموت في النهاية غريبًا، بعيدًا عنها وعن وطنه، حتى الطبيب الإيطالي الذي عالجه لم يتعاطف معه بتاتًا؛ بل قال في حضرة جسده المُلقى: «لقد تركوا أرضهم، بلادهم، وأهلهم وراء لقمة العيش، إنَّهم يموتون جريًا وراء اللقمة قبل كل شيء.. هذا ما يفكرون فيه». وعلى لسان أبو رُبِيّة بطل قصة (أبو رُبِيّة) - كتبت عام 1961م - حضر النقد اللاذع، والتبرم المُؤلم: «كل اليمنيين ليش يهاجروا، هم خوافين، ما قدروا يجلسوا في بلادهم، وهربوا منها، خلوها للملاعين، آه أنت ما تعرف. بدأوا بالهجرة من ألف سنة، يمكن أكثر، قالوا سد مأرب تهدم ومن هدمه فأر صغير، شوف كذابين، هم هدموا السد بفسادهم، ما قدروا يبنوا سدود ثانية، هربوا..». ويأتي الطلب بالعودة: «اسمع لازم تروح اليمن.. ايش تسوي هنا.. ايش معك هنا في بلاد الناس؟». وفي مكان آخر تتعاظم الغربة النفسية والجسدية عند بطل قصته (على طريق أسمرا)، ليقول في لحظة تذمر: «اليمن لقد نسيتها، إنني انتظر الموت فقط.. لن يعرفني أحد هناك إذا عدت.. لا أحد بقي معي هناك.. لن أعود.. قد يعود أبنائي يومًا ما، إذا ما عرفوا أنَّ أباهم كان غريبًا.. وقد لا يعودون.. قد يظلون مثلي غرباء». وهذا مغترب آخر أقل يأسًا، يستمع بلهفة لأخبار بلاده عبر إذاعة (صوت العرب)، فما كان منه إلا أنْ ردد بشجن: «الراديو يذيع حديثًا عن قضية اليمن. ما أحلاها، وما أبأسنا هناك.. وهنا». وتحضر في قصة (اللطمة) - كُتبت عام 1958م - قسوة الأب المُغترب، غير المُكترث لحال أولاده المُقيمين معه أصلًا، والذي خاطب أحدهم بمن قائلًا: «يا ريت كان معانا آباء يعلموننا.. أحمد ربك أنك تروح مدرسة كل يوم، وتحصل واحد يؤكلك ويشربك، ويدفع لك فلوس حق المدرسة، لما كنا في مثل سنك كان الواحد منا يشقي ويؤكل أهله... يا شيخ سبنا بلادنا، وأجينا بلاد الناس نشقي ونتعب؛ كله من شان نطلعكم رجال». وفي الداخل حضر صدى صوت مُحمَّد مقبل في مُخيلة نعمان بطل رواية (صنعاء مدينة مفتوحة)، والذي هم لتوه بمغادرة قريته الصغيرة: «لا تنسوا.. أنَّ هذه الأرض.. لن تنفصل عنكم مهما هربتم.. إنَّها جزء منكم تُطاردكم.. ولا تستطيعون منها فكاكا.. أنتم يمنيون.. في كل أرض.. وتحت كل سماء..». وفي الداخل - أيضاً - ثمة مآسي كثيرة عاد بها بعض أولئك الهاربين، ولا أقسى من عاهة مُستديمة استوطنت جسد أحدهم، وحولته إلى شبح كالح، وبقايا روح مهزومة لا تعرف للأمل طريق؛ لتجد حينها الزوجة المكلومة المُترقبة عودة ذلك الزوج الغائب نفسها أمام وضع بائس لا يطاق، وهي من كانت تحسب الساعات، وتعد الليالي شوقًا وانتظارًا لتلك اللحظة، وهنا انطفأت رغباتها المُؤجلة، وتكررت همساتها بحزن: «ليته لم يعد»! في قصص مُحمَّد عبدالولي عن الغربة صرخة ألم، وبحث عن الذات، ودعوة للبقاء، للعودة، فالوطن على لسان مُغترب هده البُعد: «هو ذلك الذي تستطيع أنْ تغير فيه.. أنْ تستنبت فيه أشجارًا جديدة، أنْ تمنحه ويمنحك الحب. الوطن ليس هنا.. لقد كُنت مُخطئًا.. إنَّه هناك، حيث تعمل، وتكدح، وتفكر»، وعلى لسان مُقيم يائس بات يُفكر في الهروب: «بلادنا ليست لنا، هذه حقيقة تاريخية.. إنَّ لعنة ذو يزن تُطاردنا، وستظل تطاردنا.. نحن غزاة غيرنا، سيوف غيرنا، بناة بلاد أخرى». وتتوالى التبريرات: «نحن اليمانيين مكتوب علينا أنْ نهاجر ونهاجر.. »، و«هذه الجبال اللعينة عليها أنْ تُسحق، أنْ تذوب؛ لأنَّها لا تحمي إلا من يماثلها في الكآبة والفراغ، جرداء هي وجبالها، وجرداء هي عقولها وعواطفنا.. ماذا نستطيع أنْ نعمل؟ طاحونة هائلة تبتلع وتبتلع، لا أمل سوى أنْ نذهب بعيدًا، لعلنا هناك نستطيع أنْ نعمل..»، و«أعرف أنَّ الجميع سيقولون لقد هرب.. لقد تخلى.. لقد انتهى.. ولكني أقول: لم أهرب، ولم أتخل لأنني لم أبدأ بعد!». ليحضر بعد حوار طويل صوت الصديق الناصح: «ولكن كل هذا ليس مبررًا لليأس، أنْ تفشل مرة أو مرتين أو عشرًا لا يعني أنْ تتخلى.. أنْ تهرب..»، وأضاف: «هكذا نحن.. هناك سر ما في بلادنا هذه.. أنا معك جرداء وقاحلة، وأنَّ الأمل في أنْ لا يقتلنا هؤلاء الذين لا قيمة إلا لبندقياتهم، ولكن لا نستطيع هكذا الخلاص منهم بسهولة، هناك قدرٌ ما يربطنا بهم ولا نستطيع منهم فكاكًا»، وأردف: «هناك في أمريكا أو أوروبا نحن لا نستطيع أنْ نكون مُتخلفين مهما كانت ثقافتنا. أما هنا فإنَّنا نحن الواقع لأننا المُستقبل». وحين لم يستطع هذا الصديق الصدوق أنْ يثني رفيقه عن الرحيل، عن الهروب، خاطبه بإلمام عميق: «في أعماق كل واحد منا شيء اسمه الحنين، إننا نهرب ونغيب، ونلعن كل ما هو حولنا، لكن الحنين يتغلب، وفي النهاية ستعود يومًا ما، لا أدري متى؟».
.. يتبع