تبلى الأفكار والمفاهيم والتصورات مثلما تبلى الثياب وغيرها من المواد المستخدمة ، لكن ما يهم هو أن تجديد الأفكار والمفاهيم يظل مبدءًا ضرورياً ومعطىً ثابتاً لتستمر الحياة بصورة أفضل!
ذلك ربما ما أعتقد أن إبن حضرموت (أحمد عبيد بن دغر) فطن إليه بوعيٍ أو بدونه ، لكنه سار وفق هذا النهج سواء بمشيئه أو بحتمية الظروف من حوله.
يختلف كثيرون حول بن دغر ، الرجل الذي لم يترك السياسة ولم تتركه منذ ستينيات القرن الماضي إلى اليوم ، ويتهمونه بالقفز من قارب إلى آخر ، غير أنني أرى من موقعي كصحفي مراقب ماهو أكثر من ذلك ، وهو أن بن دغر كان يتقن فن ركوب الأمواج وليس فقط القفز من مركبٍ إلى آخر.
قد لا يكون في الأمر أي انتهازيه ، إذ ما لم تكن السياسة أن يقرر صاحبها أن يكون في التوقيت المناسب في المكان الذي يوفر له المصلحة والأمن ويحقق له طموحاته فماذا عساها أن تكون؟
الفرق بينه وبين آخرين يبدلون مواقفهم هو أن بن دغر يفعل ذلك بذكاء واضح ومرونة بالغة وبتبريرات فيها من المنطق قدر ما فيها من السياسة.
إنه شخصية إشكالية دون شك ، إنتقل من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين ، لكنه فعل هذا وهو يعتقد أنه يمسك بذات الراية .. راية الثورة والجمهورية والوحدة ، وحيث ما وجد المعسكر الذي يزرع فيه رايته لا يتردد في الذهاب إليه.
لم يكن بيني وبينه أي صداقة في كل المراحل ، غير أنني أدركت أنه سياسي حاذق مثلما هو تفهّم أنني صحفي مخلص لمهنتي ، وعلى هذا الأساس نظر كل منا إلى الآخر بكل احترام ولو من دون حسن ظن شديد.
عرفت من ساسة حضرموت واليمن عموماً خلال أربعين عاماً من حياتي المهنية من هم أرفع منه منصباً ، وأكثر منه جاهاً ، لكنني أريد هنا أن أضعه تحت مجهر صحفي لم ولن يرجو منه شيئاً أو يخاف منه على أي شيئ .
صحيح أن تجربته في اليسار الاشتراكي جنوب البلاد إتسمت بقدر من الاندفاع والتهور ، لكنه لم يكن الوحيد من (شباب) حضرموت الذين افتتنوا بالشعارات التي رفعتها الجبهة القومية في ستينيات القرن الماضي ، وكان لتلك الفترة منطقها الذي اتصف أحياناً بالعنف والتطرف!
أما عقب الانتقال إلى مرحلة الوحدة بعد العام 1990 فقد بدى أنه يتمتع بواقعية سياسية معاصرة ، لكنها لم تكن كذلك تماماً بل تنطوي على قدرٍ من البرجماتية أيضاً.
وعلى جنبات هذا الطريق الطويل منذ الستينيات إلى اليوم تساقط كثيرون من رفاقه ، وظل بن دغر في صدارة المشهد ، بل في قلب السلطة بتعبير أكثر صراحة!
الساعات القليلة التي جلست فيها إليه في كل من القاهرة وجنيف وبرلين خارج لقاءاتي الصحفية معه ، وقد أصبح رئيساً للوزراء كانت كافية لأن أشكل إنطباعي الخاص عنه.
في المرة الأولى ، سألته كيف استطاع الرئيس الراحل علي عبدالله صالح الألتفاف عليكم في قيادة المؤتمر الشعبي العام ، والدخول في تحالف من وراء ظهوركم مع الحوثيين.. كان جوابه " لقد أدركنا ذلك ، وصارحناه به ، ولم يمانع من تشكيل لجنة لتقييم العلاقة مع الحوثيين ، ولكن الوقت كان قد أصبح متأخراً للمراجعة".
حدثني عن (دراما) هروبه من صنعاء مع عائلته عبر الطريق الطويل الممتد من صنعاء عبر مأرب إلى سيؤون ثم إلى سلطنة عمان ، وكيف نجا من موتٍ محقق من قبل أناسٍ أرادوا استهدافه عن قصد ، أو أنهم كانوا مجرد قطاع طرق .. ولم يكن هنا ما يؤكد على نحو الدقة صحة روايته!
أكد لي أنه لم يكن ينوي التوجه نحو السعودية ، بل الاستقرار في عمان ، ولم يقبل الذهاب إلى الرياض إلاّ بشروطه ، وفي هذا لم أر في ذهابه إلى عمان بدلاً من البقاء في سيؤون إلاّ محاولة للانتقال إلى الرياض بصفقة أفضل !
أما في المرة التالية فقبل أن التقيه فيها فقد اعتذر بشدة عن إجراء لقاء معه على هامش مؤتمر المانحين في جنيف ، لكنه وافق على أن التقيه لا حقاً في برلين عقب لقائه بالسفراء اليمنيين في أوروبا.
وقد فوجئت بعدها في برلين أنه حاول التملص من إجراء الحديث ، وفهمت منه أن أحد السفراء (الكبار) ذهب إليه لتحذيره من أي حديث معي .. هذا ما قاله لي بنفسه!
إلاّ أن ما اتضح لي بعد ذلك هو أنه فعل هذا ليس استجابة لتحذيرات السفير (الكبير) بل لتقديراته هو بأن لا يدلي بأي حديث لأي من وسائل الإعلام تجنباً لما قد يزيد من تعكير المياه العكرة حينذاك مع دول التحالف وحتى مع الرئيس عبد ربه منصور هادي الذي كان يتعامل مع بن دغر بطريقة لا تثير هواجسه تجاهه.
ومع ذلك فقد أقاله هادي لاحقاً ، وأحاله للتحقيق بعد ما أعتبر أنه أفضل موقف وطني سجله بن دغر في حياته عندما رفض مغادرة جزيرة سقطرى قبل مغادرة القوات الإماراتية لها.
أما الامر الآخر اللافت في ما وجدته فهو أن جميع سكرتاريته كانوا شباباً من مختلف أنحاء اليمن ، شماله قبل جنوبه .. أمرٌ لا يخلو من دهاء ، خلافاً لسذاجة غيره الذين لا يحيطون أنفسهم بأبناء منطقتهم فحسب ، بل بأبنائهم المدللين وأقاربهم المقربين فقط.
بن دغر ليس أذكى سياسي يمني من حضرموت ، لكنه بالتأكيد لم يكن غبياً كآخرين ، لقد أمسك بالعصى من منتصفها ، ورقص طوال عقود أكثر من سواه ، في الجنوب ، وفي الشمال ، وأخيراً في المنفى!
