قلتُ في دراسة أخيرة لم تنشر بعد: المعتزلة عقل الإسلام، والفلاسفة لسانه، والسلفيون ذاكرته، والصوفيون قلبه. في قراءة شاملة، غير متحيزة لمنظومة الفكر الإسلامي على سبيل الإجمال، وبالطبع لم أتكلم هنا عن الأشاعرة، لكونها مدرسة أخذت من هؤلاء جميعا، ولم تتفرد بمنهج واضح كما تفردت هذه المدارس، ومن يتأمل في اتجاهات المؤسسين الأوائل: الأشعري، الباقلاني، الجويني، الغزالي يجد أنَّ كلا منهم قد مال إلى مدرسة مغايرة للآخر، مع حفاظهم على الإطار العام لمدرستهم، وهذا ليس موضوع حديثنا هنا.
لا غنى لأي إنسان عن التصوف مهما كان اتجاهه؛ بل مهما كانت عقيدته، التصوف بما هو روح وترقٍ، لا التصوف الخرافي. علمًا أن التصوفَ هنديُّ المنشأ، انتقل إلى اليهودية فالمسيحية فالإسلام، وتلونَ داخل كل ديانة بلونها الخاص، ومع مرور الوقت تعددت الألوان والمدارس داخل كل ديانة، فمثل بروحانيته ملجأ نفسيا أمام عواصف الحياة ومعضلاتها. وقد أفاض المؤلفون فيه القول كثيرًا. وشخصيًا ثمة هواجس تساورني بين الحين والحين أني سأختمُ حياتي متصوفا، وهذا ليس جوهر ما نريده هنا أيضا.
ما نود الإشارة إليه هنا هو التصوف الأبيض الذي أفسدته السياسة وأحالت نضَارةَ روحه يبابا وخرابا..! فأحالته إلى تصوفٍ أسود، متأثرًا بالتشيع الأسود..!
منذ سنوات تجري هندسة نسق ديني آخر على مستوى المنطقة، كما تم هندسة النسق الشيعي، لتوظيفه سياسيا، بصرف النظر عن الأساس السياسي لفكرة التشيع التاريخي. يمثل هذا النسق فيما يمثلُ رافدًا سياسيا ودينيا لنظيره الشيعي، وتدعيما معنويا على الأقل إن لم يكن ماديا في حال بدأ الكيان السني يتخذ موقفا صارما تجاه هذه الألاعيب الدولية، علما أن جزءا من التصوف محسوب على الكيان السني، وثمة تصوف شيعي آخر، لكن مع هذا فحتى التصوف السني في خدمة التشيع، بقصد أو بدون قصد.
تاريخيا بقدر ما كان للتصوف من إيجابيات كانت له أيضا سلبيات، وسلبيات قاتلة، خاصة فيما يتعلق بالاحتلال منذ الحروب الصليبية وحتى العصر الحديث، وفي قصص نابليون بونابرت مع متصوفة مصر أثناء احتلاله لها الكثير مما يستحق الوقوف عنده، وأيضا مع البريطانيين الذين أعقبوه، وأحيل القارئ الكريم لقراءة مذكرات أحمد شفيق باشا، وأيضا كتاب الصوفية والسياسة في مصر للدكتور عمار علي حسن، وغير هذين الكتابين من الكتب التي فصلت الدور السلبي للصوفية في ممالأة المحتلين، مع الإشارة هنا إلى الدور الإيجابي للصوفية في بلاد المغرب في مواجهة الاحتلال الفرنسي.
وفي الوقت الراهن لا يزال الحال من بعضه، فالصوفية، أو قل جزء كبير منها تمثل اليوم واحدة من الألاعيب الاستخباراتية الكبيرة، وهي تطبخ على نار هادئة، ولن نسلم من شررها يوما ما، كما هو الشأن مع الشيعة الخمينية التي تم الإعداد لها منذ أربعين عاما وأكثر وها هي المنطقة العربية اليوم كلها ملتهبة من هذا الشرر المدمر، ولو قال قائل قبل ثلاثين عاما فقط أن الخمينية الإيرانية ستمثل السرطان الأكبر للمنطقة لرد عليه المستمع أن ذلك من المبالغة والتهويل؛ بل في اليمن لو قال قائل ما قبل عشرين عاما فقط أن ضباع مران العرجاء ستهشم رأس علي عبدالله صالح وستدخل القصر الجمهوري لاتهمنا القائل بالهرطقة والتجديف، مع أن ملامح مشروعهم كان واضحا، أو شبه واضح على الأقل. وعمليا فقد كان هناك من يحذر من ذوي الحس المستقبلي، ولكن لا مجيب..! الأمر ذاته اليوم مع التصوف، مع القلوب والجيوب المدعومة خارجيًا، وفق أجندات لعينة، أجزم أننا سنجني ويلاتها بعد حين كما نجني كوارث الشيعة اليوم. وها نحن نحذر وننبه اليوم، ولكن أيضا لا مجيب..!
التصوف الأبيض والتشيع الأسود وجهان لعملةٍ واحدة. ولله در مصر ورجال مصر عبر التاريخ أزالوا دولة التشيع من وقتٍ مبكر، وطهروا بلادهم من رجس الفاطميين، فأصبحوا أثرا بعد عين، ومن يتأمل في تاريخ مصر منذ سبعة آلاف عام وحتى اليوم يجد أن الشّعبَ المصري لم يقم بالثورات خلال تاريخه الطويل هذا كما فعل مع الفاطميين. ومن يرجع إلى كتاب ثورات المصريين في العهد الفاطمي للدكتور محمود خلف يدرك ذلك بوضوح. ولو كان هُيئ للشعبين اليمني والعراقي نسختان من صلاح الدين الأيوبي لكان الأمرُ مختلفًا تماما، ولننظر إلى فارق الحال اليوم بين اليمن والعراق من جهة، ومصر من جهة أخرى. كل ذلك عائد إلى عظمة القائد الذي يمتلك حسًا مستقبليا عاليا، يستشعر الأخطار قبل وقوعها. ورحم الله الرئيس محمد حسني مبارك الذي كان له موقف حدي صارم من الشيعة، وكان يستخطرُهم كما يستخطرُ إبليس وأشد، فحافظَ على هوية مصر خلال فترة رئاسته كاملة من أي اختراق شيعي في بلده.
تجري عملية "تصويف سياسي" بوتيرة متسارعة في أرجاء المنطقة برعايةٍ استخباراتية لم تعد خافية على المهتمين بهذا الشأن، غير أن سَاستنا الكبار لا يزالون في سُباتهم نائمين، رغم أنّ أجراسَ الخطر قد قُرعت. وقد نصحو في يوم ما على كارثةٍ جديدة، كما صحونا على كارثة التشيع التي نعيش تفاصيلها اليوم. وللمزيد من الاستزادة في هذا الموضوع المهم العودة إلى موقع مؤسسة راند الأمريكية، بالنسختين العربية والإنجليزية.