( قصة قصيرة )
✍️ محمد مصطفى العمراني
هل ستصدقوني إذا أخبرتكم أنني فقدت عملي بسبب عصفور ؟! إنها قصة غريبة لن أنساها ما حييت وسوف أحكيها لكم :
القصة بدات عندما أشترى جيراننا عصفور ???? في قفص ولم يمض سوى أسبوع حتى رزقت بطفلي الأول ، لقد كان الطفل يبكي بشكل متواصل ، فكان أطفال الجيران يحملون العصفور إليه فيسكت عندما يراه ، وأحيانا كنا نطلب العصفور من جيراننا لكي نسكت به الطفل ، ومرت أسابيع على هذا الحال حتى أخبروني بموت العصفور فأحسست بالحزن يجتاحني لفراق هذا العصفور الجميل ، لقد كنت أراه حزينا صامتا ، لم أسمعه يوما يغرد أو يزقزق فرحا مثل تلك العصافير التي تزقزق فوق الشجر ، غير أنني مثل جيراننا لم أنتبه إلى سبب حزنه ، وهو أنه وحيدا في القفص . بعد موته أخبروني أن البائع كان قد حذرهم أن العصفور لن يعيش طويلا دون أنثى ترافقه ، لكنهم ظنوا أنه يحرضهم على شراء العصفورة الأخرى ليس إلا ، لو علمت بهذا التحذير لاشتريت له عصفورة تشاركه حياته ولكنني علمت بعد فوات الأوان .
فكرت بشراء عصفور وعصفورة لكي يتسلى بهم الطفل ويسكت عن البكاء وذهبت إلى محل بيع العصافير وتحدثت مع البائع وأخبرته أنني محتاج للعصافير بشدة لكي يسكت الطفل وعندما عرف القصة وحاجتي للعصافير طلب ثمنا أكبر مما توقعت فرفضت هذا الابتزاز ورفضت شراء عصافير .
أخبرت أطفال الجيران بحزني على موت العصفور فضحكوا علي ، قلت في نفسي : هم لا يعلمون بدلالات هذا الموت لدي كإنسان ولا بانعكاساته في مشاعري وأحاسيسي ، وتداعت إلى ذهني عشرات بل مئات القصص لأناس يموتون حزنا في سجونهم وفي غربتهم وفي منازلهم التي مهما كانت أنيقة لكنها تتحول إلى سجون واسعة لهم عندما يفقدون شريكة حياتهم ورفيقة دربهم ويبتعدون عن أنثاهم التي تجعل لحياتهم معنى وقيمة فيموتون عندما يفقدون الأمل بالحياة معها وتصبح حياتهم بغير معنى ويفقدون أسباب بقائهم في الحياة فيموتون بالحزن أو المرض أو الانتحار .
وذكرني موت العصفور بالنهاية المأساوية لأول عصفور أمتلكته عندما كنت طفلا حيث تمكنت من الإمساك به جوار منزلنا ولما لم أجد له قفص مناسب فقد بقيت ممسكا به في يدي وحاولت أمي إقناعي بإطلاق سراحه إلا أنني رفضت ، وظل المسكين في يدي طيلة ساعات إلا أن القط غافلني وهجم عليه وانتزعه من يدي وفر هاربا ، جريت وراءه ولكني وصلت بعد أن لفظ العصفور أنفاسه فحزنت عليه وبقيت أكن الكره الشديد لذلك القط الذي سلبني عصفوري .
لم تفارق خيالي صورة العصفور وهو جثة هامدة ، ووجدتني أعزف عن القراءة والكتابة وأفقد شهيتي وأتوقف عن العمل وأغلق هاتفي المحمول وألوذ بالصمت وانداحت في مخيلتي أفكار وهواجس وخواطر حول الموت وتفاهة الحياة وكيف فقد الكثير من الناس مشاعرهم وصار من يتألم لموت العصفور شخص غريب عن المجتمع وموضوع للتندر ومثار للضحك والسخرية .
وفي اليوم الثاني أتصلت بالمؤسسة واعتذرت عن الحضور لأني متعب وبقيت لأيام متغيب عن الدوام لأيام فأتصل المدير بالمنزل يستفسر عما جرى لي فأخبرته بأنني مرضت وسوف أعود إلى العمل ولكنه لم يقتنع بهذا العذر ولذا فعندما ذهبت إلى المؤسسة طلبني المدير على الفور وسألني عن سبب تغيبي فأخبرته بقصة العصفور فلم يصدق ما سمعه مني . لست أدري كيف غلبتني مشاعري وجاشت أحاسيسي في مكتب المدير فإذا بي أجهش بالبكاء وسط ذهول المدير الذي أرتبك وأسرع يواسيني ويقدم لي المناديل الورقية والماء .. ـ وحد الله يا أستاذ محمد حصل خير .. نصحني المدير بدوره بالذهاب إلى طبيب نفسي فأنا بنظره شخص غير طبيعي وقد رفضت هذا الأمر بشدة واعتبرته إهانة لمشاعري الفياضة فأنا إنسان له قلب ومشاعر وأحاسيس يؤلمه فراق عصفور . وحاول المدير أن يوضح لي أنني قد بالغت في الأمر كثيرا فالعصافير تموت كل يوم وموتها أمر طبيعي ولا يستحق كل هذا الحزن والبكاء والتوقف عن العمل لكنني لست أدري كيف ركبت راسي وعاندت وقمت بالرد عليه بكل قسوة واتهمته بانعدام المشاعر والأحاسيس وإذا به يفقد أعصابه ويصرخ في وجهي : ـ روح يا مجنون اتعالج وبعدين تعال اتكلم .. ولم أتحمل هذا الاتهام بالجنون فقذفته بقنينة الماء فقذفني بمنفضة السجائر التي وقعت على وجهي فسال الدم من أنفي فهجمت عليه واشتبكنا بالأيدي وهرع الزملاء يفضون الاشتباك ويدفعونني خارجا فعدت إلى منزلي وأنا أمسح أثار الدماء وأتوعد المدير بالتشهير والمقاضاة . وفي اليوم الثاني أبلغوني بقرار فصلي من المؤسسة وأن المدير أقسم الأيمان المغلظة لو وجدني بالمؤسسة فسوف يكسر رجلي قائلا بسخرية : ـ خلو العصفور ينفعه هذا الحساس . لقد فقدت عملي .. وحاول زملائي بعد ذلك التوسط لي عند المدير لأعود إلى العمل إلا أنه رفض بشدة وهدد من يحاول فتح موضوعي بالعقوبة والخصم من راتبه فلم يتحدث عني بعد ذلك أحد ، وهكذا راح عملي بسبب العصفور وبسبب مشاعري التي زادت عن حدها وانقلبت إلى ضدها ومضى وقت طويل حتى وجدت العمل المناسب ، ومن يومها حرمت دخول العصافير منزلي ورزقي ورزقها على الله .