أحد أهم من كانوا (رجالات دولة) قبل الوحدة وبعدها في اليمن كان بن غانم.
أما لماذا كان كذلك فلأنه جاء إلى موقع المسؤولية مؤهلاً ، جيد التعليم ، وتسنم مواقعه فيها ، جاداً ونزيهاً ، ولديه رؤيته الواضحة في كيفية الذهاب ببلاده نحو مسار منهجي للتنمية ، سواء عندما عمل في مجال التخطيط العلمي قبل الوحدة في جنوب البلاد ، أو خلال تصوره الاقتصادي الاستراتيجي لعمل الحكومة بعدها.
لم أتعرف عليه ، بل لم ألتق به على الإطلاق لأسباب عدة منها أنه لم يكن صاحب (مَقَْيَل) ولا يميل للظهور في وسائل الإعلام دون ضرورة ، وكذلك قبل هذا بسبب إقامته الطويلة في جنيف مندوباً لليمن لدى المقر الأوروبي للأمم المتحدة ، لكن ما عرفته من معلومات موثوقة عبر مصادر متطابقة عن ظروف قبوله (المشروط) بتشكيل حكومة مع زعيم دولة قوي ومتنفذ كالرئيس الراحل علي عبدالله صالح يستحق كتابة هذه الشهادة عنه للتاريخ بكل حيادٍ وإنصاف.
ما كنت متأكداً منه هو أن صالح كان محتاجاً لبن غانم لسببين ، أولهما أنه كان يريد تمثيلاً لمحافظة حضرموت في السلطة برجلٍ وازنٍ ومن العيار الثقيل مثل بن غانم ، وثانيهما أنه أراد أن يضع على رأس الحكومة رجل تكنوقراط يتمتع بعلاقات دولية واسعة للمساعدة على تنفيذ برنامجٍ لإصلاحات هيكليةٍ إقتصادية عميقة اشترطها المانحون الدوليون للاستمرار في دفع المعونات الخارجية.
تفاوض صالح مع بن غانم حول كيفية اختيار الفريق الوزاري ، وكان لكليهما شروطه ، وفي النهاية إتفقا على تسوية ، وهي أن يختار صالح وزراء لحقائب وزارية معينة ، وأن يكون اختيار بقية الطاقم الوزاري لما يقرره بن غانم.
إتفق الرجلان على تحديد مدة لا تتجاوز ستة أشهر لتقييم مدى نجاح التجربة أو تعثرها ، وتم بعد ذلك تشكيل الحكومة ، لكن صالح لم يكن ليتوقف عن التدخل في طريقة عمل الحكومة وإصدار توجيهات مباشرة لبعض الوزراء بوصفه رئيس الدولة ، وهذه طريقته في العمل ، وبن غانم لم يكن بوسعه قبول أن لا تكون تلك التعليمات تأتي إلى وزرائه من خلاله ، ولا يسعه التنازل عن شروطه لضمان ضبط إيقاع أداء وزراء الحكومة.
وعندما شعر الأخير بتعذر قيادته لمجلس الوزراء بالشروط المتفق عليها قرر المغادرة عائداً إلى جنيف .. حالته الصحية كانت في الواقع تستدعي ذلك.
وقتها أعددت تقريراً لإحدى القنوات العربية ، كشف عن أسباب الخلاف بين صالح وبن غانم حيث أشار أحد المتحدثين فيه إلى أن مطالب الأخير كانت تمثل الحد الأدنى للإصلاحات المطلوبة ، لكن هذا الأمر أحرج الرئيس الذي ظل يكرر في حديثه للقناة نفسها وغيرها من وسائل الإعلام أن الغياب الطويل لرئيس وزرائه كان بسبب حاجته لتلقي العلاج على يد طبيبه الذي يشرف على علاجه منذ سنوات عدة.
وفور إذاعة التقرير إتصل بي من مكتب الرئيس من يقول لي إن "ما قمت بنشره يمثل أسوأ تقرير يمكن أن يُعرض على شاشة تليفزيون"!
كان صالح لا يكف عن التواصل مع رئيس وزرائه أملاً في إعادته إلى موقعه ، لكن الأخير كان على ما يبدو قد حسم أمره بصعوبة التعامل مع صالح ، وبعدم العودة إلى صنعاء ، وقرر البقاء في جنيف حتى وفاته.
بن غانم كان حالةً مختلفة عن كل رؤساء الحكومات الذين سبقوه أو الذين جاؤوا بعده .. ففي سابقة له أنه على الأرجح كان رئيس الوزراء الوحيد الذي إستقال ولم يُقَل!
